لا يزال سكان جربة يتداولون قصة شجرة الزيتون التي ابتلعتها الأرض في 7 جانفي/يناير 2024 وأثارت عديد نقاط الاستفهام والكثير من الحيرة والتساؤلات حول اللغز الذي يقف خلف ذلك.
وتعود أطوار الحادثة إلى استفاقة أفراد إحدى الأسر بمنطقة الرياض في جزيرة جربة على حفرة بعمق 15 مترًا وعرض 3 أمتار، دون أثر لشجرة زيتون كانت متواجدة هناك، ليذيع إثر ذلك الخبر على منصات التواصل الاجتماعي، وتختلف الروايات بخصوص الحادثة، لعلّ أبرزها القائلة إنّ الموضوع يتعلق ببحث عن الكنوز.
لا يزال سكان جربة يتداولون قصة شجرة الزيتون التي ابتلعتها الأرض في 7 جانفي 2024 وظهور حفرة بعمق يناهز 15 مترًا، ما أثار عديد نقاط الاستفهام والكثير من الحيرة والتساؤلات حول اللغز الذي يقف خلف ذلك
بَيْدَ أنّ العائلة نفت ذلك في تصريحات إعلامية، فيما رجّحت المصالح الجهوية الرسمية في تصريح لإذاعة تطاوين (عمومية) أن تكون شجرة الزيتون قد تم غرسها في أرضٍ توجد تحتها بئر قديمة أو داموس وبفعل الأمطار تهاوت الطبقات الأرضية وابتعلت الأرض الزيتونة.
(فيديو متداول على منصات التواصل الاجتماعي)
حادثة تفتح الباب على الخصوصيات العمرانية المميزة لجزيرة جربة، إذ يرى الدكتور المنصف بربو صاحب كتاب "العمران في جربة في العهد الوسيط "، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنّ الحفرة قد تكون بئرًا عميقة ولا يمكن أن تكون داموسًا، لأنّ الدواميس لا يتجاوز عمقها مترين ويخصص لـ"الخزين" المتعلق بـ"عولة" الحيوانات والأعلاف وغيرها.
المختص في علم التراث المنصف بربو لـ"الترا تونس": الفرضية الأقرب إلى الواقع أن يكون ظهور الحفرة مرتبطًا بوجود بئر عميقة ولا يمكن أن تكون داموسًا لأنذ الدواميس لا يتجاوز عمقها مترين بينما الحفرة يناهز عمقها 15 مترًا
وبين محدثنا أنّ الفرضية الأقرب إلى الواقع أن يكون ظهور الحفرة مرتبطًا بوجود بئر، لأن منطقة الرياض وغيرها من المناطق البعيدة عن ساحل الجزيرة كانت تحتاج لبئر عميقة حتى يتحصل سكانها على مياه على عكس المناطق القريبة من الساحل والتي تحفر على عمق مترين أو 3 أمتار فتخرج المياه.
وأفادنا الدكتور المنصف بربو بأنّ هذه الحادثة ليست الأولى، وأنّه كان شاهدًا على حوادث أخرى مماثلة ومنها وجود معاصر مدفونة تحت الأرض، ونظرًا لخصوصية الجزيرة التي تتميز بتربة رملية، فإنّ العوامل الطبيعية كالأمطار تجعلها قابلة لمثل هذه التحركات الأرضية.
وبيّن الدكتور المتخصص في علوم التراث أنّ أبحاثه التي جمعها في كتاب ضخم نشره في باريس مؤخرًا كشفت أنّ جزيرة جربة هي المنطقة الوحيدة في تونس التي لم تكن بها بلدة تجمع كل سكانها في مركز محدد يقصده كل الأهالي، بل تميزت بأنّها قائمة على "الحْوِم" (جمع حومة وهي تعني الحيّ) المتفرقة فكل "حومة لديها اسمها وجامعها وأهلها ومعالمها وعندها خصوصيتها".
المختص في علم التراث المنصف بربو لـ"الترا تونس": كنت شاهدًا على حوادث أخرى مماثلة ومنها وجود معاصر مدفونة تحت الأرض ونظرًا لخصوصية الجزيرة التي تتميز بتربة رملية فإنّ العوامل الطبيعية كالأمطار تجعلها قابلة لمثل هذه التحركات الأرضية
أما الأسباب التي تقف وراء هذا التقسيم، ذكر محدث "الترا تونس" أنّ أوّلها طبيعي، بمعنى أنّ الماء نادر ولا يمكن أن يجتمع السكان في جهة واحدة، وكانوا في سعيٍ دائمٍ لحفر الآبار، وهو ما جعل جربة زاخرة بآلاف الآبار القديمة، فالحومة قائمة أساسًا على الماء، وإذ ما نضب الماء تتحول حومة بأكملها لتستقر في جهة أخرى.
أمّا السبب الثاني، فهو مرتبط بالجانب المذهبي، فالجزيرة عرفت باعتناق الإباضية وهي مذهب معارض للمذهب السني، وكان السكان مطاردون من السلطة المركزية التي كانت في الغالب سنّيّة باستثناء الفاطميين الذين حكموا وهم شيعة.
ولأن الجزيرة تفتقد للجبال وهي أرض مسطحة، كان المتساكنون مشتتين، وهذا التشتت ساعدهم ومثّل لهم عاملًا استراتيجيًا أمنيًا حتى لا تتم السيطرة عليهم، وهو ما يفسر وجود السراديب تحت الأرض.
وأشار الباحث المتخصص في علوم التراث إلى أنّ كل عائلة حاولت أن تخلق حومة في منزلها، فالمنزل الجربي كان يحتوي على "الحوش" الذي يضمّ المسكن والبئر والداموس والأرض الفلاحية وكان محميًا بـ"الطابية" (غراسات التين الشوكي) التي تحيط به.
المختص في علم التراث المنصف بربو: المنزل الجربي كان يحتوي على "الحوش" الذي يضمّ المسكن والبئر والداموس والأرض الفلاحية وهو ما يفسر كثرة السراديب والدواميس والآبار في جربة
ويرى أنّ ذلك ما يفسر كثرة السراديب والدواميس والآبار في جربة، معتبرًا أنها "مكان مختلف تمامًا عن جهات تونس، وسكانها مثلوا أقلية عرقية أمازيغية بربرية ومذهبية على اعتبار أنهم من الخوارج، واستطاعوا تأسيس تنظيم خاص بهم عرف بنظام العزابة ظهر في القرن 11 ميلادي، وهو تحت امرة مشايخ الإباضية الكبار، وكان نظام الحكم عسكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وكأنّها دويلة داخل الدولة، فهي نموذج للحكم المحلي ولم تستطع السلط المركزية القضاء عليها إلا بعد 7 قرون (في القرن 18)، وفق تصوره.
ويؤكد محدثنا أنّ "جربة حظيت بالاهتمام على المستوى البحثي التاريخي والتراثي، لكنها ما تزال منجمًا كبيرًا للاستكشاف لأنّ هذه الجزيرة الصغيرة كبيرة جدًا في تاريخها، وكل الحضارات التي مرت بالبلاد التونسية حطت في جربة وكان لها الأثر لأنّ موقعها استراتيجي منفتح على البحر المتوسط وعلى الصحراء، وأنّ هناك شواهدَ تؤكد وجود الإنسان في الجزيرة في فترة ما قبل التاريخ وخاصة ما يسمى فجر التاريخ.
المختص في علم التراث المنصف بربو: جربة حظيت بالاهتمام على المستوى البحثي التاريخي والتراثي، لكنها ما تزال منجمًا كبيرًا للاستكشاف لأنّ هذه الجزيرة الصغيرة كبيرة جدًا في تاريخها، وكل الحضارات التي مرت بالبلاد التونسية حطت فيها
ويتأسف الدكتور منصف بربو لعدم التسويق للبحوث حتى يطلع عليها الرأي العام وبقيت صورة الجزيرة نمطية "البحر والسباحة"، ويرى أنّ سلطة الإشراف لم تغيّر سياستها في التسويق لهذه المدينة من الناحية الثقافية التاريخية وحافظت على الصورة النمطية.
كما شدد على أنّ المواقع الأثرية في جربة كـ"مينانكس"، قلالة، "بورقو"، لم يبقَ منها شيء، مضيفًا: "من حسن الحظ أنّ كثيرًا منها لا يزال مدفونًا تحت الأرض وليس لدينا إمكانيات لإخراجها"، ومعتبرًا أنّ بقاءها تحت الأرض أفضل لها وأكثر حماية، فهناك مدن بأكملها مطمورة، على حد تقديراته.
وكشف الباحث المتخصص في العلوم التراثية أنّ عشرات الجوامع الأثرية الإسلامية في جربة والتي جمعها الباحثون وحدّدوا مواقعها وأسماءها اندثرت إمّا لغياب الصيانة أو بسبب عبث الباحثين عن الكنوز.