مقال رأي
فاجأ رئيس الجمهورية قيس سعيّد أغلب القوى السياسية الممثلة في البرلمان عندما ضرب عرض الحائط بجميع اقتراحاتها المتعلقة بالمرشح لرئاسة الحكومة لخلافة إلياس الفخفاخ المستقيل. فحسب الأسماء المقترحة، كانت الكفة راجحة لصالح الفاضل عبد الكافي، مرشّح النهضة وقلب تونس إضافة إلى أطراف أخرى، للحصول على أغلبية مريحة لدى منح الثقة. ولكنّ رئيس الجمهورية اختار هشام المشيشي، مستشاره القانوني السابق، لشغل هذا المنصب واضعًا بذلك البرلمان بين خيارين صعبين: إما منح الثقة لحكومة المشيشي مهما كانت تركيبتها، أو مواجهة خطر الحل.
تعالت بعض الأصوات لتندٌد بهذا الخيار الذي يتجاهل ترشيحات الكتل البرلمانية ويجعل من المشاورات إجراء شكليًا بحتًا، وهي كانت كذلك فعلاً. طلب رئيس الجمهورية من ممثلي الشعب، بشكل رسمي جامد، تقديم ترشيحاتهم بشكل كتابي في ظرف أسبوع، ثم لم يأخذها بعين الاعتبار. ولكن رغم اقتصار المشاورات على الجانب الشكلي، فإن اختيار رئيس الجمهورية كان متلائمًا مع الدستور الذي لا يجبره على الالتزام بنتيجة هذه المشاورات، ورئيس الجمهورية لا يجهل ذلك، وهو رجل القانون الدستوري.
يبدو أن ردود الفعل الغاضبة تجاه اختيار رئيس الجمهورية لها أسباب أعمق من مجرد تجاهل اقتراحات الأحزاب
لكن يبدو أن ردود الفعل الغاضبة تجاه هذا الاختيار لها أسباب أعمق من مجرد تجاهل اقتراحات الأحزاب. فاختيار رئيس الجمهورية ربّما كان يضع حدّا لمناورة سياسية تحاك خيوطها منذ الفترة السابقة لانتخابات 2019.
لنذكّر ببعض الوقائع التي قد تبدو عديمة/قليلة الصلة، قبل أن نقدّم فرضية تحاول إيجاد الخيط الرابط بينها:
* توافق النهضة وقلب تونس على ترشيح راشد الغنوشي لرئاسة البرلمان
* ترشيح النهضة لحبيب الجملي لرئاسة الحكومة وفشله في نيل ثقة البرلمان
* ترشيح النهضة وقلب تونس لفاضل عبد الكافي لرئاسة الحكومة بعد عدم حصول حكومة الجملي على ثقة البرلمان
* إصرار النهضة على توسيع الحزام السياسي لحكومة الفخفاخ ليشمل قلب تونس
* ترشيح النهضة وقلب تونس لفاضل عبد الكافي لخلافة إلياس الفخفاخ
قبل الانتخابات البرلمانية لسنة 2019، كانت كل نتائج سبر الآراء تشير إلى أنّ حزبي النهضة وقلب تونس سيحتلان المرتبتين الأوليين. ركّز كل حزب منهما على العداء للآخر في حملته الانتخابية، وكال التهم له: النهضة تتهم قلب تونس بالفساد وتبييض النظام السابق وهو يتهمها بالتطرف ودعم الإرهاب. نفى كلّ من الطرفين أيّ إمكانية للتحالف مع الآخر، واستمرت هذه التصريحات النافية حتى بعيد الانتخابات. لكن هل كان هذا العداء حقيقيًا؟
لنتذكر أن آري بن ميناشي في ذلك الفيديو الشهير (الذي لا أدري لماذا نُسي ولم يتبعه تحقيق جدّي) صرّح أنه اقترح على القروي التحالف مع النهضة ومساعدته في هذا الصدد، وأن القروي تحمّس لذلك. لنتذكر أن الحملة الانتخابية في 2014 قامت على العداء المتبادل بين النهضة ونداء تونس والقول باستحالة التحالف بينهما، قبل أن يتحالفا فعلاً، وربما وُضعت أسس هذا التحالف منذ اتفاق باريس سنة 2013 بين المرحوم الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. لنتذكر، ولعلّ هذا هو الأهم، أنّ راشد الغنوشي ترشح للانتخابات البرلمانية في 2019.
ما أرجّحه هو أن اتفاقًا عُقد بين النهضة وقلب تونس قبل انتخابات 2019. يتعلّق هذا الاتفاق باقتسام الحكم بين الطرفين
ما أرجّحه هو أن اتفاقًا عُقد بين النهضة وقلب تونس قبل انتخابات 2019. يتعلّق هذا الاتفاق باقتسام الحكم بين الطرفين، في توافق جديد يشبه ما حصل بين النداء والنهضة في 2014، مع متغيّر هام: لا بدّ من ضمان رئاسة البرلمان لراشد الغنوشي مهما كان الأمر. أما رئاسة الحكومة، فيمكن أن تمنح لشخصية مستقلة قريبة من قلب تونس. أمّا رئاسة الجمهورية، فلم تكن تدخل في اهتمامات النهضة، وإن كانت طموحًا شخصيًا للقروي، ولم تشملها على الأرجح بنود الاتفاق. كان من الواضح أنه لا يمكن للغنوشي أن يكون رئيسا للجمهورية، فالاقتراع على دورتين يجعل الجميع يتكتلون ضدّه في الدور الثاني. ثمّ أن صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة للغاية، إذ حرص المجلس التأسيسي، الذي كان حضور النهضة فيه مؤثرًا، على التقليص منها.
كان التصوّر القائم أنّه يمكن للغنوشي أن يلعب دورًا بارزًا، أو حتى الدور الأوّل، في سياسة البلاد، انطلاقًا من رئاسة البرلمان الذي يمكن اعتباره المؤسسة المركزية في البناء الدستوري لـ2014.
كان العداء بين النهضة وقلب تونس في الحملة الانتخابية سنة 2019 "ماعون صنعة". كل الانتخابات التي تلت 2011، كانت تُلعب بين النهضة وقطب مضاد لها. من مصلحة النهضة أن يكون القطب المضاد لها طرفاً يمكن التفاهم معه، ومن مصلحة قلب تونس أن يكون هو هذا القطب حتّى يتمكن من حشد الأصوات حوله. تم استغلال هذا العداء الظاهري باقتدار.
لم تنافس حركة النهضة بجدية في الانتخابات الرئاسية، وكان من الواضح أنّ حملة عبد الفتّاح مورو تدار بكثير من البرود، ذلك أن ترشيحه لم يكن قطّ بهدف المنافسة الجديّة. نتيجة الدور الأول من الرئاسية مكنت من استغلال العداء الظاهري إلى أبعد حد.
تجندت قوى النهضة لمساندة قيس سعيّد زاعمة أن فوزها في التشريعية سيكون أكبر دعم لمشروع هذا المرشّح النزيه في مواجهة الفساد، أمّا قلب تونس، فقد هاجم قيس سعيّد باعتباره "المرشّح الخفي للإخوان". حصل الحزبان على المرتبتين الأولى والثانية، وفاز قيس سعيّد في الدور الثاني للرئاسية بسهولة. ولعلّ أكبر خطأ في الاتفاق بين النهضة وقلب تونس كان في "السماح" بفوز مرشّح في الرئاسية لا يمكن التفاهم معه أثبت فيما بعد أنّ صلاحياته القليلة بعيدة التأثير.
كان التصوّر القائم أنّه يمكن للغنوشي أن يلعب دورًا بارزًا، أو حتى الدور الأوّل، في سياسة البلاد، انطلاقًا من رئاسة البرلمان
أوّل اختبار تعرّض له الاتفاق تمثّل في انتخاب رئيس البرلمان. كان من الضروري طبعًا أن يصوّت قلب تونس لصالح راشد الغنوشي، ولكن ذلك كان يمكن أن يكون مخاطرة بفضح الاتفاق. وفعلاً، كانت هناك الكثير من الأصوات المستنكرة التي ندّدت بتقارب عدويّ الأمس القريب. فاز راشد الغنوشي برئاسة البرلمان، وتم الترويج لخرافة "انفصال المسارين البرلماني والحكومي"، وكانت صعبة التصديق.
لماذا يصوّت قلب تونس لصالح الغنوشي مقابل منصب ثانوي (النائبة الأولى لرئيس المجلس)؟ لإضفاء مصداقية أكبر على هذه الخرافة، جاءت حكومة الحبيب الجملي، التي كانت المناورة الأكبر في سبيل تنفيذ الاتفاق بين النهضة وقلب تونس.
كانت النهضة مدعوة بصفتها الحزب الأوّل إلى تقديم مرشٌحها لرئاسة الحكومة. كان لها من شخصياتها البارزة من يمكن ترشيحه لهذا المنصب (عبد اللطيف المكي، زياد العذاري...)، كما كان لها من التكنوقراط المقربين منها من يمكنه أن يكون مرشّحاً له وزنه (المنجي مرزوق مثلاً). لكنّها اختارت بشكل مفاجئ الحبيب الجملي مرشّحًا.
لعلّ الصورة الظاهرة حينئذ تمثلت في وجود خلافات داخل مجلس الشورى، وبدا كأنّ الجملي كان الشخصية التي حازت داخله مقدار التوافق الأدنى المطلوب. لكن في الحقيقة، أثبت الحبيب الجملي طوال الفترة التي سبقت جلسة منح الثقة على البرلمان أنه بعيد كل البعد عن كونه الشخصية الأمثل لرئاسة الحكومة. أثارت تصريحاته موجات من التندّر أمّا طريقته في اختيار الوزراء فلم تخضع إلى أيّ منهجية. لم يحز الجملي على ثقة البرلمان، ولم تأسف النهضة على ذلك. ذلك أن الجملي لم يكن مرشحًا جديًا. كان ترشيحه فقط قصد الإلهاء عن الاتفاق المبرم مع قلب تونس.
إثر سقوط حكومة الجملي، دعا رئيس الجمهورية الأحزاب إلى تقديم مرشّحيها لرئاسة الحكومة، كما يقتضي الدستور. من المثير للانتباه أنّ كلاً من حركة النهضة وقلب تونس قدّما عددًا من الأسماء، ولكنّ الاسم الوحيد المشترك كان الفاضل عبد الكافي. كان من المستغرب ألا تقدّم النهضة اسمًا بارزًا مثل المنجي مرزوق ضمن مرشّحيها، ولكن السبب كان لذلك دواعيه: المنجي مرزوق مشهود له بالكفاءة حتى لدى أطراف من خارج النهضة، ولو تمّ اقتراحه فسيتم النظر إلى ترشيحه بجدية، في حين أن النهضة لم تكن ترغب في تقديم مرشّح قد يفسد كل الاتفاق مع قلب تونس الذي نفّذ المطلوب منه في الصفقة وصوّت لصالح الغنوشي رئيسًا للبرلمان.
كان عبد الكافي هو الاسم الذي تتم به الصفقة، فهو قريب من قلب تونس ومرضيّ عنه من النهضة. كان الطرفان يتصوّران أنهما بوصفهما الكتلتين الأكبر حجمًا في المجلس، وبفعل ترشيح أحزاب أخرى لعبد الكافي، أنهما سيفرضان على رئيس الجمهورية اختياره لرئاسة الحكومة، فقد كان نظريًا الشخصية المرشّحة من أكبر عدد من النواب.
كان عبد الكافي هو الاسم الذي تتم به الصفقة، فهو قريب من قلب تونس ومرضيّ عنه من النهضة
ولكنّ قيس سعيّد فاجأ الحليفين باختياره إلياس الفخفاخ، الذي كان من أقلّ المرشحين حظًا باعتبار الأطراف التي رشّحته. ارتبك الحلف، فعدم التصويت للفخفاخ قد يعني حلّ البرلمان وانهيار الاتفاق برمّته. لذلك صوّتت النهضة لصالح منحه الثقة، ولكن يبدو أنّ العمل على إسقاط حكومته بدأ منذ نفس اليوم.
ما إن مرت أشهر قليلة على منح الثقة لإلياس الفخفاخ، حتى أتى ملف تضارب المصالح. في نفس الوقت تقريبًا، بدأت النهضة تروّج لإدخال قلب تونس في التحالف الحكومي، وإن بحجج واهية (كالقول إنه ليس من المعقول أن يكون الحزب الثاني خارج الحكم!). بغضّ النظر عن مآل قضية تضارب المصالح، منح الفخفاخ أعداءه حجّة قوية ضدّه. ربما كان عليه أن يستبق الأمور منذ البداية فيمحو كل شبهة فور تسلمه منصبه، إذ كان ينبغي أن يتوقّع أن ملفًا بهذه الحساسية سيوجّه بسهولة ضدّه.
لم يحسن الفخفاخ التعامل مع المسألة فوجد نفسه أمام خطر حجب الثقة عنه فسارع، بطلب من رئيس الجمهورية، إلى تقديم استقالته. طبعًا كان النهضة وقلب تونس يفضّلان أن يسحب البرلمان الثقة منه، فذلك يعيد إليهما زمام المبادرة، وكانت الأغلبية فيما يبدو مضمونة لصالحهما. وبما أنّ الدستور يقتضي أن يتم اقتراح رئيس حكومة في نفس جلسة سحب الثقة، لا أكاد أشكّ في أن المرشّح المقترح كان سيكون الفاضل عبد الكافي. لم يستسغ الحليفان استقالة الفخفاخ، التي أعادت زمام المبادرة إلى رئيس الجمهورية. لذلك سمعنا حديثًا عن إمكانية عقد جلسة للتصويت على الثقة على حكومة مستقيلة، وهو ما لم يكن يستقيم لا منطقًا ولا قانونًا.
لمّا عاد رئيس الجمهورية إلى المشاورات مع الأحزاب، رما الحليفان بكل ثقلهما لصالح مرشحهما. من يقرأ ترشيحات مختلف الكتل يدرك بسهولة أن الاسم الوحيد الذي يمكن أن يحوز على الأغلبية هو الفاضل عبد الكافي. كان الحليفان يتصوران أنهما يضعان رئيس الجمهورية أمام الأمر الواقع، إذ كان يبدو كأنه لا مناص له من اختيار عبد الكافي، غير أن قيس سعيّد اختار مرّة أخرى تجاهل الأمر الواقع وتكليف مرشّح من خارج اقتراحات الأحزاب الممثلة في البرلمان.
لم تقدّر النهضة وقلب تونس كون قيس سعيّد "غير مضمون". ربما كانا يعتقدان أنه كان يمكن إيجاد صيغة للتفاهم معه، أو على الأقل حشره في الزاوية
لم تقدّر النهضة وقلب تونس كون قيس سعيّد "غير مضمون". ربما كانا يعتقدان أنه كان يمكن إيجاد صيغة للتفاهم معه، أو على الأقل حشره في الزاوية بوضعه في مواجهة أغلبية برلمانية تجتمع وراء نفس المرشح لرئاسة الحكومة. ولكن قيس سعيّد أثبت أنه عصيّ على مثل هذه المناورات، فقد أبدى صلابة في موقفه جعلت تنفيذ بنود الاتفاق بين النهضة وقلب تونس صعبة للغاية.
لو قدّر الحليفان هذه الصلابة منذ البداية، لما كانا ليضحّيا بالتكليف الأول الذي مُنح للحبيب الجملي، إذ أنه بعد سقوط حكومة هذا الأخير، تمكّن رئيس الجمهورية من افتكاك زمام المبادرة وفرض خياراته في منصب رئيس الحكومة باقتراح الفخفاخ ثم المشيشي.
ربما لو أدرك الحليفان هذه الصلابة، لأسرعت النهضة بترشيح الفاضل عبد الكافي منذ التكليف الأول، حتى وإن خاطرت بكشف الاتفاق الحاصل مع قلب تونس وباستياء قواعدها.
الآن يجد التحالف نفسه أمام خيارات صعبة: رفض حكومة المشيشي قد يعني حلّ البرلمان، وهو ما ليس في مصلحة الحليفين لا سيما في ظلّ صعود قطب مضاد للنهضة لا يمكن التفاهم معه (الدستوري الحر). أما مرور حكومة المشيشي، فقد يعني انهيار الاتفاق بين النهضة وقلب تونس، مما قد يدفع هذا الأخير إلى التصويت على سحب الثقة من راشد الغنوشي.
يوجد كذلك سيناريو ثالث: التصويت مؤقتًا لصالح حكومة المشيشي، مع العمل على إسقاطها لاحقًا لأي تعلة، ولكن عن طريق لائحة لسحب الثقة هذه المرة تُرجع المبادرة إلى القوى البرلمانية في مواجهة رئيس الجمهورية.
اقرأ/ي أيضًا: