"تجربتي لم تكن كما توقعت، كنت أشعر أن خطوط الميدعة تتحول إلى قُضبان سجن يأسرني، أو حبل مشنقة يلتف حول حلمي ويسلبني إيّاه. قررت المغادرة لأنني لم أُزهر هناك، وليس ذاك بمكاني"، كلمات للتلميذة ياسمين إدريس والتي خاضت تجربة المعهد النموذجي ولكنها فرّت منه إلى أحضان المعهد العمومي متحدية مجتمعًا يعتبر هذا القرار انتحاريًا. كيف لا والجميع يتسابق من أجل الحصول على مقعد فيه ويغرس الآباء في أبنائهم هذا الحلم منذ أن يخطوا حروفهم الأولى. مسيرة شاقة ومنكهة يمر بها التلميذ لتحقيق هذا الهدف ولكن الضريبة قد تكون قاسية.
"ألترا تونس" فتح ملف المدارس النموذجية وهوس الآباء بالتميز المدرسي مع عدد من المتداخلين في الشأن التربوي وتجدون تفاصيله في هذا التقرير.
"كيف تغادرين ببساطة حلمًا سعى له الكثيرون؟"، هكذا كان يتساءل المحيطون بياسمين عن سبب تخليها عن مقعدها بالمعهد. معهد دخلته عن طواعية متحدية رفض الجميع، وغادرته عن طواعية أيضًا متحدية المجتمع، حسب ما أكدته لـ"الترا تونس".
التلميذة ياسمين إدريس لـ"الترا تونس": "التعليم النخبوي في تونس فاشل في صيغته الحالية، ونجح في خلق هوّة عميقة في صفوف التلاميذ"
تشارك ياسمين إدريس "ألترا تونس" تجربتها قائلة: "لم أر في المعهد النموذجي أمرًا نموذجيًا سوى في المستوى التعليمي للتلاميذ، ولا يختلف عن المعاهد الاُخرى في شيء سوى جودة تحصيل التلاميذ التي تعود لذكائهم وعملهم الجاد لا للظروف المحيطة بتاتاً".
وتقرّ محدّثتنا أن "التعليم النخبوي" في تونس "فاشل في صيغته الحالية، ونجح في خلق هوّة عميقة في صفوف التلاميذ"، على حد تعبيرها. وفي مقارنة بين مختلف المعاهد تقول ياسمين: "تلاميذ النموذجي في برجهم العاجي شبه معزولين عن العالم الخارجي، يُقولبون عمومًا إلاّ من غرّد خارج السرب. وتلاميذ المعاهد الأخرى، شبه المُفرغة من المتميزين (إلا من لم يحالفهم حظ الالتحاق بالنموذجي أو ربما أسعفهم ذات الحظ للتحرر من قيده) يعيشون في ضفة أخرى مغايرة وإن كانت البرامج مُوحّدة ولا فرق يذكر ظاهريًا".
مريم المالكي، أم لثلاثة أبناء تقول لـ"الترا تونس" إنه من الجيد أن يكون أبناؤنا متميزين في العلم أو في أي مجال يحبونه وعلى الأولياء السعي المتوازن من أجل مساعدتهم على تحقيق ذلك. ولكن المشكل المطروح، حسب محدثتنا، هو السعي المحموم نحو المراتب الأولى دون وعي وفي غالب الأحيان دون انتباه لحاجيات الطفل النفسية والصحية والجسدية ودون مراعاة لميولاته واهتماماته وقدراته.
وتضيف المالكي وهي مدربة "تربية ذكيّة": "إن سعي الأولياء نحو اجتياز أبنائهم المناظرات الوطنية (السادسة ابتدائي أو التاسعة أساسي) تحول اليوم إلى فرصة للتفاخر أمام الآخرين وأصبح التعامل مع الأطفال كالتعامل مع أحصنة السباق".
مريم المالكي، مدربة تربية ذكية، لـ"الترا تونس": على الولي تذكّر أن ابنه ليس وسيلة للتباهي وأنّ عليه أن يدفعه للتميز بوعي وبحب ويقدر في الأثناء اختلافاته والفوارق بينه وبين أقرانه
وتشدّد المالكي أنّ على الولي تذكّر أن ابنه ليس وسيلة للتباهي وأنّ عليه أن يدفعه للتميز بوعي وبحب ويقدر في الأثناء اختلافاته والفوارق بينه وبين أقرانه، على حدّ تعبيرها.
"إن هوس الأولياء بالتعليم النموذجي مخيف جدًا لأنه في نجاح الطفل أو فشله قصف للطفولة"، هكذا علّق الأستاذ والمجدد البيداغوجي طارق القلعي لـ"الترا تونس" حول رأيه عن رغبة عديد الأولياء بأن ينجح أبناؤهم في اجتياز مناظرات الدخول للمدارس النموذجية.
ويفسّر محدّثنا ذلك بأن المدرسة هي بيئة لتكوين شامل للإنسان لذلك على الولي أن يدع ابنه يمارس طفولته ويبني كينونته بين أقرانه، مضيفًا "إن بعض الحرية تجعل من الطفل مقبلاً على الدرس في شغف وحب.. وبشكل ما سيتعلق بالمكان ويحبه بكل محتوياته.. فقط لا تنغصوا عليه المسار التعليمي بطلب المستحيل "النموذجي" فللطفل قدرات تتماشى مع سنه وميولاته، فليكن متوسط المستوى أو فوق المتوسط أو دونه.. هي تقييمات لا تخضع للدقة اللازمة فالإنسان أرقى من مجرد أعداد".
ويؤكد القلعي أن بعض الأولياء يعمدون إلى تحويل أبنائهم من آدميين إلي "روبوتات آلية"، مرجّحًا أن يكون ذلك من أجل إشباع جوع قديم ورغبة لم تتحقق ويريدون تعويض ما فاتهم وذلك بإرسالهم إلى التعليم النموذجي، على حدّ قوله.
ويشير محدثنا أن الحديث عن التعليم النموذجي يحمل في طياته إقصاء لأغلب المجتمع، ويبدأ من السنة السادسة من التعليم الابتدائي في صناعة الفروق والتمييز بين أقلية قادرة على امتلاك المعرفة وأغلبية تسعى إلى تملك الحد الأدنى، مضيفًا أنّه "لو أرادت الدولة أن يكون كل التعليم نموذجيًا لكان وذلك بفرض الانضباط داخل المؤسسات"، وفق تقديره.
الأستاذ طارق القلعي لـ"الترا تونس": "للطفل قدرات تتماشى مع سنه وميولاته، فليكن متوسط المستوى أو فوق المتوسط أو دونه.. هي تقييمات لا تخضع للدقة اللازمة فالإنسان أرقى من مجرد أعداد"
من جهته، يفسّر الباحث في علم الاجتماع محمد القطبي لـ"ألترا تونس" حرص بعض الأولياء تسجيل أبنائهم في المدارس النموذجية لاعتبارها تمثّل "النموذج" الأفضل لآلية صعود اجتماعي أو أداة تثبيت للمكانة الاجتماعية للتلميذ أو حتى لعائلته ولكونها تعبّر عن التطلعّات القصوى التي يحملها الولي في نظرته لمستقبل ابنه، خاصة مع التراجع الكبير للمدارس الأخرى على مستوى النجاعة التربوية أو على مستوى البنى التحتية وحتى من حيث الموارد البشرية التي صارت تشكّل جماعات محايدة ومجانبة لمتطلبات التلميذ، حسب تعبيره.
ويضيف محدّثنا أنّ جاذبية مفهوم "المدرسة النموذجية" يشكّل في أذهاننا مفهومًا دالاً عن المثالية بما فيه من دلالة على قيم المسؤولية والانضباط وخاصة دليلًا على ذكاء التلميذ وتميّزه وبالتالي فالتلميذ المٌلتحق بالمدرسة النموذجية هو التلميذ النموذجي وأيضًا هو الفرد المثالي الذي سرعان ما يوفّر لعائلته فرصة حقيقية للشعور بالسعادة والاطمئنان والفخر بمجرد تجاوزه لمناظرة وطنية ما وتمكنّه من الالتحاق بالمدرسة أو المعهد النموذجي باعتبار أنّ ذلك النجاح هو نجاح جماعي جدير بتوفير رأس مال رمزي وثقافي إضافي لفائدة التلميذ ولجماعته، على حدّ قوله.
الباحث في علم الاجتماع محمد القطبي لـ"ألترا تونس": الظواهر التي عرفتها المدرسة العمومية العادية كالانقطاع الدراسي وظواهر العنف كالتنمّر والانتحار.. جعلت المدرسة النموذجية حلم أغلب الأولياء لكونها توفر الكثير من الامتيازات
أمّا لتبيان مدى موضوعية هذه الأحكام الاجتماعية من عدمها تجاه المدرسة النموذجية يشير محمّد القطبي إلى أنّ الظواهر التي عرفتها المدرسة العمومية العادية في الآونة الأخيرة كالانقطاع الدراسي لعديد التلاميذ وظواهر العنف كالتنمّر والانتحار، إلخ.. جعلت المدرسة النموذجية حلم أغلب الأولياء لكونها توفر الكثير من الامتيازات كالصرامة العلمية وتعليم روح المسؤولية وتوفرّها على مواد أكثر ثراء وتنوّعًا كاللغات الأجنبية التي باتت جزءًا لا يتجزأ من مجموعة مهارات التلميذ الذي تخوّل له فيما بعد الالتحاق بأرقى الجامعات العالمية أو تسهّل عليه الانخراط في سوق الشغل، على حدّ تعبيره.
"وبالتالي فإنّ المدرسة النموذجية تعدّ النوع الأمثل للحفاظ على مصالح التلميذ الذي بات يتشكل في أذهاننا كمجتمع عام وحتى على مستوى القرار السياسي على أنه محور العملية التربوية وهدفها"، وفق القطبي.
وختم الباحث في علم الاجتماع حديثه لـ"الترا تونس" قائلاً: إنّ حرص الأولياء على توجيه أبنائهم للمدارس النموذجية ليس ناتجًا فقط عن تمثلّهم للتعليم كضمان وحيد للنجاح المستقبلي للأبناء، وإنمّا يعود أيضًا إلى منطق "الصراع المعرفي" و"الهيمنة الثقافية" بين جماعات المجتمع الواحد والتي من شأنها تحديد مكانة كل فئة اجتماعية.