مقال رأي
اختارت السلطة السياسية عبر أدواتها القضائية والأمنية فتح باب مواجهة مع المحاماة. هذا أمر واضح. وحقيقةً من الصعب اقتناص الحدث الذي سنبدأ به المقال ولكن ربّما الأنجع البداية بفهم السلطة السياسية ممثلّة في رئيس الدولة لأنه "يختصر المسافة في الزمن" وهي العبارة التي يستعملها "جنابه" دائمًا.
في بلاغ رئاسي منشور أواخر الليل قبيل ساعات من "يوم الغضب" المعلن من هيئة المحامين، دفع الرئيس أنّ "ما حصل خلال الأيام الأخيرة لا يتعلّق أبدًا بسلك المحاماة بل بمن تجرّأ وحقّر وطنه في وسائل الإعلام بل ورذّله وبمن اعتدى بالعنف على ضابط أمن". هذه جملة تؤكد مجددًا أن الرئيس كعادته يجزم بالإدانة قبل نطق القضاء الموضوع بطبعه تحت جناح السلطة السياسية. وهذا ليس بجديد.
يظهر بوضوح أن السلطة التي لا تدخر أي مجهود لكشف وجهها القبيح الذي يستبيح كرامة الناس وحرياتهم، قرّرت أن يمتدّ بطشها على المحاماة التي لا تمثل مجرّد مهنة بل هي رسالة في الدفاع عن حقوق الناس والذود عن حرياتهم
يسعى الرئيس، في الأثناء، للإيهام بأن "ما حصل" لا يتعلّق بالمحاماة بل بمجرّد قضايا تحقيقية تتعلق بمحاميين اثنين وهما الأستاذين مهدي زقروبة وسنية الدهماني. والحقيقة أن هذه القضايا وما رافقها بالخصوص من استعراض السلطة عبر الأجهزة الأمنية لعضلاتها، هي بعينه تتعلّق بالمحاماة وبشكل أدقّ بمبادئها التي طالما دافعت عنها، ولكن أيضًا بضماناتها. المواجهة الحقيقية هي مع المحاماة وليست مع زقروبة والدهماني.
و"ما حصل" كما أورد البلاغ الرئاسي حقيقةً وبشكل بيّن هو إثارة قضية من أجل ممارسة حرية الرأي وإيقاف صاحبته، ومداهمة "دار المحامي" في سابقة تاريخية دون احترام مقتضيات مرسوم المهنة، وممارسة عنف شنيع يصل لدرجة التعذيب ضد محامٍ موقوف. وهذا واقعًا بعض ممّا حصل الذي يهمّ المحاماة المدافعة عن الحقوق والحريات والتي طالما قدّمت أجيالًا من الحقوقيين في هذا البلد.
إثارة قضية ضد سنية الدهماني على خلفية تعليق إعلامي يعكس حجم مصادرة السلطة للآراء بشكل بات لا يختلف عن أعتى الأنظمة الديكتاتورية، والسلطة اختارت ألا تكتفي بإثارة قضية بل بإيقاف المتهمة "صاحبة الرأي" إثر اقتحام "دار المحامي"
يظهر بوضوح أن السلطة التي لا تدخر أي مجهود لكشف وجهها القبيح الذي يستبيح كرامة الناس وحرياتهم، قرّرت أن يمتدّ بطشها على المحاماة الرسالة. والمحاماة ليست مجرّد مهنة بل هي رسالة في الدفاع عن حقوق الناس والذود عن حرياتهم. واليوم سنية الدهماني ومهدي زقروبة هما قربان هذه المحاماة المناضلة.
كان من الصعب أن تحاول أن تفهم أن محامية تمارس التعليق الإعلامي أودعت بالسجن من أجل جملة ساخرة "شوف هاك البلاد الهايلة" في معرض تعليقها على ملف المهاجرين من جنوب الصحراء. الفهم صعب لكن القضية بالنهاية غير مستغربة في ظل حالة جنون الإحالات طبق المرسوم 54 ضد كل رأي لا يعجب السلطة السياسية. والرئيس هنا اعتبر في بلاغه تصريحها "تحقيرًا وترذيلًا" للوطن، وهو ناهيك عن أنه توصيف قيمي وذاتي ولا توجد جريمة بعنوان كهذا في القانون التونسي، فإنه يعكس حجم مصادرة السلطة للآراء بشكل بات لا يختلف عن أعتى الأنظمة الديكتاتورية. والسلطة اختارت ألا تكتفي بإثارة قضية بل بإيقاف المتهمة "صاحبة الرأي" بعد ضبطها إثر اقتحام "دار المحامي" المشمول بنطاق الضوابط الإجرائية للتفتيش طبق الفصل 46 من مرسوم المحاماة.
الانزلاق الآخر في علاقة باستهداف المحاماة هو ممارسة التعذيب ضد مهدي زقوربة.. والخطير أنّ ذلك ينبئ بانفلات داخل الأجهزة الأمنية يذكرنا بممارساتها قبل الثورة، وكلّ الخشية من العودة التدريجية لذلك المربّع من استباحة كرامة الإنسان
الانزلاق الآخر هو ممارسة التعذيب ضد مهدي زقروبة بعد إيقافه، وهذه جريمة يجب محاسبة كل من ارتكبها وشارك فيها. الخطير في هذه الممارسة أنها تنبئ بانفلات داخل الأجهزة الأمنية يذكرنا بممارساتها قبل الثورة. والخشية الحقيقية من العودة التدريجية لذلك المربّع من استباحة كرامة الإنسان.
مهدي الزميل والصديق أيضًا أرادوا بتعنيفه كسر شوكة العز الحيّة داخله وهو سيّد أهل العزّ والذي لطالما يقف إلى جانب المظلومين. أرادوا أن يهينوه وأن يهينوا من ورائه المحاماة الحقوقية، لكنهم لا يعلمون أن مهدي هو أحد فرسان المحاماة الذي لطالما كان صامدًا وشامخًا وأنه أسد المحامين الشبان الذي طالما يزأر انحيازًا للحقّ بكل شراسة.
إنّ إلغاء دسترة المحاماة في دستور الرئيس كشف منذ البداية عن سعي لتحييد المحاماة عن دورها الوطني والحقوقي، لكنّ المحاماة، عبر تمثيليتها الرسمية من خلال هياكلها، يجب أن تظلّ صارمة وحازمة في الدفاع عن قيم المهنة
اللافت، في الأثناء، أن رئيس الدولة تحدث في بلاغه عن استغراب من "عدم إثارة الجدل" إثر الاحتفاظ مؤخرًا بمحام من أجل جريمة تبييض أموال. وبغض النظر عن إسهال المحاكمات السياسية في سياق وضع اليد على القضاء منعدم ضمانات الاستقلالية اليوم، فإن عدم إثارة الجدل، في هذه القضية، يبيّن أن تحرّك المحامين إسنادًا لزميليهما زقروبة والدهماني لم يأتِ بمنطق قطاعي محض، بل معرفةً بخلفية القضايا المتعلقة بهما وسياقاتها.
من الواضح أنّه على السلطة السياسية أن تعي بأنّ المحاماة شريكة في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات، وذلك تنزيلًا لقيمها ومبادئها. إنّ إلغاء دسترة المحاماة في دستور الرئيس كشف منذ البداية عن سعي لتحييد المحاماة عن دورها الوطني والحقوقي، لكنّ المحاماة، عبر تمثيليتها الرسمية من خلال هياكلها، يجب أن تظلّ صارمة وحازمة في الدفاع عن قيم المهنة.
الخشية الحقيقية ليست في توظيف المحاماة في المعارك السياسية، بل في توظيف السلطة للمحاماة الرسمية بشكل غير مباشر لفرض واقع تردي الوضع الحقوقي في صورة تواصل عدم وعي هياكل المهنة بخطورة الانتهاكات الأخيرة ومآلاتها
إنّ الاعتداءات على حرمة دار المحامي خارج ضوابط القانون، والإحالات العشوائية من أجل الرأي وصولًا إلى ممارسة التعذيب، هو استهداف واضح للمحاماة. والخشية الحقيقية ليست في توظيف المحاماة في المعارك السياسية، وهذه جملة سمجة غايتها تاريخيًا تحييد المحاماة عن دورها الحقوقي في مواجهة السلطة السياسية، بل في توظيف السلطة للمحاماة الرسمية بشكل غير مباشر لفرض واقع تردي الوضع الحقوقي في صورة تواصل عدم وعي هياكل المهنة بخطورة الانتهاكات الأخيرة ومآلاتها، ليس على المحامين فقط، بل على عموم الناس.
يأتي شعار "يا مواطن فيق فيق التعذيب يستنى فيك" الذي رفعه المحامون في "يوم الغضب" في هذا السياق. وهذا اليوم الذي شهد تعبئة للمحامين يجب أن يُبنى عليه في سياق النضال الحقوقي للمحامين انتصارًا لقيمهم ومبادئهم، وليظلوا فرسانًا للحرية وجدار الدفاع عن المظلومين، وذلك في ساعة فرز سيحفظها التاريخ. هذه السلطة هي من اختارت مواجهة المحاماة، وعلى المحاماة أن تدافع عن نفسها، وهي في العمق، تدافع عن الحرية والكرامة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"