في مجتمع تونسي، أغلب أفراده من المسلمين، والإسلام هو الدّين الرسمي للبلد، لم يكن الحديث عن حريّة الدين والمعتقد ضمن محور الحرّية الذي قد نعبّر عنه بجرّة قلم، أمرًا هينًا، ولم يخرج الحديث عن تلك الاختلافات أو البوح بها إلى العلن غالبًا مخافة الفتنة والإقصاء. مجتمع يجمع بين مزيج من اليهود والمسيحيين والمسلمين والبهائيين وحتى بعض البوذيين، كلّ يعبد خالقًا بطرق مختلفة، مع ذلك لا تتجرأ الأقلية على البوح بمعتقدها في الكثير من الأحيان.
البعض من هذه الأقلية خرجوا إلى العلن بعد الثورة على غرار البهائيين معلنين عن أفكارهم ومعتقداتهم، بحثًا عن التعايش في مجتمع بدأ يتحسس خطوات حرّية الفكر والمعتقد والتعبير عن الرأي. واجهوا الشتائم والسب وحتى الإقصاء، فيما استطاعوا التأقلم في وسط اجتماعي مصغّر مركب خصوصًا من العائلة والأصدقاء القادرين على التعايش معهم باختلافاتهم وعقائدهم وأفكارهم. وهو ما حصل مع المسيحيين أو مع معتقدي ديانات الأخرى.
فماذا عن أولئك الذين خرجوا عن مفهوم الرب والدين والمعتقد واختاروا العيش تحت مسمّى "اللادينيين" أو الملحدين. لا تهمهم فتنة طوائف ولا اختلاف عقائد ولا تعاليم كتب سماوية. بعضهم يعيش في سرية دون البوح بأفكاره، فيما بدأ بعضهم يخطّ الخطى نحو إنهاء زمن السرّية.
ماهر (شاب تونسي لاديني) لـ"ألترا تونس": الأديان بالنسبة لي مثلها مثل جميع الأفكار والأيديولوجيات، لا حقوق ولا قداسة لها إلا عند من يؤمن بها
اقرأ/ي أيضًا: في تونس.. صوفيون بربطات عنق
لا ينتمي اللادينيون إلى جمعيات تدافع عنهم غالبًا، ويفضلون عدم الكشف عن آرائهم المناقضة للأديان، سواء مع العائلة أو أصدقائهم المقربين، أو عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لتضلّ أفكارهم حبيسة عقولهم، فالخروج للعلن قد يعني النهاية.
ورغم أنّ موضوع وجود الله من عدمه كان ومازال محلّ نقاش بين رجال الدين ورجال العلم، إلاّ أنّ الآلاف ممن لا يؤمنون بوجود الله لا يبوحون بذلك علنًا. ولا توجد نسبة، ولو حتى تقديرية حول عدد "اللادينيين" في تونس أو منطقة شمال أفريقيا برمتها، وذلك لأن الموضوع لا يزال يشكل "تابوهًا" في دول تكاد تجمع كل دساتيرها على أن الإسلام دين الدولة.
لاديني وأخفي ذلك..
"هل سيتحول الحديث عن أفكاري بشخصية معلنة ومكشوفة إلى إثبات حقيقة أنّنا في مجتمع يسمح بالتعبير عن الرأي بحرّية لفرض احترام الآخر لي. وهل كشف اسمي ووجهي وصفتي فعل شجاع كي أعبّر في مجتمع يقصي من يخالفه الدين، فما بالك بمن يكفر بجميع الأديان"، هكذا يستهلّ ماهر (30 سنة) حديثه لـ"ّألترا تونس".
يقول محدّثنا إنّه على غرار جل التونسيين، ولد في عائلة مسلمة، تعلّم القرآن في الكتاتيب ثمّ المدرسة. لم يختر دينه إذًا، بل تبعه بالفطرة لانتمائه لعائلة مسلمة. لكن منذ أن بلغ سنّ العشرين تغيّرت طريقة تفكيره. لم يخرج عن الدين لمجرّد الرغبة في التخلّص من أي ضوابط أو قواعد تحدّد سلوكه. فهو، حسب تعبيره، لا يحتاج إلى دين يمنعه من السرقة أو الكذب أو القتل أو أي فعل لا إنساني، وحدها إنسانيته تضبط تصرّفاته مع الآخر.
فتحي (اسم مستعار لشاب تونسي لاديني) لـ"ألترا تونس": لا أستطيع الإفصاح عن الأمر لعائلتي، فالأمر صعب جدًا وقد أنبذ من عائلتي نهائيًا
كانت البداية بأسئلة غريبة. يذكر ماهر بعضها. هل من المعقول القبول بمعاملة قاسية أو الرضا بفشل ما بسبب القضاء والقدر؟ وهل من الجيّد التعرّف أو التعايش مع أديان أخرى وأنت تؤمن أنّها حطب جهنّم. هل من الجيد أن تحسن تعامل الآخر لمجرّد الخوف من الله؟ أسئلة تزدحم في ذهنه جعلته يطلع على العديد من الديانات وأصل وزمن نشأتها وتعاليمها. لم يقتنع هو بأي منها ولم يقتنع بأنّ الكون يحكمه إله حدّد ضوابط عبادته.
والسخرية لدى ماهر أداة مشروعة للنقد، فالأديان بالنسبة له مثلها مثل جميع الأفكار والأيديولوجيات، لا حقوق ولا قداسة لها إلا عند من يؤمن بها. لذا من حقّه نقدها مثل نقد أي كتاب أو فكر، وفق قوله. خروج ماهر عن قوقعة الدين، كما يقول، جعله يُنبذ من العائلة. لم تعد عائلته تقبله بينها بسبب إفطاره في شهر رمضان أو شربه للخمر وإعلانه عن كفره بالله في وسطه العائلي الموسّع.
يقول ماهر لـ"ألترا تونس" "جلّ أفراد عائلتي لم يعد يقبلونني بينهم، ينعتونني بالكافر أو حتى "الزنديق". بل حتى يخافون مني بحجة أني بخروجي عن أي ضوابط قد أقتل وأسرق أو أغتصب، طالما خرجت عن الخوف من حساب إله". ويضيف "الحقيقة ندمت لأّنني أعلمت عائلتي بأفكاري. لاسيما وأنني أنتمي لعائلة تقليدية ذات مستوى تعليمي بسيط".
من الربوبية إلى الإلحاد..
اللاديني هو من لا يعترف بأيّ دين. ولا يؤمن بضرورتها لتنظيم العلاقات بين البشر. ولا تعني لهم التعاليم الدينية أي شيء. وحدها الإنسانية والقوانين الوضعية من تضبط سلوكات وعلاقة الناس بعضها ببعض وفق ما يؤكده فتحي (اسم مستعار) لـ"ألترا تونس".
ويضيف أنّه يفضّل إدارة حياته عبر القوانين الوضعية وسيادتها دون الحاجة إلى عقيدة تفرض عليه مناهج الحياة، مبينًا أنه بعد تركه الالتزام بالدين الذي اتبعه بالفطرة بات مؤمنًا فقط بوجود الله، لكنه غير مقتنع بتلك الديانات التي يقال إنّها بعثت من الله لتنظم علاقات وحياة البشر. بل يرى أنّها مجرّد قواعد ابتدعها البعض لتنظيم حياة البشر، وتتغيّر تلك القواعد بتغيّر وتطوّر الحياة. لكن بعد اطلاعه على بعض الكتب العلمية ونقاشه مع بعض اللادينيين بات غير مقتنع حتى بوجود الله مؤخرًا.
اقرأ/ي أيضًا: قصة أم عزباء.. رقصت على رماد الوصم الاجتماعي
ويقول، خلال حديثه لـ"ألترا تونس" "طبعًا في البداية بقي الأمر حبيس نفسي ولم أستطع البوح به لأحد حتى عائلتي وأصدقائي. لكن اليوم يعلم بلادينيتي بعض أصدقائي المقرّبين فقط. يحاولون هم إقناعي بخطئي وإقناعي بوجود الله وبصحة الأديان، وأحاول أنا إقناعهم بما أنا متأكد منه. ولكن نحترم بعضنا البعض ولا يشكلّ الأمر خلافًا بيننا. لكن لا أستطيع الإفصاح عن الأمر لعائلتي، فالأمر صعب جدًا وقد أنبذ من عائلتي نهائيًا".
وبات اللادينيون والملحدون يتداولون على الفضاء الالكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي أفكارهم في ذلك الفضاء الذي أتاح لهم مساحة واسعة للنقاش وتناول مسائل الدين الذي كان مسألة يستحيل طرحها في وسائل الإعلام التقليدية. وأسست حتى صفحات تضم اللادينيين العرب لتبادل أفكارهم ونقد الديانات على اعتبار أنّ الدين بالنسبة لمن قابلناهم "مجرّد أفكار وإيديولوجيات". وقد يبلغ ذلك النقد حدّ السخرية والاستهزاء.
لاديني مهدد بالقتل..
وجدي.م (31 سنة) لم يختلف كثيرًا عن البقية في التعبير عن وجهة نظره. لكن يختلف عنهم وهو الذي اختار الخروج إلى العلن للدفاع عن أفكاره وعن حرّيته في العيش بالطريقة التي يريدها. لم يعلن ذلك في وسطه العائلي أو الأصدقاء فقط بل حتى على مواقع التواصل الاجتماعي لإيمانه بأنّه حرّ في اختيار معتقد أو فكر أو توجه ما. وإذا كانت الإذاعات التبشيرية ولا سيما في التسعينيات وسيلة استخدمها المبشرون ليجعلوا الآلاف يتحولون عن الإسلام إلى المسيحية، فإن مواقع التواصل الاجتماعي مثلت فرصة للادينيين لتشكيل مجموعات للتواصل في ما بينهم للتعبير عن أفكارهم.
يقول وجدي لـ"ألترا تونس" إنّه ينتمي إلى عائلة متدينة لكنها ليست شديدة التدين، وفق تعبيره، كان يدرس في مدارس دينية وحافظ للقرآن وهو متحصل على جائزة في تجويد وتلاوة القرآن. لكن في مرحلة ما بدأ يتغيّر من خلال الاطلاع على الأديان والثقافات الأخرى من خلال الكتب. وبدأ يفهم الأمور بشكل مختلف. لم يشعر أنّ خروجه عن السرب قد يهدد حياته خاصة وأنّ مصارحة عائلته بكفره لم تؤد إلى نبذه، بل مازال يلقى الاهتمام ذاته والتعامل نفسه وهم يحترمون خياره، باستثناء بعض أفراد العائلة الموسعة.
ويستدرك قائلًا "نعم فالبعض يتصور أنني قد أمارس الجنس مع أختي أو أمي طالما أني لاديني ولا تضبطني أي قواعد من تلك التي حددتها الأديان أو حرّمتها".
وجدي (شاب تونسي لاديني) لـ"ألترا تونس": البعض يتصور أنني قد أمارس الجنس مع أختي أو أمي طالما أني لاديني ولا تضبطني أي قواعد من تلك التي حددتها الأديان أو حرّمتها
تعبيره عن أفكاره في موقع فيسبوك عرّضه إلى التهديد بالقتل من قبل بعض المتشددين. وقد قدم عدّة شكايات إلى وكيل الجمهورية بعدما وصلته تهديدات. وأضاف أنهم قاموا بتحريض حتى بعض أبناء الحي ضدّه، قائلًا "بعض الصفحات تحرّض على قتلي طمعًا في إقدام أحد المتشددين أو أحد أبناء الأحياء الشعبية على قتلي". ويتابع "الدين بينك وبين الله ولي الحق في أخذ موقف من الله".
وكان خلال حديثه يستشهد ببعض الأحاديث أو بعض الآيات القرآنية أو بعض الأحداث التاريخية والثورات على بعض الأديان. يقول مواصلًا حديثه مع "ألترا تونس" "أنا أعتبر نقدي لبعض الأمور التي لا أقبلها مكافحة للإرهاب"، مضيفًا "تهجمت على الدين الإسلامي ونقدته. وغيري قام بثورة كاملة ضد الدين برمته. وهذا من حق أي شخص. وقد نقدت الآذان وهذا من حقي، فالآذان هو نوع من الموسيقى ومن حقي أن أسمع شيئًا يُسمع ويُمتع، ولكن للأسف نقدي قوبل بالسب والشتم".
ويضيف وجدي أنّه "بنقده لكل شيء، يحفزّ الناس على التفكير والنقد دون أخذ النصوص كما هي"، قائلًا "أغلب أصدقائي ملحدون، وبعض المسلمين منهم يقبلوننا بأفكارنا دون إقصاء، ونتعايش باحترام. وقد كيفت حياتي كلها على مسألة الحرية حتى في عملي. أعمل حرًا دون ضغط الوقت أو أي رابط، حتى صاحب العمل لاديني مثلي وهذا من حسن حظي وإلا طبعًا سيقع طردي لأنّي ملحد".
على صعيد آخر ، يقول وجدي إنّ "قيامك بالأشياء الجيدة ليس بسبب الخوف من الله أو الرغبة في الأجر بل لإنسانيتك واحترامك للآخر، خصوصًا وأنّه توجد قوانين وضعية منظمة لحياتنا وهي كفيلة بتحديد تلك الضوابط. ولكن للأسف الناس ينظرون للاديني أو الملحد على أنّه قد يقتل أو قد يتزوج أخته أو أمّه، طالما هو لا يؤمن بأي دين حرّم تلك الأشياء. لكنّ اللاديني تحكمه ضوابط أخلاقية قبل أي ضوابط أخرى".
ويبقى الآلاف من هؤلاء في المجتمع التونسي يعيشون في سرّية، لا يصارحون بأفكارهم مخافة إقصائهم أو نبذهم، فيما يعيش العديد منهم في أوساط اجتماعية مصغرة، يعترفون فيها بما يقتنعون به من أفكار ويتحسسون الخروج إلى العلن أكثر.
اقرأ/ي أيضًا:
جسد المرأة بين "البوركيني" و"البيكيني".. حرية اللباس في مواجهة المجتمع