حدثني أستاذ التعليم الثانوي محمد العوني أنه وبينما كان يراقب امتحان مادة الرياضيات لشعبة علوم التقنية بأحد معاهد العاصمة ووسط صمت قاعة الامتحان، تناهى إلى مسمعه صوت خفي ينبعث من بين الممتحنين فقام من مقعده بهدوء وتجول بين الصفوف، فتبيّن له أنّ مصدر الصوت كان يخرج جليًا من أذن أحد التلاميذ.
تشهد ظاهرة الغش الإلكتروني أو "التكييت" كما تسمى في الأوساط التلمذية انتشارًا واسعًا في تونس خاصة في المناظرات الوطنية
لم يصدق الأمر بتاتًا لكنه سيطر على استغرابه ودهشته واقترب منه أكثر فكانت الجملة تخرج واضحة: "وقت تحبني نملّ عليك كح"، فما كان من الأستاذ محمد العوني إلا أن "كحّ" بطريقة مفاجئة وكوميدية حذو أذن التلميذ المعني، فتتالت المعلومات المتعلقة بالامتحان من الجهة الأخرى الباثّة واضحة وجليّة.
يضيف الأستاذ أن خبرته التربوية جعلته يطالع ويعايش جميع أنواع الغش التقليدية، لكن لم يكن يتخيّل يومًا وهو على عتبات التقاعد أن يعيش عملية "تكييت" (غش باستعمال سماعات الأذن KIT) في امتحان وطني، "فعلًا إن المسألة مخجلة وتتطلب الكثير من التفكير"، كما يقول.
حالات مخيفة للغش الإلكتروني رغم التدابير الصارمة
هو زمن "التكييت" والغش الإلكتروني والحيلة والتحيّل في امتحان الباكالوريا وهو ما حدا بوزارة التربية خلال دورة 2019 إلى مزيد الصرامة وأخذ الحيطة عبر منع كل الأجهزة الإلكترونية والاتصالية من هواتف ولوحات لمسية وساعات وأقلام ونظارات داخل مراكز الاختبارات الكتابية وذلك برفع لافتات تحذيرية على بوابات المعاهد والاجتماع بالتلاميذ وتوعيتهم وتحذيرهم من الوقوع في الغش.
وعملت الوزارة عبر حملة إعلامية للتذكير بالخصوص بأمر وزير التربية المؤرخ في 21 مارس/آذار 2018 المتعلق بضبط نظام امتحان الباكالوريا والمتضمن للعقوبات التي تتعلق بالغش وسوء السلوك والتي يصل أقصاها إلى تحجير الترسيم في الامتحان لمدة خمس سنوات مع الرفت النهائي من جميع المؤسسات التربوية العمومية، وذلك مع توصية المراقبين من الأساتذة باليقظة التامة وإعلام إدارة المركز الكتابي بكل حالات الغش التقليدية والإلكترونية.
سجلت وزارة التربية في باكلوريا 2019 مئات حالات الغش الإلكتروني رغم التدابير الصارمة لمنع كل الأجهزة الإلكترونية في مراكز الامتحان
وقد تخلت وزارة التربية خلال هذه السنة عن أجهزة التشويش التي كانت مستعملة في السنوات السابقة والتي ثبت أن أغلبها معطب ولا يقوم بالتشويش على الاتصالات، وهو ما وصفه وزير التربية نفسه بملف فساد مؤكدًا أنه دفع به إلى القضاء، متحدثًا عن التعويل فقط على تطبيق القانون وتحمل المسؤوليات من قبل الجميع حتى يتم إنقاذ صورة الباكالوريا التونسية الآخذة في الأفول والتدهور وفق قوله. وقد اُحدثت في صلب وزارة التربية قاعة عمليات لمتابعة سير الامتحان والتنسيق مع وزارة الداخلية لترصد شبكات الغش الإلكتروني.
اقرأ/ي أيضًا: "الفوسكة".. تنخر الجسد التعليمي وصفّارات الإنذار لم تدوّ بعد
لكن رغم كل هذه التدابير والإجراءات إلا أن الدورة الحالية للباكالوريا، باكلوريا 2019، سجلت أرقامًا مخيفة للغش، إذ حسب تصريح عمر الولباني، المدير العام للامتحانات بوزارة التربية، تم رصد، قبل يوم واحد من انتهاء الاختبارات الكتابية، 546 حالة غش وسوء سلوك منها 83 حالة بولاية القصرين و63 حالة بولاية قفصة و42 حالة بولاية سوسة. وأشار الولباني إلى أن أقل ولاية سجلت مثل هذا النوع من الممارسات هي ولاية زغوان التي شهدت 3 حالات فقط تليها ولاية المهدية بـ4 حالات، مؤكدًا أن وزارة التربية رفعت عدة قضايا عدلية في شأن عدة أشخاص تورطوا في عمليات الغش الإلكتروني.
وعليه لا تزال تنتشر ظاهرة الغش في امتحان الباكالوريا وهي آخذة في الارتفاع خاصة ظاهرة الغش الإلكتروني أو ما يسمى "التّكييت"، وذلك رغم الإجراءات المتخذة من الجهات المعنية لحماية أهم مناظرة وطنية في البلاد. تسري بذلك ظاهرة الغش بين التلاميذ، إناثًا وذكورًا، كالنار في الهشيم خاصة وأن شبكات مختصة تنشط في الغرض تبحث عن المال الوفير، ولذلك يغوص "ألترا تونس" في خبايا هذه الظاهرة التي تنخر أكثر وأكثر كل عام في جسد التعليم التونسي.
تلاميذ في الباكالوريا يكشفون عالم "التكييت" لـ"ألترا تونس"
توجهنا إلى محيط أحد المعاهد المعروفة بظاهرة "التكييت" بالضاحية الغربية للعاصمة تونس والتقينا بعض التلاميذ الذين كانوا يتناقشون مع بعضهم البعض حول امتحان الفيزياء الخاص بشعبة العلوم التقنية، تدخلت لأسألهم عن سهولة الامتحان ثم انزلق الحوار بيني وبينهم حول ظاهرة "التكييت" لتأتي الإجابة بالإجماع على انتشارها رغم استعداد مراكز الاختبارات الكتابية للحد منها.
لكن بعد الكشف عن صفتي، انسحب بعض التلاميذ فيما ظل البعض الآخر ومنهم "أحمد" (اسم مستعار) الذي حدثنا أن الاستعداد للتكييت يبدأ منذ شهر أفريل/نيسان من كل سنة إذ تُقدم العروض للتلاميذ بواسطة التلاميذ أنفسهم عبر مجموعات مختصة وشركات سرية تمتهن الغش في الامتحانات سواء في الباكالوريا أو حتى الامتحانات الجامعية.
بلال (اسم مستعار): مجموعات مختصة في "التكييت" تعرض خدماتها عبر وسطاء من التلاميذ وهي تطلب مالًا يصل إلى 2000 دينار
وأخبرنا أحمد أنه كان شاهدًا على أحد العروض قائلًا: "أتممنا امتحان الباكالوريا رياضة وذهبنا لمقهى لنحتفل، وجاء مع أحد زملائنا شخص غريب على أساس كونه قريبه، وأعلمنا هذا الشخص، خلال الجلسة، أن لديه "خيط طيارة متع تكييت مضمون 100 في 100". وأعلمنا أن ثمن المادة الواحدة 500 مائة دينار، وأنه توجد أثمان حسب كل تمرين، وطلب منا التفكير في الموضوع وأن كل شيء سيسير كما نريد".
"بلال" (اسم مستعار)، تلميذ في شعبة الاقتصاد والتصرف، بادرنا أنه يعرف تلميذًا "كيّت" العام الفارط ونجح، مؤكدًا أن المسألة لا تخلو من مخاطرة قائلًا" مستقبلنا في اللعبة". وأشار إلى أن مجموعات مختصة تتشكل وتعرض خدماتها عبر وسطاء من التلاميذ وهي تطلب المال الكثير، يصل إلى ما يفوق 2000 دينار وأحيانًا لا يقدر على المسألة إلا التلاميذ الميسورين، وفق قوله، وهنا ضحك بلال ممازحًا أحد زملائه "هل رأيت حتى "تكييتة" الفقراء لم نعد نقدر عليها".
جهاز يُستعمل في الغش الإلكتروني
اقرأ/ي أيضًا: "دخلة الباك سبور".. مشهديات تتجاوز السائد المدرسي
وأوضح تلميذ الباكلوريا أن عملية "التكييت" يؤمنها فريقان أحدهما يعنى بالجوانب التقنية فيجتمع بـ"المكيّتين" (التلاميذ الذين يغشون باستعمال سماعات الأذن) فرادى ويدربهم على التواصل بواسطة "الحمصة" التي توضع في أذن التلميذ عبر سائل زيتي وتسحب بواسطة مغناطيس وهي تشبه الكجة الحديدية، و"الحمصة" هي لاقط صوتي ترتبط بميكروفون موصول بهاتف مشحون ومفتوح الخط طيلة الامتحان وكلاهما مخفي بعناية وبأشرطة لاصقة تحت الملابس. ويضيف محدثنا أن إشارات صوتية يتم الاتفاق عليها مسبقًا ويتم التدرب عليها بين الطرفين.
ويبين أن مهمة الفريق الآخر هي تأمين وإيصال حلول التمارين ومسائل الامتحان إلى أذان "المكيتين" وعادة ما يتكون الفريق من أساتذة وطلبة مختصين في المواد مثل الرياضيات والفيزياء والتصرف والميكانيك والعلوم.
أما "أمين" (اسم مستعار) وهو تلميذ أيضًا بشعبة الاقتصاد والتصرف، تدخل ليقول إن التلميذات هن الذين يقومون بالغش عبر "الكيت" على اعتبار أنهن يقدرن على ارتداء ملابس تساعد على إخفاء الخيوط والميكروفون، عدا عن ارتداء غطاء على رأسها، وذلك وفق ما أخبرنا به. ولكن أضاف أن المسألة وإلى جانب المجازفة، تتطلب مالًا كثيرًا مؤكدًا لنا أنه يعرف أولياء قاموا باقتراض أموال من البنك من أجل تأمين عملية "تكييت" للابن في المناظرة.
سليم (اسم مستعار): ظاهرة "التكييت" في الوسط التلمذي ستظل وستكتسح الحياة المدرسية مثلها مثل الدروس الخصوصية
"سليم" (اسم مستعار)، وهو تلميذ بشعبة علوم التقنية، تدخل في النقاش بعد توخيه الصمت في البداية، موضحًا أن جماعات "التكييت" باتت تجلب تقنيات جديدة بعد المداهمات الأمنية كل سنة وآخرها إلقاء القبض في مقهى في جهة الدندان على 8 عناصر من الطلبة والأساتذة والتقنيين وانتشار المسألة إعلاميًا.
وأخبرنا محدثنا أنه جرى، خلال دورة باكلوريا 2019، استعمال بطاقات إلكترونية مرتبطة بشبكات تواصل أوروبية تم التفطن لها في ولاية باجة، معتبرًا أن ظاهرة "التكييت" في الوسط التلمذي ستظل وستكتسح الحياة المدرسية مثلها مثل الدروس الخصوصية، على حد تعبيره. وإثر هذا اللقاء، حملنا حديث التلاميذ مع أسئلة أخرى بخصوص سريان ظاهرة الغش الإلكتروني أو "التكييت" للمختصين.
سفيان الفراحتي (مختص في علم اجتماع التربية): ظاهرة "التكييت" تنزل في سياق "الغش في كل شيء"
توجه "ألترا تونس" إلى المختص في علم اجتماع التربية والباحث بالجامعة التونسية سفيان الفراحتي الذي بين منذ البداية أن "المصطلحات اللغوية تنبت من شقوق الحياة اليومية للمجتمعات تماهيًا مع التقلبات والتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية والحضارية وتموت أخرى لزوال صلوحياتها، هكذا هي اللغة كائن حي يتدبّر معنا الحياة ويدير معنا شؤوننا ويرتب تواصلنا فيما بيننا".
لا يمكن تفسير ظاهرة الغش الإلكتروني بأدوات أخلاقية بل بمواجهة أنفسنا بالأسئلة الحقيقية والبحث عن حلول جذرية وهيكلية تتعلق بمؤسسات المجتمع مثل المدرسة والعائلة والقانون
وأشار إلى أنه من المصطلحات التي برزت في السنوات الأخيرة في تونس وباتت تحيل على مستجدّ في حياتنا اليومية هو مصطلح "التّكييت" المشتق من الكلمة الفرنسية "kit" وتعني سماعة الأذن التي نشحنها في الهاتف الجوال قصد الاستماع بشكل شخصي للأغاني أو للأصوات المتدفقة من الهاتف عمومًا.
وقال إنه في مستوى الفهم الاجتماعي للظاهرة لا بد من التعريج في البداية على مسألتين تتعلق الأولى بالمسألة قيمية وهي ظهور قيم جديدة في المجتمع التونسي جراء الطارئ الاقتصادي المحلي والدولي والسياسي مثل الربح السريع والمخاطرة. وأضاف أن المسألة الثانية مرتبطة بالمدرسة باعتبارها مؤسسة مجتمعية "إذ لم تعد تجيب على أسئلة الفرد والمجموعة وتخلت عن أدوارها القيمية والثقافية والحضارية ولم تسائل نفسها من الداخل فعزلتها الثورة الاتصالية"، مؤكدًا، في هذا الجانب، أن المدرسة لم تعد مصعدًا اجتماعيًا كما كانت عليه أثناء ملاحم التأسيس للمنظومة التربوية التونسية وفق تعبيره.
ويوضح الفراحتي بأن ظاهرة "التكييت" تنزل في سياق اجتماعي عام وهو الغش في كل شيء على حد تعبيره قائلًا: "التونسي بات غشاشًا"، مضيفًا أنه "لا يمكن تفسير هذه الظاهرة بأدوات أخلاقية بل بمواجهة أنفسنا بالأسئلة الحقيقية والبحث عن حلول جذرية وهيكلية تتعلق بمؤسسات المجتمع مثل المدرسة والعائلة والقانون".
أميرة العروي (مختصة في علم النفس): تنقصنا التربية على الوسائل الرقمية والاتصالية
من جهتها، أكدت الجامعية المختصة في علم النفس العاصمة أميرة العروي أن ظاهرة "التكييت" والغش في الامتحانات عمومًا باتت لافتة وتشكل خطرًا على الحياة المدرسية، مضيفة أن وزارة التربية على وعي بذلك وهي تحاول التصدي لها عبر الجوانب الزجرية مع وجود نوايا تتجه نحو تأطير التلاميذ بخصوص خطورة هذه الظاهرة طيلة السنة الدراسية، وفق قولها.
وأكدت العروي، وهي المسؤولة عن التأطير النفسي للتلاميذ بالمندوبية الجهوية للتربية بتونس العاصمة، أن الوزارة شرعت خلال السنة الدراسية 2019/2018 في تأطير تلاميذ الباكالوريا عبر حصص حوار وإنصات وإرشاد. وأشارت إلى تنظيم لقاءات جمعت الإخصائيين النفسيين بأولياء التلاميذ على اعتبار أن الولي، وفق قولها، هو شريك في العملية التربوية، مضيفة أنه تمت دعوة الأولياء خلال هذه الاجتماعات لعدم الانخراط في عمليات الغش كتوفير المال وغيره للأبناء، وأنه تم تمكين الأولياؤ من أدوات لا مرئية تساعدهم على حسن تأطير أبنائهم قبل وأثناء وبعد امتحانات الباكالوريا.
أميرة العروي (مختصة في علم النفس): التلميذ التونسي عمومًا مرهق من النظام التقييمي للامتحانات لذلك يجنح للغش بأنواعه
لكن أوضحت محدثتنا بأن هذه الإجراءات لا تكفي على اعتبار أن المدرسة التونسية تنقصها التربية على الوسائل الرقمية والاتصالية وفق قولها، مؤكدة، في نفس الإطار، أنه لا توجد استراتيجيا واضحة تؤسس للتربية الرقمية على غرار ما يحدث في مجتمعات وأمم أخرى كما تغيب التربية الرقمية أيضًا عن العائلة.
وختمت الجامعية المختصة في علم النفس العروي، حديثها لـ"ألترا تونس"، بأن التلميذ التونسي عمومًا هو مرهق من النظام التقييمي للامتحانات لذلك يجنح للغش بأنواعه، واعتبرت أن تلميذ الباكالوريا "يصل إلى أيام المناظرة بعد رحلة بيداغوجية مضنية تنعكس على سلوكه فنجده عنيفًا ومدخنًا ومتوترًا ومدمنًا على الأنترنت".
ولذلك دعت إلى "تهوئة الباكالوريا" قائلة: "كما نجد وسط السنة الدراسية امتحانات جزئية خاصة بالإعلامية والتقنية والتربية البدنية فلم لا نحدث جزءًا آخر خاصًا باللغات والمواد الاختيارية، وهكذا يصل التلميذ للمناظرة الكبرى في أفضل حال".
في نهاية المطاف، يبدو "التكييت" ظاهرة متفشية في الوسط التلمذي وبالخصوص في مناظرة الباكالوريا، لكن باطنها يوضّح بأنها ظاهرة مجتمعية آخذة في التفشي والسريان. إذ سجلت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بدورها حالات "تكييت" وغش إلكتروني في مؤسساتها الجامعية، بل سُجلت هكذا حالات في مناظرات مهنية، وبالتالي تتطلب المسألة نظرًا لا يكون فيه البعد الزجر هو الطاغي.
اقرأ/ي أيضًا:
التعليم الديني الموازي في تونس.. لماذا الإقبال عليه؟ وماهي مخاطره؟
التعليم في خطر: ثقافة "الموازي المدرسي" تهدد المدرسة التونسية