من له مصلحة في الذهاب إلى الانتخابات البلدية؟ صديقي الذي لم يسجل اسمه في قائمة المنتخبين والذي يبحث عن عمل لائق، أم موظف الحسابات بالإدارة الجهوية للغذاء الصحي ذو القامة القصيرة؟ هذا إذا تحدثنا عن الناخبين. أما الأحزاب والقائمات، فمن له المصلحة في ذهابنا إلى الانتخابات؟ كل الأحزاب، أم أحزاب البرلمان، أم القائمات المستقلة، أم أبي وأمي وأخي الأكبر؟... كيف سيحاكمني "الوطنيون" والـ"الثوريون" في حالة العزوف عن الاقتراع، هل سـ"أخون وطني" إذا لم أنتخب؟ من سأنتخب؟
أرى أن الانتخابات في بلد مثل البلد الذي نعيش فيه ليست سوى عملية تقنية مركبة لتبرير بقاء السلطة على شكلها البنيوي الثابت
في الحقيقة تبعثرت أمامي أوراق عديدة تحاول الإجابة عن تساؤلاتي الحمقاء المذكورة أعلاه. ولم أجد بدًا من مراجعة بعض الأساسيات التي أراها مهمة في فهم ما يدور من حولي هذه الأسابيع المتخمة بالشعارات.
أرى أن الانتخابات في بلد مثل البلد الذي نعيش فيه ليست سوى عملية تقنية مركبة لتبرير بقاء السلطة على شكلها البنيوي الثابت وبالتالي المتخلف. وهي أي الانتخابات دعوة لتلك الجماهير البلهاء للتعبير عن بلاهتها وإرسالها إلى الخلوات لاختيار من سيمثلها. وهنا فلتسمحوا لي أن أذهب بعيدًا ثم أعود إلى ادعائي المركزي في هذه المقالة.
ليس الجهاز الإعلامي والاتصالي في تونس في معزل عن رؤوس الأموال المتحكمة فيه، حتى وإن كانت وسيلة الإعلام "عمومية". هذا الجهاز الضخم والمقسم بين مستثمرين ـ متنافسين، كل حسب طاقته وحجم استثماره، لم يتعدّ بعد مرحلة أزمات الاتصال الجماهيري التي ظهرت في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. هذه الأزمات المتمثلة أساسًا في الدعاية عوض التواصل، القمع والصنصرة عوض الإخبار الحر، الكليشيهات "الترفيهية" عوض التثقيف.
وهذا لا يعبر فقط عن إشكالات نسقية داخل بنية الإعلام ذاته (تلك مسألة أخرى لا يحتمل هذا الفضاء الحديث فيها)، بل يعبر أيضًا عن إشكالات أعمق من مجرد مشكل في جهاز.. إن الأزمة الحقيقية في الإعلام تتصل اليوم بمعقولية الاستقبال وطبيعة الجمهور الذي يجب أن يتحرك في اتجاه الرفع من مستوى جودة إعلامه، كأنك ستقوم بتنظيف مرآتك كي ترى نفسك بشكل أوضح، لكن آخر الأخبار التي أتابعها تقول عكس ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: حين تطبّع وسائل الإعلام التونسية مع الذكورية..
هذا الإعلام ذو الأزمات العميقة والخاضع لتحكم المستثمر، لم يترك المساحة المطلوبة لتكوين نسق نقدي لدى المتلقي. وأقصد بالنسق النقدي في هذا الإطار هو ما يُعبر عنه بتلخيص شديد "القدرة على الاختيار الواعي". صحيح أن وسائل الإعلام في هذه الفترة، أي زمن الانتخابات البلدية، تقوم بدورها العادي في إعطاء الحظوظ لكل القائمات كي تقدم برامجها ورؤاها في الاستحقاق القادم، لكن في الحقيقة لا تعدو هذه المهمة سوى مجرد تكملة لمسلسل إفقاد السياسة لروحها الحقيقية وهي خدمة الجمهور، وذلك عبر تثبيت صور المرشحين في أذهان الجمهور الانتخابي كي تنجز العملية الانتخابية وهي كاملة النقصان.. نقصان أهم شيء في المشاركة في الحياة العامة (العمومية): الاختيار الواعي.
مثلًا: تم تمرير امرأة تحمل الجنسية التونسية اسمها المعروفة به "زينة القصرينية" تم تعريفها على أنها مغنية، وقد صرحت في برنامج "أمور جدية" ما معناه أنها قارئة جيدة للقرآن وأنها فهمت منه أن صوتها "عورة" وبالتالي فالمهنة التي تقوم بها أي الغناء هي مهنة "حرام" وتتمنى في السياق أن تتوقف عن هذا النشاط وأن تذهب إلى مكة للحج وأن تتوب.
وفي ذات السياق أحد الـ"مغنين" الآخرين واسمه كما ورد في برنامج "كلام الناس" على قناة الحوار التونسي "الشاب بشير" أشار إلى أن "زميلته" لديها الحق ويوافقها على ما تقول. علمًا وأن هذين المغنيين لهما جمهور واسع من المتابعين في تونس.
ما تعتقده "زينة" بأنها تمارس الرذيلة كمغنية هو الاعتقاد نفسه الذي ينسحب على من يمارس السياسة اليوم
أنا لا ألوم هذين النموذجين، فربما "درجة الوعي التي وصلا إليها لم تتجاوز رخصة سياقة الشاحنة الفلاحية "ديماكس""، ولن ألوم الجمهور الذي يتابع أمثال هؤلاء. هاجسي في هذه القضية هو صاحب السلطة الذي يقرر تمرير هذه النماذج في الإعلام تحت شعارات مفتعلة مثل "مشاركة الجميع.. إعطاء حق التعبير للناس، الاقتراب من الفن الشعبي....". صحيح أنها شعارات إيجابية في ظاهرها لكن سوء توظيفها سيؤدي بنا إلى الاصطدام بمن يعتقد أن الفن حرام.
قارئي العزيز، الاعتقاد الذي تعتقده "زينة" على نفسها بأنها تمارس الرذيلة كمغنية هو الاعتقاد نفسه الذي ينسحب على من يمارس السياسة اليوم. فهو متأكد من أنه يمارس الكذب والنفاق والمناورة وما إلى ذلك من المغالطات المأخوذة عن فكرة العمل السياسي، ليصل إلى المنصب.. مجرد الوصول إلى المنصب هو باب لممارسة النفوذ والحصول على ثروة (مالية أو رمزية أو كليهما) ثم يبدأ في التراجع والضمور والاختفاء التدريجي.. ثم تجده لابسًا ثيابًا بيضاء ومتجها إلى مكة للحج، ولا تستغرب أن يجيبك عندما تسأله عن أمر سياسي فيقول "المعذرة لقد تبت عن تلك الممارسات"...
نحن لا نملك ثقافة العمل العمومي. وقبل أن نتوجه إلى الانتخابات أرى أن نعالج ظروف صناعة الآراء العامة في البلاد، ولا أعتقد أن فضاء آخر سوى الإعلام سيكون الفضاء المناسب لتركيز آليات صناعة الرأي القائمة المصلحة العامة أولاً وقبل كل شيء. أو لنأخذ الأمر من زاوية أخرى: المجال الزمني الذي يفصل استحقاقًا انتخابيًا عن آخر والذي يدوم نظريًا أربع أو خمس سنوات، تلك السنوات الفاصلة تعد أهم فرصة للقوى المجتمعية كاملة في أن تتفق على أن السياسي القوي ينتخبه مواطن حر ومقتنع وفي ذات الحين خاضع لمعارضة ذكية. لكن الواقع اليوم هو أن "طبقة الجمهور" لم تفرز قيادات فكرية تدافع عنها وترتقي بها بل أنتجت أشباه سياسيين حريصين على الاستغلال الأقصى لحالة الغفلة.
اقرأ/ي أيضًا: