تصدير: "إن بعض الأفكار صلوات، فهناك لحظات تكون فيها النفس جاثمة على ركبتيها مهما كان وضع الجسد" (فيكتور هيغو)
لحظات المكاشفة الإبداعية، هي لحظات فوق إنسانية، لحظات "سوبر" أو بالأحرى هي كيمياء متفرّدة، فيها من الألوهية والنبؤة والماوراء والوجد الفني وانبلاجات التخييل الخصب وأشياء أخرى لم يدركها العقل البشري بعد.. هي لحظات مستبدّة وقاسية على الأنفس الشفافة والفنانة والخلاّقة، إنها لحظات تفتك بالروح والمُهج فتتوّهها وتبيدها في بعض الأحيان وتلزم صاحبها سلوكًا مغايرًا، مختلفًا قد يصل حدّ الجنون الفني.. لذلك نجد العديد من الكتّاب والفنانين يشقّون دروب التيه والتأمل عند لحظة الميلاد الإبداعي والفنّي.. فهم بين مفارق للواقع وملتحم به على نحو مختلف!
تذكر لنا سير الأدباء والفنانين الذين خلدتهم ذاكرة البشرية كيف أن هؤلاء المبدعين تتغير أحوالهم النفسية والسلوكية مع بداية كل عمل، فتتعدد الطقوس والعادات والسلوكات لديهم
تتعدد الطقوس والعادات والسلوكات لدى الكتّاب والشعراء والمسرحيين والرسامين والموسيقيين عند لحظة المكاشفة الإبداعية والفنية. وتذكر لنا سير الأدباء والفنانين الذين خلدتهم ذاكرة البشرية كيف أن هؤلاء المبدعين تتغير أحوالهم النفسية والسلوكية مع بداية كل عمل، فينتبذون أمكنة ما كانوا ربما ليذهبوا إليها من قبل، أو تتغير عاداتهم الغذائية أو يميلون إلى ألوان بعينها دون غيرها أو يستبد بهم السفر إلى بلدان بعينها، أو يفرطون في أمر ما لم يعهدوه من قبل. فالكاتب العربي نجيب محفوظ المتوّج بجائزة نوبل للآداب في سنة 1988 لا يستطيع الكتابة إلا في مقاهي حواري القاهرة، وأعتى نصوصه الروائية كتبها في صخب مقاهي خان الخليلي والفيشاوي.
اقرأ/ي أيضًا: هل أضاع الأدباء مسالك الإبداع بعد الثورة؟
والكاتب الصحفي حسنين هيكل كان لا يستطيع كتابة مقالاته إلا بعد الساعة العاشرة ليلًا، أما الشاعر نزار قباني فكان يتأنق للإلهام كما يتأنق العاشق للقاء محبوبته. وكان موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لا يلتقى أحدًا بعد الثامنة مساءً ويخلد إلى النوم قبل العاشرة ليلًا اعتقادًا منه أن النوم العميق هو الذي يجلب الألحان الجيدة، كما كانت مقدمات ألحانه لا تنال إعجابه بسهولة، فيظل يغيرها مرات ومرات وقد يذهب إلى تغييرها بعد أن تبدأ الفرقة الموسيقية في التدرب عليها.
ومما يذكر عن أيضًا عن المخرج السينمائي يوسف شاهين أنه كان قبل كل تصوير تستبد به حالة من الهستيريا والعصبية المفرطة، ولا يهدأ له بال إلا بعد أن يضع الكاميرا في الزاوية التي يبحث عنها وينطلق في التصوير، عندها فقط يعود إلى حالته الطبيعية فيستطيع التحدث إلى مساعديه وباقي الناس المحيطة به، فلكأنه كان في سفر قصير أو مفارق لواقعه.
اقرأ/ي أيضًا: الحكواتي في تونس.. فن منسي يتجدد
ومن الكتاب والفنانين العالميين الذين كانت لهم سلوكات تتسم بالغرابة والجنون الفني، نجد الكاتب الإيطالي نيكولا ميكافيلي صاحب الكتاب الشهير "الأمير" الذي كان يقرأ على نفسه بصوت مرتفع الفقرات التي يكتبها وإذا أعجبته وراقت له يُبقيها أما إذا لم تعجبه فكان يتلف المكتوب حرقًا حتى لا يعود إليه مرة أخرى. أمّا الروائية الشيلية والناشطة في مجال حقوق المرأة "إيزابيل الليندي" والتي من أعمالها الشهيرة "بيت الأرواح" و"ما وراء الشتاء"، فكانت توقد الشموع في غرفة الكتابة إكرامًا لعرائس الإلهام اعتقادًا منها أنها تساعدها على التخييل واستجلاب المعاني البديعة!
ومن مشاهير الكتّاب الذين لهم عادات مختلفة نجد أن الكاتب الأمريكي إرنست هيمنغواي صاحب جائزة نوبل للآداب سنة 1954 ومبدع روايات "لمن تقرع الأجراس" و"الشيخ والبحر" و"وداعًا أيها السلاح".. إذ كان يكتب في الصباح الباكر ولا يأكل شيئًا أثناء الكتابة، أما ملاذه فكان البحر كلما بدأ في عمل جديد. أما الكاتب الكولمبي الشهير والذي يعتبر أب الواقعية السحرية في الرواية والحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1982 "غابريال غارسيا ماركيز" ومؤلف "مائة عام من العزلة" فكان يرتدي لباس الميكانيكي مع بداية كل عمل.
الكاتب الإيطالي نيكولا ميكافيلي كان يقرأ على نفسه بصوت مرتفع الفقرات التي يكتبها وإذا أعجبته وراقت له يُبقيها أما إذا لم تعجبه فكان يتلف المكتوب حرقًا حتى لا يعود إليه مرة أخرى
الممثل السينمائي الأمريكي الشهير "تشارلي شابلن" صانع أمجاد السينما الصامتة مع بداية القرن العشرين كان يلوذ بالغناء بأعلى صوته في الأيام التي تسبق شروعه في عمل جديد، وذلك حتى يزيل عنه التوتر الذي يهيمن عليه خلال أيام التصوير، وكان بابلو بيكاسو من جهته، وهو الرسام الإسباني الأسطورة يدخل كلّما همّ بعمل فني جديد، في علاقة عاطفية جديدة يضيفها إلى باقي علاقاته القديمة ويشرع في إدارتها مع باقي علاقاته القديمة وكان يعتبر ذلك من مصادر إلهامه.
وفي تونس، تختلف طقوس الكتاب والفنانين والرسامين والسينمائيين والموسيقيين وعاداتهم.. فالمطرب "علي الرياحي" الذي غنّى عشرات الأغاني الخالدة: "العالم يضحك"، "يا شاغلة بالي"، "عايش من غير أمل في حبك".. والذي توفي فجأة على خشبة المسرح البلدي في 27 مارس/ آذار 1970، كانت علاقته غريبة بآلة الدف الصغير، حيث كانت ملاذه عندما يجلس إلى نفسه ويستعملها بحثًا عن إيقاعات ألحانه وهو أمر صعب حسب المختصين في الموسيقى، لكن الرياحي كان يفضلها عن بقية الآلات الموسيقية الأخرى. أما الشاعر أبو القاسم الشابي صاحب "إرادة الحياة" فكانت الطبيعة ملاذه بحثًا عن إلهام الشعر، كما يجنح إلى الصمت والتأمل لحظة ميلاد القصائد.
المطرب "علي الرياحي" كانت آلة الدف الصغير ملاذه عندما يجلس إلى نفسه ويستعملها بحثًا عن إيقاعات ألحانه وهو أمر صعب.. لكن الرياحي كان يفضلها عن بقية الآلات الموسيقية الأخرى
الكاتب والصحفي عبد الرزاق كرباكة كان يكتب في مقهى بباب منارة بالمدينة العتيقة بالعاصمة تونس، وكان ركنه معروف ولا يجلس فيه أحد. أما السينمائي النوري بوزيد صاحب "ريح السدّ" المتوّج بالتانيت الذهبي في مهرجان أيام قرطاج السينمائية سنة 1986 وشريط "صفائح من ذهب" و"بزناس" و"آخر فيلم".. فكان عندما يستعد لعمل جديد يخيّر العزلة ببيته والجلوس إلى مجموعة "مباري الأقلام" التي جمعها من أسفاره العديدة يتأملها ويرتبها أو ينشغل بالسفر إلى أمكنة منزوية غير معلومة إلا من قلة قليلة من المقربين منه.
وفيما يلي طقوس وعادات المبدعين التونسيين:
- المسرحي نزار الكشو: الماء هو طقسي المفضّل ومصدر إلهامي
ولمزيد تقصّي طقوس الكتاب والمبدعين والفنانين التونسيين وعاداتهم، اتصل "الترا تونس" بعدد منهم، فهذا المسرحي "نزار الكشو" يقول إنه مع البدايات المسرحية كانت الطبيعة تغريه للتأمل وبلورة الأفكار، فيقضي أوقاتًا أمام البحر يكتب ويرتب الأدوار أو يتوجه إلى الصحراء لتأمل الآفاق البعيدة علّها تساعده على إنهاء النصوص المسرحية العالقة أو تحل العقد الدرامية.. لكنه مع تقدم التجربة، وتحديدًا منذ سنة 2009 يؤكد الكشو أن أماكن الإلهام قد تغيرت، فأصبح يحبذ البقاء بالمنزل قرب مكتبته ووثائقه يقضي الساعات بين الكتب، لكنه أيضًا لا يكاد يخرج من مغطس الحمام المنزلي.
ويضيف "نزار الكشو" أن هذا التصرف قد يبدو جنونيًا لكنه أصبح راسخًا بالنسبة إليه، فحتى عندما يقيم بنزل فإنه لا يغادر المسبح، وأضاف أنه يعتقد جازمًا أن الماء هو مُلهمه ومصدر سعادته في هذه اللحظة من مساره الإبداعي. وأوضح المسرحي التونسي نزار الكشو أن علاقة المبدعين بالماء وطيدة إيمانًا منهم بأن الماء ليس مصدرًا للحياة فحسب، وإنما هو محفز للملكات الكامنة داخل المبدع على الانتعاش والتجلّي.
- الشاعر والروائي نصر سامي: "من عاداتي الجديدة أن ألتقط بعض جمل رواياتي وأحولها إلى قصائد أو بعض الشخصيات فأرسمها على لوحة"
الشاعر والروائي التونسي "نصر سامي" أوضح لـ"الترا تونس" أن طقوسه تتعلق أساسًا بالزمن، إذ يقول إنه ينضبط تمامًا خصوصًا أثناء كتابة الرواية. فهو يكتب لمدة ثلاث ساعات يوميًا، سواءً بالصباح الباكر أو بالمساء لمدة خمسة أيام متتالية.. ويؤكد نصر سامي أن هذا النظام يمكّنه من السيطرة بشكل دقيق على العمل الإبداعي خصوصًا في مراحل الانشغال بخطابات شخصيات العمل والأمكنة ومتابعة حركة الأحداث: "لأني دائمًا ما أريد أن أعطي لعملي معنى فلسفيًا عميقًا".
ويضيف نصر سامي أن "هذه المرحلة المنتظمة عادة ما تكون رتيبة ثقيلة لكنها سرعان ما تتغير حين تصبح مدينة السرد آهلة وحقيقية، وتصبح المصائر والهويات واضحة تتولّد بكيفيّة لم يتم التخطيط لها، كأنّها زهيرات برية لم يقم الكاتب بزرعها، وتأتي أفكار مؤلمة وأخرى مفرحة فتصبح الرواية بهذا المعنى سكنًا تحمله معك أينما حللت".
اقرأ/ي أيضًا: دكاكين الكتب القديمة في "الدباغين".. أرشيف لحفظ الذاكرة
ويوضح الكاتب نصر سامي أن كل التلذّذ المذكور قد ينتهي حين يصل إلى نهاية العمل حيث يتوجب عليه أن يصبح حادًا وقاطعًا وصارمًا وأن يتحمل كل مسؤوليات مدينة السرد التي أنبتها من مكامن التخييل والتي تصبح أحيانًا منفلتة، فيضطر إلى المزيد من الوقت حتى يحسم أمرها. ومن العادات الإبداعية التي يمارسها الشاعر و الروائي نصر سامي وهي المرحلة الأمتع بالنسبة إليه، أن يقرأ، أو ما يسميه هو بـ"التجويد"، حيث يقوم بزبر ما تغوّل من الشجرات وتلقيم الأعواد وعزق الأرض وبذر البذور فيقول: "قد تفاجئني نفسي بأمور ساحرة في شكل تشابيه واستعارات، وقد أستبدل اسمًا باسم وقد أنشئ تفاصيل جديدة، وهذا يعطي لعملي طعمه الخاص وبصمته المختلفة..". وختم سامي بأن عادات جديدة آخذة في التشكل وهي أن بعض جمل رواياته الجديدة تكون بدايات لقصائد جديدة، وكثيرًا ما تخرج بعض الشخصيات لتتحول إلى لوحة تشكيلية.
- الفنان التشكيلي نزار مقديش: الهدوء والسكينة والتأمل..
الفنان التشكيلي نزار مقديش يرى أن أي عمل فني يكون منطلقه الأساسي هو فكرة في ذهن الفنان وداخل مخيلته كي يشرع في البحث لها عن أساليب لبلورتها ومن ثمة تجسيدها على أرض الواقع. ومن مقومات التنفيذ نجد التركيز وتوفير الأجواء المناسبة الدافعة نحو ممارسة إبداعية سليمة وهي ما نسميه بالطقوس التي يدخلها المبدع ويجعلها معطى أساسيًا قبل الدخول في أي مشروع فني. ويضيف الفنان التشكيلي نزار مقديش أن هذه الطقوس التي تستبد بالفنان وتسمى بلحظة الإلهام، هي مجرد إثارة قصوى للدماغ عبر ذبذبات تطلقها هذه الطقوس التي تختلف من فنان إلى آخر حسب التركيبة النفسية والمنطقة الجغرافية والمحيط والثقافة ومدى طول التجربة الإبداعية.
وبالنسبة لتجربته الشخصية يوضح مقديش أنه كلما انطلق في مشروع فني فإنه لا يطلب من نفسه سوى طقس واحد وهو توفير الهدوء والسكينة المطلقة وذلك قصد التفكير والتأمل حتى تكون خطة العمل مميزة ومختلفة عن سابقاتها خاصة وأنه يشتغل على مجال شاسع إبداعيًا ألا وهو الفوتوغرافيا.
- الشاعر الشاذلي القرواشي: "عندما تستبد بي طقوس الشعر يضمحل الوجود وأستوعب كل شيء في داخلي"
الشاعر الشاذلي القرواشي أشار في بداية تدخله مع "الترا تونس" إلى أن طقوس الشعر عديدة قد تختلف من شاعر إلى آخر، ولعل من طبيعة الشعر هو أن يأتي الكلام على خلاف ما نقوله أثناء التعامل اليومي بوصفه أداة تواصلية. لذلك لكل شاعر إرهاصاته وسلوكه اليومي أثناء لحظة المكاشفة الشعرية، فبالنسبة إليه عندما يشرع في القصيد فإن الوجود يأخذ في الاضمحلال ويتحول إلى استيعاب كل شيء في داخله، ويصبح الكون مجرد ظلال، ويشعر أنه مشحون بطاقة استثنائية تصير بمقتضاها الكائنات تتزاور على نحو تلقائي وتصبح الدوال هي المدلولات وتسمّي نفسها بنفسها.
ويضيف الشاعر الشاذلي القرواشي أنه عندما يروم الكتابة الشعرية فإنه يدخل في حالة من الشفافية القصوى التي يغيب فيها الشاعر جزئيًا عن ذاته ويطل على المطلق واللامحدود، وعندما يفرغ من قصيدته يقول القرواشي إنه يشعر بشيء من الوهن بعد أن يكون قد استفرغ كل طاقته في الحروف التي كونت نسقًا كلاميًا خارجًا عن المألوف والعادي الذي يسمّى الشعر.
- المخرج السينمائي أنيس الأسود: طيلة المشروع السينمائي يستبد بي الخوف..
المخرج السينمائي أنيس لسود يقول لـ"الترا تونس" إنه صاحب شخصية سمتها السعي إلى الدقة في كل شيء، وخصوصًا في الفن. السينما بالنسبة إليه هي أصعب مهنة في العالم، إنها تسريد الحياة وحكيها بالصورة، تارة بالتوثيق وطورًا بالتخييل.. وهذا حسب اعتقاده هو مسؤولية ليست بالهينة أمام المتفرج وأمام التاريخ، لذلك هو يخاف كلما شرع في عمل سينمائي جديد إذ يقول: "يستبد بي الخوف في كل مراحل العملية الإبداعية، من اختيار أمكنة التصوير ومن تقنيي التصوير ومن اختيار الممثلين ورحلة التركيب والميكساج..".
ويختم المخرج أنيس الأسود بأن هذا الخوف سرعان ما يزول عندما تضاء قاعة السينما بعد العرض الأول وأرى وجوه الناس وأقرأ مباشرة الرسائل المرسومة على وجوههم.
طقوس الكتابة والإبداع هي كالبحث في تجويف لامرئي بحثًا عما يسميه الفيلسوف غاستون باشلار بـ"اللحظة الحالومية" التي يتأتى منها الإلهام الذي سرعان ما يتحول إلى فن مخلّد عبر كل الأزمان.. ولكل مبدع طقوسه وعاداته، لكن في النهاية فإن لحظة المكاشفة واحدة، حتى أن الأساطير العربية تنقل لنا تيه شعراء الجاهلية في "وادي عبقر" اعتقادًا منهم أن شياطين الشعر تسكن هذا الوادي وأن لكل شاعر شيطانه، وعليه أن يتوه في هذا المكان القفر والفسيح حتى يلتحم بشيطان شعره، عندها فقط تأتي القصائد منضّدة وفي قمة إبداعها.
اقرأ/ي أيضًا:
"نازلة دار الأكابر".. الطاهر الحداد مرآة لتراجيديا الحب والنضال في تونس
في مواجهة كورونا.. رسامون وتشكيليون تونسيون يدعمون المستشفيات ببيع أعمالهم