14-يونيو-2021

أمام منزل "عشرة العمر" للخالة محرزية (صور لسارة خمومة)

 

فوق أريكتها المطلة على شباك خشبي، تجلس الخالة محرزية الإدريسي (84 عاماً)، متكئة على عكازها، في حسرة وألم، تنتظر خبرًا مفرحًا ربما أو قليلًا من الأمل لتستعيد منزل "عشرة العمر" الذي استمدت منه قوتها لعقود، قبل أن تهوي أرضًا حين دخلت القوة العامة وطردتها منه.

السادسة صباحًا، توقيت يُبكر فيه المرء لعمله أو لقضاء حاجته، قد يكون موعد صلاة أو دعاء لكن يوم 27 ماي/آيار الماضي، لم يكن كذلك في دار الخالة محرزية.

الخالة محرزية الإدريسي (84 عاماً) ــ تصوير: سارة خمومة

اقرأ/ي أيضًا: طردت من منزلها الذي تقطنه منذ 70 سنة.. مساندة شعبية للمواطنة محرزية

يُقرع الباب على ساكنيه وكأن من بينهم مجرمًا خطيرًا وجب إيقافه، تهتز الأجساد وتخفق القلوب، سيدة البيت مع ابنتها المريضة تحاول الوقوف، ابنتها الأخرى سارة، التي وجدت في السقيفة ملجأ لها وابنها بعد طلاقها، تركض لفتحه، الأخ في غرفة أخرى، لا يزال متفاجئًا، يُحاول اللحاق بأخته.

بمرارة تروي الخالة محرزية كيف دفعوا الباب الذي كانت تحاول فتحه لتسقط أرضًا ولم يهتموا لوقوعها بل إنهم وضعوا الأصفاد في أيادي أبنائها أمامها وأخرجوهم من الدار حفاة نحو مركز الشرطة

تقول السيدة محرزية لـ"ألترا تونس" إن ترسانة أمنية من عناصر بالزي وأخرى مدنية داهمت البيت ولم تستثن أحدًا من الضرب والاعتداء. وبمرارة تروي كيف دفعوا الباب الذي كانت تحاول فتحه لتسقط أرضًا وهي سيدة تعاني من ألم الركبتين وبالكاد تحمل نفسها، ولم يهتموا لوقوعها بل إنهم وضعوا الأصفاد في أيادي أبنائها أمامها وأخرجوهم من الدار حفاة نحو مركز الشرطة.

تقول محرزية إنّ "حياتها انهارت في لحظة واحدة، خاصة بعد أن قسمتهم الشرطة واقتادتهم إلى مركزي أمن في جهة النصر والآخر في أريانة المدينة، قلبها مع ابنتيها وروحها مع ابنها الآخر وحفيدها.

 

"لم يهتموا لوقوعها بل إنهم وضعوا الأصفاد في أيادي أبنائها أمامها وأخرجوهم من الدار حفاة نحو مركز الشرطة" ــ تصوير: سارة خمومة

 

ستون عامًا، لاح الزمان بعدها بمصيبة حلت عليهم، أشبه بقصص التهجير التي نشاهدها في التلفزيون وأفضع منها، حين يكون الجاني والمجني عليه من طينة واحدة، وأبناء أرض واحدة.

فللمكان مهما تغير الزمان سحره الخاص، فهو يظل شاهدًا على كل مرحلة من حياتنا، سعادتنا وحزننا، شقائنا وغبطتنا. وللمرأة علاقة وارتباط خاص به، فهي صاحبة التدبير فيه، تحفظ زواياه وتبث فيه الطمأنينة والأمان.

اكترت الخالة محرزية وزوجها منزلًا في مدينة أريانة منذ الستينيات وكانا يدفعان أجرته شهريًّا ودون تأخر، ورغم وفاة زوجها منذ 25 سنة، بقيت تسدد المتخلد بذمتها ولم تتوان عن ذلك رغم ظروفها الصعبة. أجرت إصلاحات فيه، أخفت عيوبه وزينت قبحه، ودفنت بئره وجددت بلاطه، وكسته من الحب ما كست صغارها، ولجأت إليه في محنها.

"كنت أبيع الملسوقة في السوق وأصنع الحلالم والنواصر (جميعها أكلات تونسية مكونة من الدقيق)، وأساعد في تحسين البيت إضافة إلى مصاريف البيت ودراسة أبنائي"، تقول لـ"ألترا تونس".

اقرأ/ي أيضًا: السكن في تونس.. حلم المواطن ومشكل الباعث العقاري

يتواصل اعتصامها أمام المنزل، الذي يتميز ببنائه التاريخي ومكانه الاستراتيجي، بمساندة ناشطين ــ تصوير: سارة خمومة

 

السيدة محرزية استأجرت البيت لكن ليست ساكنته الوحيدة إذ تأوي معها ابنة أرملة ومريضة بضيق التنفس، وأخرى مطلقة مع ابنها، وابنها الثالث تزوج فيه وله أبناء فتحوا أعينهم بين جدرانه. تقول إنّ بيتها كان مفتوحًا أمام الجميع، الجيران والأقرباء وعابر السبيل، وهي تملك من الحب ما يسع الكبير والصغير.

يقع البيت في حي يضم مقام الولي الصالح سيدي عمار، قبالة سوق أريانة، المعروف بجودة المنتجات المعروضة فيه وأسعاره المنخفضة نسبيًا عن سوق العاصمة المركزي. وشهد الحي تحولات كبيرة بعد أن باع أغلب سكانه منازلهم ومحلات تجارية ومغازات، خاضعة لمنطق العرض والطلب. وبات إخراج عائلة الإدريسي مسألة عاجلة بالنسبة لأصحاب الملك، لتكتمل الواجهة التجارية وتشوه القيمة الاجتماعية. 

يقع البيت في حي يضم مقام الولي الصالح سيدي عمار، قبالة سوق أريانة وشهد الحي تحولات كبيرة بعد أن باع أغلب سكانه منازلهم ومحلات تجارية ومغازات، خاضعة لمنطق العرض والطلب

والمفارقة أن صاحبة البيت التي كانت تعيش في الطابق الثاني، حظيت برعاية الخالة محرزية، التي قالت إنها اعتنت بها حتى آخر يوم في حياتها، بشهادة كل من يعرفها، خاصة وأنها لا تملك أولادًا من صلبها أو من يعولها. لكنها باعت العقار لابن أخيها قبل أن موتها، ولم تُعلمها بذلك، وكانت المفاجأة حين بلغهم أحد العدول المنفذين أنهم مطالبون بإخلاء المكان وكان ذلك عام 2009.

وفق عائلة محرزية التي التقينا بها فإنّ الهرسلة بدأت من التسعينيات، بعد اتهامها بحيازة منزل دون وجه حق، وصولًا إلى رفع قضية ضدها في المحاكم حتى النطق بالحكم.

وكانت القضية لصالح صاحب العقار، الذي كسبها عام 2011، رغم أنّ العائلة تشكك في المسار القضائي خاصة وأنّ الوثائق التي قدمتها لم تؤخذ بعين الاعتبار، مع الاستقواء بطرف سياسي يُحسب على النظام القديم، وفق العائلة.

ورغم تمسكهم بحقهم في البقاء مطالبين بتسوية "هذه الوضعية الاجتماعية"، إلا أن قرار الإخلاء صار نافذًا وأخرجت الخالة محرزية من منزلها، دون أن تأخذ منه شيئًا، حتى الدواء، لم يسمح لها بحمله.

سيدات ظلمتهن الحياة ولم تنصفهن الدولة بل سلطت عليهن قوانينها، دون إيجاد حلول لمساندتهن أو تعويضن

اقرأ/ي أيضًا: آخر سكّان "الوكايل"... انتظار الموت تحت سقف متداعي؟!

وبدأت العائلة في اعتصام مفتوح أمام المنزل المقفل بقرار قضائي. سيدات ظلمتهن الحياة ولم تنصفهن الدولة بل سلطت عليهن قوانينها، دون إيجاد حلول لمساندتهن أو تعويضن. لكن جمعيات وطنية ومنظمات تُعنى بحقوق الإنسان تقف في صف واحد لإيجاد حل نهائي لملف الخالة محرزية، فإن كانت العودة إلى المنزل مستحيلة، يمكن توفير مسكن قار لها يضمن كرامتها، بعيدًا عن منطق التهجير الطبقي زمن الكورونا.

الخالة محرزية تُمثل آلاف الحالات الاجتماعية، التي لا إرادة للدولة في حلها، تقول الخالة لـ"الترا تونس" إن المسؤولين اقترحوا عليها توفير مسكن لها لمدة خمسة أشهر حتى تجد حلاً، أو البقاء في دار المسنين. تساءلت باكية "ما ذنبي أنا لأهجر من بيتي وأطرد كسارقة أو مجرمة مع أولادي؟". 

جمعيات وطنية ومنظمات تُعنى بحقوق الإنسان تقف في صف واحد لإيجاد حل نهائي لملف الخالة محرزية بعيدًا عن منطق التهجير الطبقي زمن الكورونا

يتواصل اعتصامها أمام المنزل، الذي يتميز ببنائه التاريخي ومكانه الاستراتيجي، بمساندة ناشطين، حتى تجد الدولة حلًا لملف إنساني واجتماعي عالق. 

خرجنا من عند الخالة محرزية تتبعنا نغمة دعائها لنا بالخير والنعم والهناء، ورغم ألمها لا تزال الابتسامة تعلو محياها، ترفع الحجاب فوق رأسها، تمسك عكازها وتعود إلى مكانها، فوق أريكة مطلة على شباك خشبي، يطل منه ضوء لعله يحمل أملاً.

تساءلت باكية "ما ذنبي أنا لأهجر من بيتي وأطرد كسارقة أو مجرمة مع أولادي؟" ــ تصوير: سارة خمومة

 

اقرأ/ي أيضًا:

المساكن المشيّدة على أراضي الدولة.. هل من تسوية للملف؟

ملف المساكن الوظيفية: فساد وإخلالات بالجملة ومساعٍ محتشمة للإصلاح