مقال رأي
نحن نكتب في التحليل السياسي، وأحيانا كثيرة نكتب أكثر من اللازم. نستنطق فاعلين سياسيين ونرصد علاقتهم بالتحولات ونتكلم عن حكومات ودول ومحاور. وجميع هؤلاء الذين نحسب محاورتهم يتكلمون أكثر منا وأفضل منا ويدافعون عن مصالحهم بالتوجيه والدعاية وإن لزم الأمر بالمال والسلاح. نحن مقصرون في التعرف على المصالح السياسية للقوى الاجتماعية "الصامتة"، القوى والتركيبات التي نعاين حركتها النشيطة ولكن لا نلمس لذلك أثرا في المجال السياسي الرسمي. إنها القوى التي فجرت 17 كانون الأول/ديسمبر في تونس. من خارج الأحزاب ومن خارج توقعات التحليل السياسي.
نحن مقصرون في التعرف على المصالح السياسية للقوى الاجتماعية "الصامتة"
مثلما ثبّتت ثورات 2011 التبني الجماهيري لمطلب التغيير بعد عقود من النضال الفئوي الانعزالي والمقموع للمعارضات العربية وأثبت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" وجود قضية عربية واحدة عشية قرن من وعد بلفور وسايكس بيكو واتفاقية سيفر، أعلنت انقلابات 2013 و2014 نهاية "شرعية" النظام العربي الرسمي بعد نصف قرن أو يزيد من تشكله إبان موجات الاستقلال وبناء الدول الوطنية.
من منطلق الوعي بالمدد الطويلة في فهم الظواهر والحوادث التي تحف بالمسار الثوري العربي فإننا نفهم المهمات المطروحة للانجاز باعتبارها ذات طبيعة حضارية واستراتيجية، أي ذات طابع انتقالي من الدولة الغنائمية ما بعد الكولونيالية إلى دولة العدالة الإقتصادية والاجتماعية والكرامة والحرية.
ولأنه انتقال تاريخي، فهو مفتوح على مسارات متعددة، قد تطول أو تقصر، ولكنه في كل الحالات يبشر بالأفق الجديد الذي رسمت ملامحه الثورات. إنه جسر محفوف بالمخاطر والأعداء أو هو ممر ضيق ومظلم وإن دورنا كذوات وتيارات ومكونات بالغ الأهمية في الدفع بالانتقال إلى تحققه. ومن أجل ذلك يجب استنهاض أوسع الطاقات والقدرات وتعبئة أكبر الامكانات وخوض معركة الانتقال ببرنامج تغيير شعبي تنخرط فيه الجماهير الواسعة صاحبة المصلحة في التغيير.
الانتقال الديمغرافي مدخلا لتجديد التعاقدات والمؤسسات
تعيش تونس، على غرار باقي الدول العربية، أهمّ مراحل تحوّلاتها الديمغرافية المتميّزة بفتوة سكانية وطفرة لفئة الشباب، فمتوسط العمر في حدود 29.5 سنة، والفئة العمرية (15 - 29 سنة) تمثل قرابة ثلث السكان، والفئة العمرية (15-24) في حدود المليونين.
المجموعات التي باشرت "الإنفجار الثوري" حيوية وليست هووية، لا مركز لها يمكن شل فاعليتها به ولا قيادة أو بنية هرمية يمكن ضرب عناصرها عبرها
لقد أنتجت التحولات، ولا تزال، ضغوطا قاسية على مستوى فرص إدماج الشباب خاصة الفئات الأكثر هشاشة والفئات الشبابية في "تونس الدواخل" وهو ما تجلى بوضوح في ازدياد نسب البطالة في صفوف حاملي الشهائد وخريجي التعليم العالي وطول فترة الانتظار للحصول على عمل وتعاظم المهن الهشّة في الاقتصاد الموازي الذي تحول إلى مرابض ضخمة للشباب وتأخر سن الزواج وازدياد الطرد الخارجي عن طريق الهجرة غير النظامية والهجرة الرسميّة.
كما تجلّى هذا الضغط على مستوى تدنّي خدمات التعليم، تجهيزات المؤسسات العمومية، السكن الجامعي، الخدمات الجامعية…، والخدمات الصحية الموجهة للشباب، الوقاية، والصحة النفسية والحماية من الإدمان والأمراض الناشئة…، إلى جانب محدودية منظومة الترفيه والوقت الحرّ الملازمة لخصوصية الشباب والمراهقين.
كما أظهر سوق الشغل خللًا كبيرًا بين العرض والطلب مع تحوّل الدولة من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر واستقرار النمو في نسب محدودة كلّ ذلك بالتزامن مع وفرة الشباب المتعلم.
في تونس، وفي مصر، وفي أقطار عربية أخرى يُمكن آستعارة مفهوم "الريزوم"، أو الجُذروم، الذي استخدمه الفيلسوف الفرنسي جيل ديلوز، ليساعد في الكشف عن خصوصية الواقع المحلي من حيث تعدّد المبادرات النابعة من أسفل وتحالفاتها الشبكية. وتتمثل التشكيلات "الريزومية" في المجموعات الشبابية التي باشرت "الإنفجار الثوري" من حيثُ هي مجموعات متعددة، ثرية، غير نمطية وغير تقليدية، بُرهية وموضعية، لا حسابات ضيقة لها ولا تكتيك سياسي أو فئوي، نشطة جدا وغير معروفة، دون "كاريزما" ولا زعامات، متدفقة وخاصة حيوية وليست هووية، لا مركز لها يمكن شل فاعليتها به ولا قيادة أو بنية هرمية يمكن ضرب عناصرها عبرها.
هذه "الريزومات" هي التي تشكلت تدريجيا في حركات، وهي التي استقطبت العناصر الأكثر جذرية واستقلالية ووعيا بأن المسار غيرُ مسبوق ولا يُمكن مواصلته وحمايته إلا بأشكال " تنظم غير مسبوق" ومن هنا يمكن فهم بعض الحركات الشبابية في تونس وفي مصر وفهم أدوارهم وطرائق عملهم وتدخلهم، وفي مجرى الصراع الدائر يكمن التحدي الذي يعترض هذه الحركات في مدى قدرتها على خلق واستنباط مرتكزات عامة لنشاطهم، ونحسبُ أن بعضها باشر ذلك.
مقاربات ثورية جديدة
تفترض الثورة عند الفكر السياسي الحركي التقليدي اليساري بالأساس هندسة نظرية عقَدية محكمة حيث تنهض بأمرها طبقات "ثورية" تنجز مهامها "التاريخية" متى امتلكت "وعيها الطبقي" بمصالحها، وتغلغل هدا الوعي وقف على الحزب الطليعي/الثوري. وبما أن الظرف الموضوعي "لا يسمح"، القمع والاستبداد..، والشرطُ الذاتي غير مُتوفر، غياب الحزب وعدم تغلغل الوعي..، استنتج هؤلاء أن أفق الثورة مقفل وإمكانها مستحيل في الواقع. ولكن ثبت أن التغيير الثوري على الأرض من خلال تجربة 2011 ممكن بمعزل عن هذه الهندسة النظرية العقَدية القائمة على نظرة "طليعوية" أدواتية.
اعتادت التحاليل وجود أو إيجاد "أطراف" "تقف وراء" ما يحدث وسبب ذلك تسليمٌ سائد بعدم قدرة المجتمع العربي على بناء "الذات الفاعلة"، جماعيّاً
وعلاوة على ذلك، اعتادت التحاليل وجود أو إيجاد "أطراف" "تقف وراء" ما يحدث وسبب ذلك تسليمٌ سائد بعدم قدرة المجتمع العربي على بناء "الذات الفاعلة"، جماعيّاً. ولذلك لم يُستسغ القول بفرادة ونموذجية اللحظة الثورية التونسية مثلا، فأن يخترق البلاد، أفقيّاً وعموديّاً، جغرافياً واجتماعياً، مدّ شعبي، بهذه التلقائية الميدانية، خارج كل تأطير قيادي، وبهذا الزخم وهذه السرعة في الحركة والإصرار في طلب الأقصى، فهذا مما يخرج عن الترسيمات المألوفة للثورات.
لقد كانت تحليلات تنظر للواقع من ثقب الإبرة وتكرر نفس ما تقوله، دون آعتبار للمتغير في الواقع وفي مُنتجات المعرفة الاجتماعية والسياسية، منذ ستينات القرن الماضي.
لم تتبن شرائح واسعة من "شباب الثورة" هذا الخطاب التقليدي، أو لم تتعرف عليه أصلا، وربما كان ذلك مكمن قوة لحركتها لأنها لم تقع في شرك الدغمائيات المفوتة. ولأنها تحركت بحرية محايثة للواقع الملموس. لقد عرفت البلاد في 2011 نشوء وتكون عديد المجموعات الشبابية التي بقيت خارج الإستقطاب الإنتخابي الذي استبد بالبلاد وقسمها فسطاطين، حداثيون وإسلاميون، مُعتبرين أن الفرز الحقيقي هو بين بقايا النظام المبثوثة في الإدارة والإعلام والقضاء والداخلية والجهاز الدبلوماسي وبين أنصار الثورة الذين لاتزال ثورتهم في منتصف الطريق، كما أبدت هذه الحركات الشبابية مواقف نظرية متقدمة في علاقة بفهم طبيعة ما حصل من زاوية علم الإجتماع السياسي.
لقد عانت مختلف الحركات الشبابية، في العموم، مما يُشبه "التحيز النخبوي" الذي تحدث عنه المؤرخ الهندي راناجيت غوها إذ تعاملت معهم النخب الإعلامية وحتى الفكرية والسياسية باعتبارهم "قُصرا" غير ناضجين كفاية وفاقدين للفكر والتنظيم السياسي، وهو أمر عجيب حقا، لأن هذه النُخب كان عليها من باب أولى أن تُنصتَ لصناع الحدث وتعدل من نظرتها هي للأشياء بآعتبار وعيها "مفارقا" لواقعها على خلاف هؤلاء الشباب الذي كان وعيهم "محايثا" لواقعهم.
عانت مختلف الحركات الشبابية مما يُشبه "التحيز النخبوي" إذ تعاملت معهم النخب الإعلامية وحتى الفكرية والسياسية باعتبارهم "قُصرا"
إن هذه الحركات هي نُخب الثورة، وشرطُ انطباق الصفة عليها رهينُ قدرتها على البحث والتمحيص في عدة معرفية جديدة تتصدى من خلالها لفهم الواقع في أدق تعقداته وتعاقداته، نخبة حركية وأيضا فكرية بالخصوص، تقتنع بأنْ لا ثورة من دون فكر مبدع وبأن الثورة أكبر من أن تُترك للسياسيين و"أمراء الحرب" يتدبّرون أمرها.
ومجددا، لزام على العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، العربية بالخصوص، عدم إهمال المسألة الشبابية مجددا فهذه الفئة برغم المكانة التي تحتلها في الهرم السكاني وعملية الانتقال الديمغرافي، وكذلك موقعها في التنمية وفي الإصلاح السياسي ، فإنها مع ذلك لم تجد حظها من البحث والدرس، سابقا أو حاضرا، من قبل المشتغلين في حقل علم الاجتماع. ويمكننا هنا الاستفادة مما أنتجه الغرب في ما تعلق بالبحوث السوسيولوجية حول الشباب، التي ارتبطت، لحسن الحظ، بحركات احتجاجية شبابية أعادت تفكيك النسق الاجتماعي والبناء السياسي القائم مثل الانتفاضة الطلابية والشبابية بفرنسا سنة 1968 أو انتفاضة الضواحي سنة 2006.
فإلى متى يتنامى البحث في الوظائف التاريخية، والمجتمعية والثقافية للشباب في الغرب مقابل تكاسل النخب العربية واكتفاء الأنظمة الرسمية بالتعاطي معها باعتبارها مشكلًا أمنيًا فحسب، أليس الحراك العربي الثوري فرصة ذهبية لتجديد علاقتنا بهذا المبحث ومُقاربته بما يُعادل حجمه وتأثيره في الواقع، وباعتباره حلًا تنمويًا وديمغرافيًا وسياسيًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"