منذ صدور كتاب رئيس الحكومة التونسية الأسبق الحبيب الصيد والجدل حوله متواصل سواءً في الدوائر السياسية أو الإعلامية وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب بعض الشهادات التي قدمها الصيد واعتبرت جريئة بالنسبة للبعض أو في غير محلها وهناك من اعتبرها مجانبة للصواب.
الجدل ساهم في رفع بورصة مبيعات المؤلَف، الذي يكاد لا يتوفر في بعض المكتبات لشدة الإقبال عليه من قبل من بلغهم صداه في الغرف المغلقة وحتى الفضاء العمومي.
يحتوي الكتاب على 491 صفحة، يتوشح غلافًا تتوسطه صورته بحجم كبير وغصن زيتون في الطرف الأيمن، كرمزية لملاذ الحبيب الصيد الأول والأخير وهي أرضه، وفلاحته التي كان في كل مرة يذهب إليها ليعود منها محملاً بثقل المهام. فهل أثمرت تجربته في الحكم أم كان زرعًا بلا حصاد؟
صورة الغلاف
يتضمن "حديث الذاكرة" الصادر عن دار ليدرز للنشر، ثمانية أقسام، لم تلق الثلاثة الأولى على مايبدو إشعاعًا ولا تركيزًا إعلاميًا، باعتبارها تتحدث عن نشأته الاجتماعية ومراحل تكوينه، لأن الأهم بالنسبة للرأي العام في الأجزاء اللاحقة بداية من أول مهمة رسمية كُلف بها بعد الثورة التونسية، أو ما يعرف بالمطبخ الداخلي وكواليس الحكم في العشرية الأخيرة.
اقرأ/ي أيضًا: "إلى راضية".. كتاب يجمّع فيه حمة الهمامي نصوصه عن الحقوقية راضية النصراوي
الحبيب الصيد أجاب في بداية حديثه عن سؤالين، سيتبادران حتمًا إلى ذهن أي شخص مهتم بقراءته، الأول "لماذا الكتاب؟" الذي قال إنّه أفرغ فيه ذاكرته وقلبه وهو تسجيل لمسيرته من زاوية شخصية. وهنا نستشف أنّه كانت هناك حاجة ملحة بالنسبة إليه ليقدم لنا كل المعطيات الواردة فيه والقائمة على رؤيته الذاتية.
أما السؤال الثاني فهو "هل قلت الحقيقة.. كل الحقيقة؟" والإجابة هنا كانت في بحر الذاتي والموضوعي والنقدي ربما، أولها "نعم من زاويتي من وجهة نظري مع الاعتماد على ذاكرتي والعديد من الوثائق الرسمية". أما الثانية فكانت "لا لم أقل الحقيقة لأنه لا أحد يمكنه الادعاء بأنه يملك الحقيقة. من جانب آخر يقول إنّه التزم بواجب التحفظ على أسرار الدولة.
- الحبيب الصيد وأسرار الحكم من 2011 حتى 2013
لعل من أبرز المعطيات التي تناولها الكتاب والتي أثارت حفيظة البعض هي ملف مرسوم العفو التشريعي العام، حيث قال الصيد إنّه بعد دعوة الوزير الأول محمد الغنوشي له، للاستفادة من خبرته في إدارة الجانب الأمني والشؤون الجهوية، في حدود الاستشارة عام 2011، قُدمت له أولى الملفات وهو المرسوم الذي ذكرناه سابقًا. وكان للصيد وفق "حديثه" تحفظات عليه ووصفه بأنه يتسم بالارتجالية علاوة على تضمن قائمته "مختلف أصناف مساجين الرأي بمن فيهم الإرهابيين الذين بلغ عددهم 1200 سجينًا بموجب أحكام قانون الإرهاب ومنهم من هو محكوم عليه بالإعدام" (ص 145).
تحدث الصيد عن تحفظاته عن مرسوم العفو التشريعي العام ووصفه بأنه يتسم بالارتجالية علاوة على تضمن قائمته "مختلف أصناف مساجين الرأي بمن فيهم الإرهابيين"
وأشار رئيس الحكومة الأسبق إلى أنّ مجلس الوزراء قد صادق عليه في قراءة أولى يوم 20 جانفي/يناير 2011 تمهيدًا لعرضه على الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.
وأوضح أنه قدم ملاحظات لمحمد الغنوشي حينها فيما يخص إدخال تعديلات على المرسوم، لكنه صدر في النهاية "على علاته بالصيغة التي أرادها زواره"، أي زوار الوزير الأول، على غرار نجيب الشابي وراشد الغنوشي وقيادات من الاتحاد وغيرهم.
وبالعودة إلى التواريخ الواردة في الكتاب فإن الصيد عاد إلى تونس يوم 28 جانفي/يناير 2011، بدأ في التعامل مع محمد الغنوشي يوم 7 فيفري/شباط، فيما صدر المرسوم يوم 19 من الشهر ذاته. فهل كانت تفاصيل الصيد دقيقة خاصة بالنسبة للزيارات؟ لا يعلم ذلك إلا الأشخاص الذين تحدث عنهم.
بعد الضغوطات الشعبية والاحتجاجات ضد وجود محمد الغنوشي في الحكومة، استقال الأخير، وعُين مكانه الباجي قائد السبسي، الذي كلف الحبيب الصيد بمهمة مستشار لديه، ثم وزيرًا للداخلية خلفًا لفرحات الراجحي. وكان منصف المرزوقي رئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، حينها، من أشد معارضي هذا التعيين، وفق الصيد، الذي قال إنه حاول إقناعه بالاستقالة، باعتباره "أحد رموز النظام السابق". وظلت علاقته جافة مع المرزوقي. ووفق الكتاب، كان مقترح الإبقاء على الصيد في وزارة الداخلية واردًا بعد انتخابات 2011، إلا أنّ المرزوقي هدد بالاستقالة من رئاسة الجمهورية إذا ما أبقي عليه في الوزارة.
وجاء اقتراح عمله كمستشار لدى رئيس حكومة الترويكا الأولى حمادي الجبالي، ووافق بعد استشارة الباجي قائد السبسي. وهنا تحدث الصيد عن ثاني أبرز النقاط المثيرة للجدل خلال بداية حكم الترويكا، (ص 243) وهي أن مداولات المجلس الأعلى للأمن كانت تتجه إلى مونبليزير، أين يقع مقر حركة النهضة، "حيث تعرض هناك وتغربل وتطبخ على نار أخرى ثم يعود منها ما يتم الاتفاق عليه ليُحال على الإنجاز فيما يسير الباقي إلى سلة المهملات".
الصيد: مداولات المجلس الأعلى للأمن كانت تتجه إلى مونبليزير، مقر حركة النهضة، "حيث تعرض هناك وتغربل وتطبخ على نار أخرى ثم يعود منها ما يتم الاتفاق عليه ليُحال على الإنجاز فيما يسير الباقي إلى سلة المهملات"
الصيد تحدث عن المرزوقي في علاقة بالمؤتمر الأول للمجلس الوطني السوري المعارض الذي أشرف عليه، في أواخر سنة 2011، إضافة إلى طرده السفير السوري وسحب أي اعتراف بالنظام في دمشق، وهو موقف دعمته حركة النهضة، وشجع وفق الصيد، "عن قصد أو دون قصد التيارات والمجموعات المتطرفة داخل النهضة وعلى يمينها على استنفار الأنصار وخزن السلاح وتسفير الشباب إلى سوريا"، وفقه.
روى الصيد الأحداث التي جرت في تلك الفترة، التي مثلت بالنسبة إليه تجربة فاشلة، استفحلت فيها "السلفية الجهادية" واللخبطة الأمنية، وصولًا إلى أحداث السفارة الأمريكية واغتيال شكري بلعيد، وكانت منطلقًا لظهور جبهة سياسية معارضة تلتها استقالة حكومة الجبالي.
ولا يفوتنا هنا أن الصيد تحدث عن قضيتين مركزيتين في تلك الفترة، الأولى قضية القناصة إبان الحراك الثوري في تونس، التي قال إنّها أقرب إلى الأسطورة من الحقيقة (ص 158). أما المسألة الثانية فهي موقفه من النظام السياسي الذي أفرزته سنوات التأسيس، ووصفه بالهجين والمعطل والأعرج. واعتبر أنّ النهضة ارتكبت خطأ في تجاهل دستور 1959 وكان هدفها من ذلك، السيطرة على مفاصل الحكم والدولة، وفق تقديره.
انتقد الحبيب الصيد النظام السياسي الذي أفرزته سنوات التأسيس ووصفه بالهجين والمعطل والأعرج
اقرأ/ي أيضًا: علاقة التونسي بالكتاب: صور ترويجية مدهشة لمعارض الكتب.. والمؤشرات مقلقة
- من رئيس حكومة إلى مستشار للرئيس بالنيابة
عين الباجي قائد السبسي بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية عام 2014 وفوز حزبه بأغلبية المقاعد النيابية، الحبيب الصيد رئيسًا للحكومة بصفته المستقلة، لاستبعاد "هاجس التغول" لحزب نداء تونس على الحكم وتحقيق التوازن السياسي، وفق ما ورد في الكتاب.
يقول الصيد إنّه بادر بتشكيل الحكومة الأولى التي عرضها على الرئيس وفق قناعاته، بعد المواقف السلبية التي تعرض لها من حزبي النهضة وآفاق تونس، واضطر للتخلي عنها بعد 24 ساعة بسبب ردود الفعل المناهضة. ثم كوّن حكومة ائتلافية جديدة لم يرضخ فيها وفق قوله إلى الضغوطات التي مورست عليه ما عدا تسمية الطيب البكوش وزيرًا للخارجية بعد ضغط من نداء تونس والرئيس.
وبالعودة إلى شهادة راشد الغنوشي التي كتبها في شكل مقال لصحيفة الرأي العام، منذ أيام، تبين أنّها مختلفة تمامًا عن شهادة الصيد، حيث قال إنّ الباجي قائد السبسي هو من أشار على الصيد "أن يُقلع دون النهضة" في البداية بعد أن "استكثر عليها طلبها في أن يضيف لها كتابة دولة رابعة". لكن "سرعان ما استعاد رشده واستجاب لطلبها الزهيد، بما يضمن لحكومته قاعدة برلمانية واسعة" وفق الغنوشي. أي أنّ القرار كان بيد الرئيس وليس رئيس حكومته.
خلال فترة حكم الصيد وقعت ثلاث عمليات إرهابية في مناطق حساسة، ساهمت في ضرب الاقتصاد التونسي وخاصة قطاع السياحة، بل وحتى صورة تونس عند بعض الدول.
تحدث الصيد عن الهجوم الإرهابي على باردو في مارس 2015، وهنا قال إنه من أسباب وقوع العملية: "التراخي ونوع من اللامبالاة، سوء التنسيق بين الهياكل الأمنية، التقصير الفادح في مرافقة حافلات السياح، والتقصير في الحراسة"
تتمثل العمليات في الهجوم على باردو يوم 18 مارس/آذار 2015، (ص 294) وهنا ذكر الصيد معطيات اعتبرها ناقدوه مسيئة لتونس وخارجة عن مبدأ التحفظ الذي يُفترض أن يلتزم به. إذ قال رئيس الحكومة الأسبق إنّ من أسباب وقوع العملية: التراخي ونوع من اللامبالاة، سوء التنسيق بين الهياكل الأمنية، التقصير الفادح في مرافقة حافلات السياح، والتقصير في الحراسة. وذكر أنّ اليابان التي فقدت مواطنين في العملية "عبرت عن غضبها الشديد لما بلغتها معلومة بأن حراس المكان كانوا في المقهى وأنّ بعض الأعوان سلبوا الضحايا وسرقوا بعض المتاع من الجثث الملقاة على الأرض".
ولم يؤكد الصيد هنا أو ينفي صحة المعلومة التي ساقها حول سرقة الأمتعة والسلب.
ثم تم استهداف نزل "أمبريال مرحبا" في سوسة بتاريخ 26 جوان/يونيو 2015، (ص 298) الذي قال إنّه كان بمثابة الكارثة على البلاد، مستنكرًا عدم جدية التعاطي الأمني والبطىء الكبير وعدم النجاعة، من ذلك ذكره "العون الذي سقط في مسبح الفندق وآخر لم يتمكن من استعمال سلاحه".
كشف الصيد في حديثه أمران بعد العملية: الأول أنّه فكر في الاستقالة أو إقالة وزير الداخلية ناجم الغرسلي لكن الوضع السياسي في البلاد لم يكن يحتمل، والثاني أنّه من اختار الغرسلي لتسميته في الداخلية رغم معارضة الرئيس ورغبة النهضة في الإبقاء على سلفه لطفي بن جدو.
عن استهداف نزل "أمبريال مرحبا" في سوسة بتاريخ 26 جوان 2015، استنكر الصيد عدم جدية التعاطي الأمني والبطىء الكبير وعدم النجاعة، من ذلك ذكره "العون الذي سقط في مسبح الفندق وآخر لم يتمكن من استعمال سلاحه"
وبعد تردد الصيد خلال العمليتين الإرهابيتين جاءت عملية شارع محمد الخامس في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وقرر عزل الغرسلي من منصبه، موضحًا أنَه كان هناك تقصيرًا أمنيًا فادحًا.
بعد الأحداث الإرهابية وخطرها واجه الصيد المطالب الاجتماعية على غرار ملف المفروزين أمنيًا، وذكر أنّه كانت هناك العديد من العراقيل والمصاعب التي سماها بـ"التطرف النقابي والسياسي".
وفي بداية عام 2016، كان الحبيب الصيد يعاني من أزمة صحية دفعته للدخول إلى المستشفى ثم المتابعة الطبية، وحز في نفسه قلة اهتمام الرئيس الباجي، الذي كان بصدد تحضير مبادرة رئاسية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، ويبدو أنّ الصيد فوجئ بالأمر حتى أنّه شبهه بالطعنة في الظهر، خاصة أنَ الرئيس كشف عن الأمر في حديث تلفزيوني ولم يعلم به رئيس حكومته.
وتمسك الصيد آنذاك برفض الاستقالة والتوجه إلى البرلمان لطلب تجديد الثقة وفق مقتضيات الدستور، ما دفع بأحد المحيطين بالرئيس إلى توجيه رسالة له مفادها "إما الاستقالة أو التمرميد". وأشار الصيد إلى أنّ موقفه الصارم مع حاشية الرئيس من بين العناصر التي عجلت في رحيله، وفق تقديره.
في بداية عام 2016، كان الرئيس قائد السبسي بصدد تحضير مبادرة رئاسية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، ويبدو أنّ الصيد فوجئ بالأمر حتى أنّه شبهه بالطعنة في الظهر
لكن الصيد عاد إلى قصور الحكم وهذه المرة من بوابة قرطاج، كمستشار سياسي للباجي قائد السبسي، "حتى وإن كان ذلك من قبيل المغامرة بكرامتي في نظر البعض" وفق قوله.
وقال إنّه حدد لنفسه هدفين، الأول إبعاد يوسف الشاهد وتشكيل حكومة تكنوقراط يرأسها عبد الكريم الزبيدي، التي اصطدمت بإصرار الرئيس على استبعاد حركة النهضة من المشاركة في تسمية رئيس الحكومة الجديد، وفشل.
أما الهدف الثاني فهو إبعاد ابن الرئيس "حافظ قائد السبسي" عن النداء، ودعا السبسي الأب إلى إقناع ابنه بالتخلي عن منصبه في الحزب، لكن الرئيس رفض ذلك وصارحه بأنه عاجز عن اتخاذ هكذا قرار ضده. ونظرًا لفشل مهمته استقال من المنصب، ليعود إليه بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي عام 2019، كمستشار لدى رئيس الجمهورية بالنيابة، محمد الناصر، لبضعة أشهر.
وهو ما نفاه الأزهر العكرمي في حوار تلفزيوني مع قناة التاسعة، حيث قال الأخير إنّه "جاء مكلّفاً بطلب من زوجة الرئيس الباجي قائد السبسي مكلّفًا بإسقاط يوسف الشاهد وتعويضه بعبد الكريم الزبيدي، وليس من الرئيس ولذلك فشلت المهمة".
تحدث الحبيب الصيد عن تجربته السياسية في الحكم بعد 2011، التي اتسمت بالفشل مع الترويكا، حيث قدم استقالته بعد خيبة أمله في ما وصل إليه الوضع وفوضى الحكم، وفقه. وتخلى عنه الباجي قائد السبسي بمبادرة سياسية، توجه على إثرها إلى البرلمان الذي أسقطه في 2016. وعبر عن خيبة أمله، خاصة مع الضغط الذي ُسلط عليه ورسائل الوعيد. كما عبر عن استيائه بعد قبوله خطة مستشار سياسي للرئيس في 2018، مع فشل محاولاته في تشكيل حكومة جديدة وإبعاد الشاهد وابن الرئيس.
فكانت تجربة المهام السياسية وخيبات الأمل المتتالية من مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية، ولم يقطف الصيد من حقل السياسة ثماره المرجوة.
اقرأ/ي أيضًا:
حجز كتب عن راشد الغنوشي بمعرض تونس الدولي للكتاب يثير الجدل والانتقادات