22-مايو-2018

الفيس ليس حكرًا على التونسيين (صورة تقريبية)

في مقهى-مطعم بـ"باردو" قبل بضعة أسابيع، جلست قبالتي شابّتان عشرينيّتان وطلبتا طبقي سلطة "سيزار". بعد برهة أحضر النّادل طلب الشابّتين، فما راعني إلاّ وقد أمسكت كلّ منهما بهاتفها الجوّال والتقطت لها صورة مع طبق السلطة. وسمعت إحداهما تقول لصديقتها ضاحكة "كهو نقعد جيعانة أنا على جرد صورة انستغرام". بدا واضحًا من كلام الشابّة أنّ طبق السّلطة لا يكفي لسدّ رمقها لكنّ إغراء التفاخر بـ"الطّعام الصحّي" أمام مجموعة متابعيها كان أكبر من جوعها!

حبّ المظاهر والرّغبة الجامحة في البروز أو "الفيس"، كما يحلو للتونسيين تسميته، هو سلوك اجتماعي يتجلّى في التّباهي بالأشياء والممتلكات التي قد يحصل عليها البعض أحيانًا بعد استدانة ثمنها بدءًا من ساعة اليد ووصولًا إلى السيارة الشخصية، وفي التنافس في إقامة حفلات الزفاف الفاخرة أسوة بقريب أو جار ومزايدة عليه، وفي الاستخدام المبالغ فيه للغات الأجنبية عند الحديث تعبيرًا عن "الرقيّ"، وغيرها من السلوكيات المشابهة. ويعتبر علم النّفس حبّ المظاهر والبروز مرضًا سلوكيًّا  يجعل صاحبه  يحاول التشبّه بالآخرين أو التماهي معهم أو التخفّي وراء شخصية غير شخصيته، وهو قد يعبّر عن شعور بالنّقص يحاول صاحبه من خلال التشبّث بالمظاهر التعويض عنه.

مواقع التواصل الاجتماعي لا يعنيها "عمق" الإنسان بقدر ما تهمّها "صورته"

وقد اتّخذ "الفيس" بعدًا جديدًا إبّان ظهور وسائل التواصل الاجتماعي التي تسمح لصاحب الحساب أن يباهي أمام متابعيه بوسامته أو ممتلكاته أو حياته الخاصّة كما يمكنه أن يعطيهم صورة مغايرة لما هو عليه حقيقة. فخلف الصور السعيدة والجميلة للحفلات والرحلات ومآدب العشاء ولحظات الرومانسية مع الحبيب تختبئ أحيانًا أنفس بشرية غارقة في الحزن والبؤس والديون. لكنّ مواقع التواصل الاجتماعي لا يعنيها "عمق" الإنسان بقدر ما تهمّها "صورته".

اقرأ/ي أيضًا: قصص نباتيين تونسيين في "مجتمع لاحم"..

 

 

 

"الفيس" هو أن تنفق أكثر ممّا تجني

"التّونسي فيّاس يصرف ما في الجيب وينتظر ما في الغيب"، يقول المدوّن توفيق الغضبان لـ"الترا تونس"، شارحًا "يعني أنّه (بايعها بلفتة) حيث أدرك أن الدنيا فانية وأنّه مهما حاول لن يصنع ثروة في تونس فأصبح يعيش لمجرّد العيش".

وعن أهمّ تجلّيات "الفيس" لدى التونسي، يضيف توفيق "ترى التونسيين الّذين يجنون ألف دينار شهريًا ينفقون ثلاثة آلاف بما يجعل المرء والمجتمع في قطيعة تامّة مع واقعهما". ويواصل شارحًا "حتّى أفراد العائلة الواحدة يعيشون طلاقًا (معنويًّا) غير معلن بسبب رفضهم لواقعهم وسعيهم للظهور خلاف ما تسمح لهم به امكانياتهم." ويرجع المدوّن أسباب حبّ المظاهر لدى التونسيين في "كوننا نرى أنفسنا بلد الـ3 آلاف سنة حضارة وخير أمّة أخرجت للنّاس، وبدل أن نعمل ونجتهد لنكون فعلًا أهلًا لهذه المرتبة فإنّنا للأسف نلجأ إلى التحيّل أو التداين".

وكان تقرير البنك المركزيّ حول "الوضعية الماليّة لسنة 2017" قد أظهر أنّ نسبة القروض الاستهلاكية قد شهدت تطوّرًا بنسبة 110 % ما بين 2010 و2017 لتبلغ قيمتها 22،5 مليار دينار. وتمثّل هذه القروض 29% من إجمالي القروض التي تسديها البنوك التونسية وفق المعهد الوطني للاستهلاك ممّا يجعلها أحد أهمّ محرّكات الاستهلاك بالنسبة للأفراد والعائلات في تونس.

نسبة القروض الاستهلاكية في تونس قد شهدت تطوّرًا بنسبة 110 % ما بين 2010 و2017 لتبلغ قيمتها 22،5 مليار دينار

اقرأ/ي أيضًا: المؤشر العربي 2017/2018: أغلب الأسر التونسية تواجه صعوبات في تغطية احتياجاتها

مكرهة أختك لا فيّاسة

"عواطف"، موظّفة وأمّ لأربعة أبناء، تعترف بأنّها "مضطرّة إلى التباهي أمام زميلاتها وجاراتها وصديقاتها وقريباتها كي تبدو مثلهنّ أو أفضل منهنّ". "يجب أن أعيش كما يعشن أو أتظاهر بذلك على الأقلّ كي أحفظ ماء الوجه"، تقول محدّثتنا "حيث أجد نفسي أحيانًا مضطرّة إلى مجاراتهنّ بشراء ملابس جديدة باهظة الثّمن، أو عطور فاخرة مستوردة، أو قضاء عطلة نهاية أسبوع في النّزل، أو الخروج إلى العشاء رفقة العائلة".

وتضيف عواطف البالغة من العمر 45 عامًا لـ"الترا تونس": "أفعل كلّ ذلك مرغمة حتّى لا أشعر زميلاتي أو قريباتي بأنهنّ أفضل حالا منّي. غير أنّني وزوجي موظّفان عموميّان ونعيل أربعة أبناء إضافة إلى تقديم المساعدة المالية لحماتي ووالديّ. كبر الأبناء وكبرت معهم المسؤولية وأنا حريصة على أن يبدوا دائمًا في أبهى مظهر في المعهد أو الجامعة فلا يخفى على أحد أنّ النّاس يقيّمون الآخرين على أساس شكلهم ولباسهم أوّلًا".

تستحضر الموظّفة العمومية التي ترفض وصف "فيّاسة" وتفضّل عليها عبارة "تفعل كما يفعل الناس"، حادثة جرت لها مع زميلاتها في الإدارة قبل بضعة سنوات، فتقول "كانت لدينا سيارة شعبية مستعملة لكن في حالة لا بأس بها. وكنت كلّما أوصلني زوجي إلى مقرّ عملي أطلب منه أن ينزلني في آخر الشارع كي لا تراني الزميلات في سيارة قديمة لأنّ معظمهنّ يملكن سياراتهن الخاصّة والجديدة. وفي إحدى المرّات، صادف أن التقيت بزميلة لي شابّة فرمقتني بنظرة ازدراء ولاحظت بسخرية (وووه عزيزتي كيفاش وصّلاتك هاذي لهوني؟)" .

تبتسم عواطف بمرارة قبل أن تختم بالقول "لم يكن قد مضى علينا وقت طويل منذ أنهينا سداد قرض المنزل وقرّرت يومها أن أحصل على قرض آخر لاقتناء سيارة جديدة. وفعلت".

درصاف الصيد (أستاذة جامعية) لـ"الترا تونس": الاستعرائية والفيس دليل على خلل نفسي كأن يكون الشخص غير راض عن نفسه أو مستشعرًا لنقص ما في شخصيته

الفيس على مواقع التواصل الاجتماعي... أو الاستعرائية

تصف درصاف الصّيد، أستاذة جامعية، حمّى "الفيس" واستعراض الحياة الخاصّة والممتلكات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي بـ"الاستعرائية" (Exhibitionisme)، حيث "يستعرض التونسي والتونسية تفاصيل حياته بشكل مبالغ فيه، فإذا هو ذهب إلى مطعم فاخر لا يضيّع الفرصة مطلقًا ليعلم جميع الأصدقاء على حسابه بذلك، أو إن هي اشترت ثوبًا أو أكسسوارًا جديدًا لماركة عالمية فيجب أن تريها للجميع على صفحتها بأنستغرام".

"الفيس يظهر أيضا في صور الطاولات المزدانة بأنواع مختلفة من الأطباق وأدوات الطّبخ الثمينة والأثاث الفاخر لغرفة الطعام"، تضيف درصاف لـ"الترا تونس" قبل أن تستدرك "لكن لا يجدر بي أن أنسى طبعًا ذلك النوع الآخر من التفاخر والّذي يجعل النساء ينشرن دائمًا صور الهدايا التي يقدّمها لهنّ أزواجهم مرفقة بتعليق (Merci chéri) (شكرا عزيزي). أعرف زوجات كثيرات يعانين من سوء معاملة أزواجهن لكنّهنّ يحرصن على إظهار خلاف ذلك على حساباتهنّ الشخصية على موقع فيسبوك".

"والعرسان الجدد أيضًا، أولئك الّذين يوثّقون كامل مراحل وأدقّ تفاصيل شهر العسل فيشاركونها مع الأقارب والأصدقاء. أتساءل دائمًا كيف يستمتعون باللّحظة وهم منشغلون بتصويرها ومشاركتها مع الآخرين؟ إنّهم لا يتوانون أحيانًا حتّى عن نشر صور من غرفة النوم في النزل."

وتشرح درصاف "هذا السلوك يكثر عادة لدى النساء حسب رأيي. فكثيرات منهنّ تكون قد تعرّضت قبل الزواج إلى تعليق مسيء من صديقة أو قريبة لها في علاقة بتأخّر ارتباطها مثلًا فتجدها بعد الزفاف حريصة على نشر ذلك الكمّ الهائل من الصّور كرسائل للعائلة والأصدقاء مفادها أن (أنظروا كم أنا سعيدة)".

وتختم الأستاذة الجامعية بالقول إنّ "الاستعرائية والفيس يدلان على خلل نفسي كأن يكون الشخص غير راض عن نفسه أو مستشعرًا لنقص ما في شخصيته فتراه يعوّض ذلك النقص بالحرص على المظاهر الخادعة غالبًا التي لا تعكس حقيقته".

الفيس.. أو "ديمقراطية الاستهلاك"

ينفي أستاذ علم الاجتماع الدكتور المنصف ونّاس أن يكون "الفيس سلوكًا خاصًّا بالتونسيين"، مؤكّدًا أنّ "حبّ المظاهر موجود لدى فئات عديدة في مختلف المجتمعات حول العالم". غير أنّه إذ ينزّل الظاهرة في سياقها المحلّي، يجد لها إمكانيات تفسير مرتبطة بعوامل تاريخية ومستجدّات راهنة.

"أوّلاً، لا يجب أن ننسى أنّ التونسي قد ظلّ طيلة عقود غير قادر عن التعبير عن رأيه أو المشاركة في الحياة العامّة بما يسمح له بالإحساس بقيمته"، يقول ونّاس لـ"الترا تونس". ويضيف "لذلك حاول إيجاد نوع من التوازن عبر حبّ البروز والاهتمام بالمظاهر أي أنّه عوّض نقص مشاركته في الشأن العامّ بالإكثار من الاستهلاك والتفاخر بذلك للتعبير عن الذّات وإبراز الأنا أساسًا".

أستاذ علم الاجتماع منصف وناس لـ"الترا تونس": بسبب تزايد مديونية الأسر المتحصّلة على قروض استهلاكية يزداد العنف بين أفراد الأسرة الواحدة وترتفع حالات الطلاق

ويواصل ونّاس في شرحه للظاهرة "والاستهلاك بما فيه الاستهلاك التظاهري أي الفيس يعكس نوعًا من المساواة وتكافؤ الفرص. فما دام الإنسان يستهلك كالآخرين فإنّ الفوارق بينه وبينهم وبين الفئات المختلفة والجهات والمناطق المختلفة تأخذ في التّلاشي وتتقلّص التباعدات بين الناس. بمعنى أنّ التونسي يسأل نفسه: ما الّذي يمنع أن أستهلك كما يستهلك صاحب شركة ثريّ؟.. فديمقراطية الاستهلاك تبدو كما لو أنّها تعوّض غياب الديمقراطية السياسية."

ونتاجًا لهذه الرغبة في تعويض النّقص "تسجّل تونس نسبًا عالية في إصدار الشيكات دون رصيد والتداين والتحيّل. وبسبب تزايد مديونية الأسر المتحصّلة على قروض استهلاكية يزداد العنف بين أفراد الأسرة الواحدة وترتفع حالات الطلاق والتفكك الأسري. ومن شأن هذا التفكّك أن يدفع بالشباب والمراهقين إلى الانحراف والعنف والتطرّف حيث أظهرت دراسات أنّ نسبة هامّة من الشباب التونسيين الّذين التحقوا ببؤر التوتّر تنحدر من أسر تلاشت فيها الروابط العائلية"، وفق الدكتور المنصف ونّاس.

قد تتعدد أسباب ظاهرة الفيس وتختلف إلا أنها في نهاية الأمر تعكس سلوكًا مرضيًا ولها تداعيات قد تكون وخيمة على الأسر والفرد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

سوسيولوجيا "المروّب".. طفيليات المرح على قارعة الطريق

التنمية البشرية في تونس: بين النبل والشعوذة المبتكرة؟