21-أبريل-2019

احتفالات سنوية خلال منتصف شهر شعبان في المدينة العتيقة بسوسة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

لما تمتزج الأسطورة بالواقع وتبلغ الحكمة مداها في المخيال الشعبي، تبرز التعبيرات الفنية والطقوس الروحانية كتجليات قصوى لذلك المخزون الغائر في أعماق هذا المجتمع. كادت زيارتي منتصف شهر شعبان إلى المدينة العتيقة بسوسة أن تكون زيارة عادية لولا أن اعترضني جمع من الأهالي يحومون في أزقتها وقد تقدّمتهم فرقة من "العيساوية" وبينهم عنز ذي فرو أسود أو كما يسمونه "بالعتروس" هو الذكر البالغ زُيّن بسنجق بألوان الأخضر والأحمر. كان الجمع يتنقل بين زقاق وآخر مرورًا بأنهج ضيقة وكانت الأهازيج تملأ الأرجاء وزغاريد النسوة على عتبات الديار قد جابت الأركان.

احتفالات "الشعبانية" السنوية في مدينة سوسة العتيقة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: "البنقة".. تخمّر الألم ورقصة الانعتاق

هي مظاهر الفرحة وابتسامات العجائز ونظرات شاردة للمارين الذين أخذتهم البهتة فمنهم من آل على نفسه بأن يتجاهل هذا المشهد الفلكلوري، ومنهم من أومأ بجهل هؤلاء، ومنهم من انطوى عليهم بالسب والشتيمة مدّعيًا عليهم بالبدعة في الدين، ومنهم من سعى إلى الكشف عن سرّ من أسرار هذه المدينة العتيقة الضاربة في القدم.

كنت أتبع رجلاً عجوزًا في الستين من عمره يصارع هذا العنز ممسكًا به يوجهه يمنة ويسرة ويدفعه دفعًا وسط الأهازيج والطبلة والمزمار، كانت لحية الرجل البيضاء تتدلى إلى صدره وكان يمتلكه الزهو والفخر بما يفعله وكان من ورائه رجال يتبعونه ويتأملون. وبعد أن مرّ الموكب بزاوية الزقاق، اتجه يمنة نحو نهج "دار العبيد" ثم وقف الجمع أمام بيت مأهول على عتبته كانون يعجّ بالبخور ودخل الناس دارًا خلتها أوّل وهلة بيت عرس أو طهور.

العنز الأسود عنصر أساسي في احتفالات "الشعبانية" (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

لم أتمالك نفسي أن أسأل الرجل الملتحي وهو يمسك عنزه المكسوّ بالقماش ما سرّ هذا المحفل؟ فكانت الإجابة سريعة وبنبرة عالية "هذه شعبانية سوسة وهذا مقام الوليّة الصالحة للًا قمبرة". وأضاف الرجل الملتحي عبد الرزاق في حديثه لـ"ألترا تونس": "من هنا بدأت الحكاية ففي نهج "دار العبيد" كان مقام "للا قمبرة" من هذا المكان بعثت رسائل التحرر والانعتاق وانتشرت رسائل التقوى والورع".

سألناه عن هذه العادة في الاحتفالية فأجابنا: "لما كنت في العاشرة من عمري كنت أتذكر جيدًا هذه الاحتفالية في يوم 14 شعبان من التقويم الهجري السابق لشهر رمضان المعظم إذ كان أهلنا يطلقون عليها باحتفالية "الشعبانية" نسبة إلى تسمية هذا الشهر. في مثل هذا اليوم كان الرجال الثلاثة عبد الرحمان أو المكنى " فوفو" وشخص آخر يدعى " شعيبو " و"عمّ السيد " يشترون عنزًا أسود ويطوفون به مع فرقة السطمبالي انطلاقًا من الولي الصالح "سيدي سعد" ثم يطوفون به الأزقة مرورًا بـ"سيدي بوراوي" وصولًا إلى هذا المكان "للا قمبرة" وقد اجتمع قوم المدينة حولهم وسط الأهازيج و الزغاريد".

"الشعبانية"هي احتفالية تسبق شهر رمضان وتتجاوز رمزيتها طقوس ذبح ماعز وإعداد وليمة إلى بث مظاهر الفرح بقدوم الشهر الكريم

ولم يكن هذا الطواف مجردًا من خلفياته التاريخية والأسطورية السائدة منذ القدم فهذه الاحتفالية اقترنت بفن "السطمبالي" وبتاريخ الزنوج في سوسة. وقد روى لنا أهل المدينة العتيقة من الشيوخ قصة المرأة "للا قمبرة" وكانت رواياتهم الأسطورية المغرقة في الخيال متطابقة.

يقولون إن "للا قمبرة" هي جوهر الأسطورة في زقاق "دار العبيد" إذ كانت تجارة الرق وكان يتوافد الأعيان على هذا السوق ويبتاعون البشر نساءً ورجالًا حتى كان هذا المكان شاهدًا على حقبة من تاريخ هذه الأمة وكان يشهد على معركة التحرر من القيد وكسر أنفة الكبر والاستعباد. وتضيف الرواية أن أسطورة هذه الفتاة "الورعة المحصنة المؤمنة بالله" قد بددّت مفهوم القيد فكسرت الأغلال بإيمانها.

اقرأ/ي أيضًا: حدوة الحصان والخرزة الزرقاء والخُمسة.. عن أشهر أساطير طرد النحس في تونس

ويقولون، في هذا الجانب، يُحكى أن تاجرًا كبيرًا قد اشتراها وهي الفتاة الصغيرة السمراء الحسناء الفائقة في الجمال المعروفة بدينها وتقواها ولكن قبل أن يصطحبها أودعها بيتًا صغيرًا في النهج وأغلق عليها المنافذ ريثما يعود بعد أن يقضي بعض حوائجه في الأسواق المجاورة، ولكن المرأة لم تطق أن يبتاعها هذا الرجل وانزوت في هذا البيت حبيسة حزينة، ولما جاء لاصطحابها فتح القوم البيت فلم يجدوها بل وجدوا طائر "القبرة" مكانها ولم يعثر على أثر لها بعد ذلك فسميّ المكان بـ"للا قمبرة" واتخذه الأهالي مقامًا لوليّة صالحة إلى يوم الناس هذا.

بذلك، لما اقترنت قصتها الأسطورية بالورع والتقوى، كانت "الشعبانية" إحدى الاحتفاليات التي تسبق شهر رمضان، شهر العبادة والعتق من النار، وتتجاوز رمزيتها هذه الطقوس من ذبح ماعز وإعداد وليمة إلى بث مظاهر الفرح والسرور بقدوم شهر كريم.

مقام" للا قمبرة" في نهج "دار العبيد" في مدينة سوسة العتيقة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

وفي لقاء مع "ألترا تونس"، يقول مراد البحري، رئيس لجنة السياحة والتراث ببلدية سوسة، إن هي "الشعبانية من العادات والتقاليد التي تختلط فيها الأسطورة بالواقع "ونحن إذ نحتفي بها فإنما نحيي التراث اللامادي للمدينة العتيقة ونصبو إلى ما ورائه من بث الفرحة والسعادة على محيا الأهالي. واليوم "الشعبانية" يختلط فيها الفن الإفريقي بالفن الأمازيغي وبالعادات والتقاليد الإسلامية".

وخلال مقابلتنا بمحمد السوداني، وهو أحد سكان المدينة العتيقة، حدّثنا عن توارث إحياء هذه العادة عن آبائه وأجداده، وقد حرص في لقائنا معه على التأكيد على ما أسماه "قداسة هذه الطقوس" في عائلته وعن عمق تعبيرها عن تاريخية أسرته وبالتالي لن ينثني على الحفاظ على عادات تركها له أجداده وفق تعبيره.

مراد البحري (رئيس لجنة السياحة والتراث ببلدية سوسة): الشعبانية من العادات والتقاليد التي تختلط فيها الأسطورة بالواقع ونحن نحتفي بها من أجل إحياء التراث اللامادي للمدينة العتيقة

عند منتصف النهار، كان الجمع في المدينة العتيقة قد التحق بمقام "سيدي عبد القادر" بعد طواف بالأزقة فتمّ ذبح الماعز واشترك الأهالي في طهيه وإعداد الوليمة عند العشاء. ولما أسدل الليل ستاره، تعالت أهازيج "السطمبالي" وعلى وقع الايقاعات الإفريقية والأغاني بـ"العجمي" وقعقعات الشقاشق والطبول وأصوات الفرح والانتشاء، التف سكان المدينة العتيقة ليشاركوا أعضاء الفرقة الرقص والغناء.

وتعكس أهازيج "السطمبالي" مشاعر المعاناة التي قاسى منها الزنوج في تونس قبل إلغاء الرق سنة 1846، فلم تكن تعبيراتهم إلا نضالًا من أجل الحريّة وإصرارًا على كسر الأغلال. وليست هذه الإيقاعات مجرد مشهد فلكلوري بل مكوّن ثابت من مكوّنات الثقافة الشعبية في تونس.

مراسل "ألترا تونس" مع أحد أعضاء فرقة "العيساوية" في احتفالات "الشعبانية" (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

اقرأ/ي أيضًا:

السطمبالي بين الأهازيج والموسيقى.. أين يكمن العلاج؟

شلل النوم أو "بوتلّيس".. بين المعتقدات الشعبية والتفسير العلمي