23-نوفمبر-2018

اختار اتحاد الشغل الاحتجاج أمام مقر البرلمان بدل مقر الحكومة (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

قبل يوم من تنفيذ الإضراب العام في الوظيفة العمومية الذي دعت إليه المنظمة الشغيلة إثر انسداد باب التفاوض مع الحكومة حول الزيادات في الأجور، جلست في مقهى "الرولي"، إحدى أعرق المقاهي بضاحية باردو، وقد كانت الساحة تستعد لاستقبال النقابيين والمحتجين من الموظفين. لاحظت حضورًا أمنيًا مكثفًا، ونقابيين بصدد تركيز لافتات تحمل شعارات احتجاجية، وتساءلت: لماذا اختار اتحاد الشغل الاحتجاج في باردو (مقر البرلمان)؟ أليست القصبة (مقر رئاسة الحكومة) أولى بهذا التجمع الاحتجاجي؟

 لماذا اختار اتحاد الشغل الاحتجاج في باردو (مقر البرلمان)؟ أليست القصبة (مقر رئاسة الحكومة) أولى بهذا التجمع الاحتجاجي؟

إنّ الأمكنة المشحونة برمزيتها وتاريخها، والتي عادة ما يقصدها التونسيون للتعبير عن أفراحهم أو احتجاجاتهم، هي أمكنة معلومة لدى الجميع، ولكن ساحة باردو لم تكن لها أية كاريزما قبل الثورة مقارنة بساحات أخرى مثل ساحة محمد علي الحامي (مقر الاتحاد العام التونسي للشغل) أو ساحة القصبة أو ساحة باب سويقة القريبة من مقر نادي الترجي الرياضي التونسي.

باردو هي عاصمة الحكم الحسيني أيام المملكة التونسية، ثم أصبحت مقر السلطة التشريعية منذ إعلان الجمهورية في 25  جويلية/يوليو 1957 إلى اليوم. عرفت المنطقة عدة أحداث بعد الثورة، لكن يبقى "اعتصام الرحيل" الذي انطلق يوم 26 جويلية/يوليو 2013 هو أهم حدث احتجاجي سياسي عرفته ساحة باردو في تاريخها، والذي دفع نحو الانطلاق في الحوار الوطني ومنه استقالة حكومة الترويكا 2 وتشكيل حكومة تكنوقراط مع الاتفاق على التعجيل في كتابة الدستور.

اقرأ/ي أيضًا: الإضراب في الوظيفة العمومية.. لهجة "حادة" للطبوبي وترجيح التصعيد

ومن هذا المنطلق، تأتي عديد الأسئلة: هل يريد التجمّع العمالي الاحتجاجي بمناسبة الإضراب العام الاستنجاد بتلك اللحظة التاريخية لـ"اعتصام الرحيل"؟ ماهي الرسالة التي يريد إتحاد الشغل إيصالها للبرلمان الذي عرف مؤخرًًا تشرذمات حزبية وبيع ذمم سياسية على وقع سعي بعض أطرافه للإطاحة بالحكومة لمآرب سياسوية حزبية بالأساس؟ هل يريد اتحاد الشغل القول إنه الضمانة الأولى للديموقراطية وللحريات، والمحرار الاجتماعي لهذا البلد، وأنه وحده القادر على تعديل الحياة السياسية كلّما تغول طرف وأراد الهيمنة على السلطة؟ هل من رسالة مضمونة الوصول من الاتحاد إلى الصناديق الدولية المانحة والبنوك الدولية المقرضة بإجحاف تحت وطأة الدول الامبريالية المتحكمة في ثروات العالم عبر شركاتها العابرة للقارات؟

 يبقى "اعتصام الرحيل" الذي انطلق يوم 26 جويلية/يوليو 2013 هو أهم حدث احتجاجي سياسي عرفته ساحة باردو في تاريخها

غادرت مقهى "الرولي" بباردو محمولًا بتلك الأسئلة وغيرها بعد أن أغلق الأمن كل المداخل استعدادًا لأول إضراب عام في الوظيفة العمومية تعرفه تونس، مع العلم أن إضراب "الخميس الأسود" 26 جانفي/كانون الثاني 1978 يظل الإضراب العام الوطني الأكثر أهمية في تاريخ البلاد، وقد كان إضرابًا دمويًا أدى لسجن النقابيين على رأسهم أمين العام الاتحاد وقتها الحبيب عاشور.

وكما توقع المراقبون داخل تونس وخارجها، امتلأت ساحة باردو في اليوم الموعود، يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، بالوافدين من موظفين محتجين على ظروفهم المعيشية المتدهورة إضافة للمساندين لهذا الإضراب من مجتمع مدني وأحزاب معارضة وشخصيات اعتبارية. وهو مشهد مجيد يعطي صورة جميلة على الديمقراطية الناشئة في تونس رغم هشاشتها الداخلية.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الإضرابات العامة في تونس.. من الخميس الأسود إلى إضرابات اغتيال الشهيدين

لكن الإجابة على الأسئلة المطروحة سابقًا والهواجس تجلت في أمرين أساسيين هما: قدرة اتحاد الشغل على التحشيد وكلمة أمينه العام نورالدين الطبوبي.

إذ تأكدت، بداية، قدرة المنظمة الشغيلة على الحشد حتى أنه ثمة من يرى أن التجمعات العمالية في السنوات الأخيرة باتت تشبه الاجتماعات الحزبية في شعاراتها المرفوعة وفحوى خطبها. وأقدّر أن اتحاد الشغل استقصد ذلك في غمز موصول لأحزاب تتشدق إلى حد التهديد بالتحشيد في الشارع، إذ يريد أن يؤكد الاتحاد أنه قوة ضغط وتعديل داخل المجتمع وله تقاليد موروثة في تاريخه النضالي.

أما بخصوص كلمة أمين عام المنظمة الشغيلة نورالدين الطبوبي، فقد جاء بعضها مشفرًا وخاصة تلك الإشارات الموجهة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد ولممثلي صندوق النقد الدولي في تونس الذين كانوا ينتظرون كلمة الاتحاد في هذا التجمع الاحتجاجي حتى يعدوا أنفسهم لمفاوضات الاقتراض القادمة.

تأكدت قدرة المنظمة الشغيلة على الحشد حتى أنه ثمة من يرى أن التجمعات العمالية في السنوات الأخيرة باتت تشبه الاجتماعات الحزبية في شعاراتها المرفوعة

أما الرسائل الواضحة للطبوبي، فكان شق منها موجه للسياسيين وللنواب متهمًا إياهم بالفشل الذريع في مستوى تصوراتهم وتصورات أحزابهم للسياسات التنموية والاقتصادية والاجتماعية، واعدًا إياهم بأن الاتحاد سينافسهم في الاستحقاقات الانتخابية القادمة ليس بالمشاركة المباشرة وإنما بتوجيه منظوريه وتوعيتهم التوعية السياسية اللازمة حتى يتجنبوا انتخاب من هم في الحكم الآن.

فيما توجه الشق الآخر من الرسائل إلى عامة التونسيين مفاده أن اتحاد حشاد الذي قال ذات يوم قولته الشهيرة "أحبك يا شعب" لن يتخلى عن أدواره الأساسية في نصرة الفقراء والشغالين والعمّال بالفكر والساعد.

يبدو هذا الإضراب العام للوظيفة العمومية في ظاهره إضرابًا احتجاجيًا مطلبيًا في ظل لحظة تاريخية تتسم بوضع معيشي متدهور، غير أن باطنه مشحون بمعان أخرى ربّما تؤدي إلى تغير الأحوال نحو الأحسن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العتبة الانتخابية الجائرة والانتقال الديمقراطي

توماس فريدمان و"إعلام العار"!