قبل وفود نبتة التبغ من الولايات المتحدة الأمريكية إلى تونس عن طريق التبادل التجاري مع البلدان الأوروبية سنة 1830، كان التونسيون "يُكيّفون" أنفسهم عن طريق نباتات أخرى مخدرة مثل التكروري والخشخاش وعن طريق خلطات من "النفّة" تأتي عن طريق بدو الصحراء الإفريقية الكبرى ومن الشرق العربي.
وبالنظر إلى الشهرة الكبيرة التي حققتها نبتة التبغ في ذلك الوقت لدى عامة التونسيين أنشأت الدولة الحسينية بين 1870 و1876 أول إدارة تجارية استأثرت من خلالها بتوزيع التبغ. وفي سنة 1877 فوّت باي تونس لأحد المزارعين في استغلال التبغ وتحويله إلى سجائر.
بَيْد أنّ عمليات غش عديدة حصلت في الأثناء، فقررت سلطات الاحتلال الفرنسي التدخل سنة 1890 لمقاومة عمليات الغش الحاصل بإنشاء مؤسسة تنظم هذا القطاع في كامل البلاد. وفي سنة 1891 أُلحق بهذه المؤسسة قطاعان آخران هما الملح والبارود. وإبان الحرب العالمية الأولى تولت "إدارة التبغ" كل عمليات التموين الخاصة بالسكر والشاي والأرز وشمع الإنارة.
- تاريخ الشيشة في تونس
رغم حيازة السجائر لكامل جغرافيا "الكيف" في تونس نتيجة لتأصيل اجتماعي حدث عبر ما يناهز القرنين من الزمن إلا أن الشيشة لها تاريخ محايث في تونس فقد صمدت أمام سطوة السجائر والنفة وظلّت ذات حظوة كبيرة لدى التونسيين عبر الأزمان
خلال السنوات الأولى للاستقلال عن المحتل الفرنسي، وتحديدًا في سنة 1964، قامت الدولة التونسية الفتية بإنشاء مؤسسة "الوكالة الوطنية للتبغ والوقيد" ومتعتها بالشخصية المدنية والاستقلال المالي ومنحتها أيضًا كل صلاحيات الاستغلال والاستئثار بكل ما له علاقة بالسجائر من الزراعة إلى التصنيع والتوريد. وألحق بها فيما بعد مصنع التبغ الذي أحدث بمدينة القيروان سنة 1981.
لكن يبدو أن هذا التاريخ الاقتصادي الطويل قد نسف مع كثافة حركة تهريب السجائر من وإلى تونس عبر حدودها الجنوب شرقية وطول الحدود الغربية.
ورغم حيازة السجائر لكامل جغرافيا "الكيف" في تونس نتيجة لتأصيل اجتماعي حدث عبر ما يناهز القرنين من الزمن جعلت نسبة المدخنين مرتفعة للغاية، إلا أن الشيشة (النارجيلة) لها تاريخ محايث في تونس، فهي صمدت أمام سطوة السجائر والنفة، فنجد أغلب المقاهي التونسية وقاعات الشاي الفاخرة بالضواحي الراقية وبالمدن السياحية تقدّم خدمات الشيشة لزبائنها وتُفردها بزوايا خاصة نجد بها ديكورات شرقية وجلسات ساحرة.
الشيشة التي ورثها المجتمع التونسي عن الأتراك بات تبغها يقدّم بنكهات الغلال والنباتات الفواحة والورود، ممّا يضفي على الجلسة أجواء رومنسية هادئة تزيدها الأغاني الشرقية الممنوحة سحرًا على سحر
كما أن الشيشة التي ورثها المجتمع التونسي عن الأتراك بات تبغها يقدّم بنكهات الغلال والنباتات الفواحة والورود، ممّا يضفي على الجلسة أجواء رومنسية هادئة تزيدها الأغاني الشرقية الممنوحة سحرًا على سحر.
- الشيشة في تونس.. إدمان حد النخاع
والشيشة في تونس لها عشاق مهووسون ومدمنون حد النخاع. لا نقاش حول الشيشة مع هؤلاء فهم يدخنونها في الصباح والمساء وفي كل الأوقات.
قصدنا مقهى مخصصًا للشيشة بمدينة منوبة يأتيه المريدون من كل فج عميق، فترى السيارات مركونة على جنبات الطريق المؤدية إليه. ونحن على عتبات المكان يتناهى إلى المسامع صوت الفنان التونسي الهادي الجويني يردد رائعته "تحت الياسمينة في الليل". روائح متقاطعة تغمر الفضاء وحلقات الشيشة منتشرة داخل القاعة الرئيسية للمقهى وعلى التيراس تنبعث من أفواه جلاسها دوائر الدخان المعطر.
عبد المجيد التيمومي (موظف) لـ"الترا تونس: ولعي بالشيشة انطلق منذ كنت تلميذًا إذ كنت أتسلّل من المبيت التلمذي صحبة أترابي لمقهى مجاور من أجل تجربة الشيشة التي بدأت في الانتشار في الأوساط الشبابية في ثمانينات القرن الماضي
كانت الدعوة من قبل الصديق عبد المجيد التيمومي، وهو موظف كهل بوزارة الفلاحة، يأتي يوميًا إلى هذا المقهى القريب من المحطة الرئيسية لمترو منوبة والشهير بخدمات الشيشة.
حدثنا التيمومي عن التزامه اليومي وعلى مدار السنة بتدخين الشيشة. ويذكر أنه تعلق بها مذ كان تلميذًا بمدينة القيروان، فقد كان يتسلل من المبيت التلمذي صحبة جمع من أترابه لمقهى مجاور من أجل تجربة الشيشة التي بدأت في الانتشار في الأوساط الشبابية في ثمانينات القرن الماضي.
ويضيف أن أغلب الرياضيين في تلك الفترة "يشيّشون" بدعوى أن الشيشة توسع صدر اللاعب وهو ما جعلهم يمارسون هذه العادة تشبّهًا بالرياضيين، وقد تأكد لديه فيما بعد أن تلك المعلومات خاطئة ومجانبة للحقيقة وأنّ الشيشة هي خطر على صحة الإنسان ويمكن أن تتسبب في أمراض خطيرة.
وأشار محدثنا إلى أنه يأتي كل مساء إلى هذا المقهى حيث يلتقي مجموعة من ندماء الشيشة، فيتحلقون حول مريدتهم التي يقلّ الحديث في حضرتها ويكثر التأمل، فلا تسمع سوى صوت بقبقة المياه وهي تختلط بالدخان ليتناثر في الهواء عبر الأفواه وفتحات الأنوف.
عبد المجيد التيمومي: ثمن الشيشة الواحدة بجميع متمماتها من مشروبات وماء معدني في مقهى شعبي قد لا يتجاوز 10 دنانير بينما نفس تلك الشيشة قد يتضاعف ثمنها ثلاث مرات في الضواحي الراقية
وبيّن التيمومي أن ثمن الشيشة الواحدة بجميع متمماتها من مشروبات وماء معدني في مقهى شعبي قد لا يتجاوز العشرة دنانير تونسية، وأن نفس تلك الشيشة قد يتضاعف ثمنها ثلاث مرات في الضواحي الراقية وبمقاهي ضفاف بحيرة تونس.
- المولعون بالشيشة.. زبائن مبجلون في المقاهي
ومن جهته، أوضح أحمد والمكنى بـ"حميدو"، وهو نادل قديم بنفس المقهى المذكور، أن الزبائن المولعين بالشيشة هم من نوعية خاصة لذلك يوفر لهم هذا المقهى كل الظروف المطلوبة من "نارجيلات" مستوردة من الشرق الأوسط بتزويقات مختلفة وتحمل ألوان الجمعيات الرياضية التونسية والعالمية و"جبادات" و"مباسم" من الأنواع الجيدة وفحم تونسي ذي جودة عالية.
أحمد (نادل) لـ"الترا تونس": الزبائن المولعون بالشيشة مبجلون في المقاهي وتوفّر لهم كل الظروف الملائمة لا سيّما وأنهم أسخياء فهم يستهلكون المشروبات من شاي وقهوة وعصائر فاخرة ويدفعون بقشيشًا جيدًا
وأضاف أن الخصوصية تكمن في كونهم من مدمني الشيشة، فمنهم من يأتي مرتين في اليوم أو ثلاث مرات أحيانًا، ومنهم من يبقي "دوزانه" (أي شيشته الخاصة وجباده ونوع المعسل الذي يستهلكه عادة) في خزانة بالمقهى درءًا لأي اختلاط مع باقي الزبائن، وهؤلاء المميزون يذكر "حميدو" أنهم أسخياء فهم يستهلكون المشروبات من شاي وقهوة وعصائر فاخرة ويدفعون بقشيشًا جيدًا.
وأوضح النادل أن عدد روّاد المقهى الذين يستعملون الشيشة طيلة اليوم قد يتراوح بين 100 و150 شخصًا، مشيرًا إلى أنّ صاحب المقهى يضع على ذمتهم فريقيْ عمل واحدٌ في الصباح وآخر في المساء، وكل فريق يتكون من خمسة نُدُل.
أحمد (نادل): عدد روّاد المقهى الذين يستعملون الشيشة طيلة اليوم قد يتراوح بين 100 و150 شخصًا.. وصاحب المقهى يضع على ذمتهم فريقيْ عمل واحدٌ في الصباح وآخر في المساء وكل فريق يتكون من خمسة نُدُل
وحدثنا "حميدو" عن زبائنه قائلًا إنّهم من أعمار مختلفة وهم يحبذون الهدوء والاستماع إلى الأغاني الطربية وفي بعض الأحيان يتابعون مباريات كرة القدم الوطنية والعالمية.
أما مهدي الغزواني، وهو موظف بفرع بنكي ولم يتجاوز الأربعين من العمر، فقد تحدث لـ"الترا تونس" بشغف عن معشوقته الشيشة، ذاكرًا أنّه نشأ في عائلة "شيّاشة" على حد تعبيره، موضحًا أن والده وأعمامه الثلاثة يدخنون الشيشة وقد شهد وهو طفل جلسات الشيشة التي تشبه الاحتفالات والتي ينظمها والده بمنزل الجد مساء كل سبت طيلة سنوات.
مهدي الغزاوني (موظف ببنك): سافرت لمصر خصيصًا من أجل التزود بالنرجيلات المزوقة واقتناء "المعسّل" ومتمماته من المنكهات الخاصة إذ أن مصر معروفة بأسبقيتها في هذا المجال
وقال إنه كان في ذلك الوقت يجرب تدخينها خلسة إلى أن أصبح من مدمنيها عندما شبّ وهو إلى اليوم يمارس هذه العادة أربع مرات في اليوم سواء بالمقهى أو بالمنزل.
وتحدث الغزواني عن سفراته المتتالية إلى دولة مصر صحبة بعض أصدقاء الشيشة فقط من أجل التزود بالنرجيلات المزوقة واقتناء "المعسّل" ومتمماته من المنكهات الخاصة، موضّحًا أنه يوجد في مصر أصناف شتى ولها أسبقية في هذا المجال.
وأضاف أنه سافر أيضًا مرة واحدة إلى تركيا من أجل اكتشاف عالم الشيشة في هذا البلد حيث وجد أصنافًا جديدة تنجز بحبات البرتقال والمانجا وغيرها.
- للشيشة عشاقها من الفتيات
الشيشة لها عشاقها من الفتيات وهنّ يرتدن مقاهيًا بعينها، خصوصًا بالضواحي الراقية مثل المرسى وسيدي بوسعيد وقرطاج والبحيرة وحي النصر.
الشيشة لها عشاقها من الفتيات وهنّ يرتدن مقاهيًا بعينها، خصوصًا بالضواحي الراقية مثل المرسى وسيدي بوسعيد وقرطاج والبحيرة وحي النصر
تذكر أمينة، وهي شابّة تعمل بقطاع تجارة الملابس، أن خطواتها الأولى مع الشيشة كانت في منزل العائلة، فوالدها كان يعد جلسات الشيشة في شرفة المنزل وكانت هي تسهم في ذلك الإعداد فتوقد نار الكانون وأحيانًا يكلفها والدها بخلط مادة "المعسّل" أو غسل الشيشة.
وأوضحت أنها كانت في الأثناء تجرّب تدخين الشيشة خفية بين الفينة والأخرى، وتروي أمينة أنها فيما بعد أصبحت تعد شيشتها الخاصة بها في غياب والدها. وهكذا تكون قد دخلت هذا العالم من بابه الواسع، فهي تتنقل يوميًا من مقر عملها إلى جهة البحيرة بالعاصمة تونس من أجل تدخين الشيشة على الطريقة التركية وذلك رغم كلفتها العالية فهي تتجاوز أحيانًا الثلاثين دينارًا.
أمينة (شابة تعمل بقطاع تجارة الملابس): إدماني على الشيشة انطلق بتجربتها خلسة بالمنزل لدى إعدادها لوالدي أما الآن صرت أتنقّل يوميًا من العمل إلى جهة البحيرة بالعاصمة من أجل تدخين الشيشة رغم كلفتها الغالية
وأكدت محدثتنا أنها مع مرور السنوات لم تستطع التخلي عن هذا الإدمان، فهي تعتبرها نوعًا من العلاج ضد الضغط النفسي الذي يتسبب فيه تشعب الحياة وصعوبتها.
- "لكلّ مناسبة صنفٌ من الشيشة"
أما رضا، وهو سائق سيارة أجرة بالعاصمة، فقد حدثنا عن تعلقه بتدخين الشيشة موضحًا أنه يملك بمنزله أكثر من عشرة أنواع من الشيشة مختلفة الأحجام وكل واحدة مخصصة لحدث بعينه، فهناك شيشة مخصصة لمباريات كرة القدم وأخرى خاصة بلقاءات الدربي بين الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي، وواحدة للجلسات الطرب وشيشة للجلسات مع الضيوف.
وأضاف رضا أنه يزور دائمًا أسواق بيع الشيشة ومتمماتها من أجل الاطلاع على المستجدات وأيضًا من أجل التزود.
وبما أنه سائق سيارة أجرة ودائم التنقل فهو يعرف جميع المقاهي المتخصصة في تقديم أحسن أنواع الشيشة في العاصمة. يذكر رضا أنه في كل يوم يزور واحدة.
- ماذا يقول علم النفس؟
وتحدث المختص في علم النفس الأستاذ نوفل بوصرة لـ"الترا تونس" عن التعلق بالشيشة معتبرًا أن ذلك "إدمان". وأوضح أن مسارات التعلق تختلف في الزمان والمكان والأبطال المساعدين لكنه يبقى في النهاية إدمانًا، وفقه.
نوفل بوصرة (مختص في علم النفس) لـ"الترا تونس": الإقبال على الشيشة هو نوع من البحث عن توازن ما ومحاولة لترميم صورة أو تجميل خدوش أو درء هوّة
وحسب نوفل بوصرة فإن المدمن يتغير سلوكه شيئًا فشيئًا رغم تظاهره بالتوازن والعقلانية وإضفاء بهارات من المرح والقهقهات المجلجلة.
وبخصوص الشيشة، أشار المختص في علم النفس إلى أنّها نوع من البحث عن توازن ما كان قد فقده طالبها في فترات متباينة ومترابطة من حياته وهي محاولة لترميم صورة أو تجميل خدوش أو درء هوّة.
ويؤكد الباحث نوفل بوصرة أن "الشيشة هي رديفٌ آخر للزمن، زمن النشوة وزمن الهروب من الزمن الأصلي أي الواقع المعاش، إنها نوع من التخدير".
نوفل بوصرة: الشيشة رغم غلاء أثمانها خاصة في المقاهي بالأحياء الراقية فإن جمهورها كثيف ومتنوع ومن مختلف الأعمار والشرائح وهو ما يجعلنا نفكر فيما يحدث في البنية النفسية للمجتمع
ويذهب المختص في علم النفس إلى أن الشيشة رغم غلاء أثمانها خاصة في المقاهي بالأحياء الراقية، فإن جمهورها كثيف ومتنوع ومن مختلف الأعمار والشرائح وهو ما يجعلنا نفكر فيما يحدث في البنية النفسية للمجتمع
تاريخ الدخان في تونس يمتد لقرون طويلة كباقي المجتمعات الشرقية والشيشة أو النارجيلة باتت جزءًا لا يتجزّأ من هوية المقاهي التونسية حتى أن بعضها تخصص في تقديم خدمة الشيشة لمدمنيها وعشاقها والمتعلقين بها.