في بلد يشكو جلّ أفراده من ارتفاع نسب البطالة وغياب الآفاق، ولكن بشكل خاص، انعدام الحلم وفقدان الأمل والشغف وتغييب الإبداع، مازال البعض من الشباب التونسي يناضل من أجل تحقيق حلم والوصول إلى طموح يراودهم رغم كلّ الصعوبات والعراقيل التي تعترض طريقهم في ظلّ إدارة ومعاملات بيروقراطية تعوّدت اغتيال الحلم.
إصرار عدد كبير من هؤلاء الشباب وتمسكهم بالوصول إلى أهدافهم مكّن الكثيرين منهم من تحويل أحلامهم إلى مشاريع حقيقية لا تؤمن لهم قوتهم فقط وإنما تخلق فرص عمل لآخرين، ولئن تميّز مشروع كلّ واحد منهم عن الآخر فإن دافعه للنجاح كان دومًا شغفه وحبّه لما يعمل.
أنيس حبيب لـ"ألترا تونس": كنت أحاول أن أصنع الجعة في منزلي بمعدات صنعتها رغم صعوبة الأمر
اقرأ/ي أيضًا: "أنا أسكر.. إذًا أنا موجود": من الدوام إلى الحانة
والشغف هنا قد يكون الكلمة السرّ أو المفتاح الذي دفع شابًا ثلاثينيًا إلى بعث مشروع يعيش فيه حلمه الذي لا يشبه ما قد يفكّر فيه البقية، وذلك بعد أن سافر إلى الأرجنتين بحثًا عن فرصة تغذي هذا الشغف.
أنيس حبيب، ولد سنة 1988 في مدينة عنابة الجزائرية لأب تونسي وأم جزائرية، قضى طفولته ومراهقته في تونس وبعد الباكالوريا تابع دراسات في المعلوماتية الحيوية والكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزئية في باريس قبل أن يعود إلى تونس إبان ثورة 14 جانفي/ كانون الثاني 2011.
ورغم تخصّصه العلمي، انتقل أنيس بين تجارب مختلفة على الصعيد المهني فعمل لفترة في التلفاز ثمّ كمندوب طبي ومستشار هندسي. وعلى الرغم من هذه التجارب المتعدّدة، بقي شغفه في صناعة النبيذ والخمور منذ أن كان يبلغ من العمر 16 عامًا.
ويقول أنيس حبيب لـ"ألترا تونس" في هذا السياق إنه كان يحاول كذلك صنع الجعة رغم أن ذلك كان صعبًا للغاية نظرًا لعدم توفر مادة نبات الجنجل في تونس، مشيرًا إلى أنه كان يحصل عليها من الخارج أحيانًا وأنه كان يصنع المعدات الضرورية بنفسه داخل منزله.
هذا الشغف الذي لم ينطفئ دفع به إلى التقدم للعمل في شركة صنع المشروبات بتونس أين عمل حوالي السنة لكن العمل هناك لم يرق له كثيرًا نظرًا لأن صناعة الجعة هناك كانت تعتمد على الآلات ولم يُسمح له بالاعتماد على الوصفات الخاصة به في صناعة هذه المادة. فما يبحث عنه أنيس، وفق تأكيده، هو اتصال حقيقي بالمواد الأولية، عمل يشغله حدّ الإنهاك ليعود آخر اليوم متعبًا إلى منزله "كي تكون قد عملت فعلًا".
لم يعثر أنيس حبيب عما كان يبحث عنه في تجربة العمل بالمجمع فغادره وقام بإدارة حانة في منطقة قمرت، إلا أنه إثر ذلك قرّر التقدم بطلبات عمل في الخارج وراسل أكثر من مكان لتصله عروض من عدد من الدول وهي فرنسا وكندا والأرجنتين.
عمل أنيس حبيب في مصنع للجعة بالأرجنتين
لم يكن الخيار سهلًا أمام أنيس الذي لم يغره عرض فرنسا، وطالت أمامه مدة إجراءات السفر إلى كندا رغم حصوله على مقترح توظيف من شركة هناك، فلم يجد من بدّ إلا بقبول العرض المقدّم من شركة لتصنيع الجعة في الأرجنتين رغم أنه لم يكن يتحدث اللغة الإسبانية.
تجربة الأرجنتين كانت صعبة بالنسبة لأنيس في بدايتها إذ كان يعمل 15 ساعة في اليوم باعتبار أن العرض الذي قدّم إليه كان بالأساس على أن يقوم بمهمة لمدة شهرين لإنقاذ الشركة التي كانت تعاني صعوبات مادية قبل أن يُطلب منه البقاء للعمل كمدير للمصنع والاستقرار هناك.
قرار أنيس حبيب بالبقاء في الأرجنتين لم يدم طويلًا وذلك بعدما خسرت العملة الأرجنتينية حوالي 40 في المائة من قيمتها، الأمر الذي دفعه إلى ترك عمله بعد حوالي 3 أشهر، إثر تراجع قيمة مرتبه وإدراكه أنه لا يستطيع أن يطلب مضاعفته نظرًا لوضعية الشركة التي يعمل فيها.
أنيس حبيب لـ"ألترا تونس": هناك عائلات معيّنة في تونس تسيطر على قطاعات مهيكلة كالجعة وتمنع الشباب من الخلق والابتكار
اقرأ/ي أيضًا: الوشم في تونس.. من سردية القبلية إلى روايات الذات
وبالتزامن مع ذلك، تلقى أنيس دعوة للمشاركة في المنتدى العالمي للجعة في البرازيل، كما تلقى عرضًا ليعمل مستشارًا بإحدى أشهر شركات صنع الجعة في البرازيل والعالم. وفي بلاد "السامبا" وجد محدثنا الكثير من الترحيب وتعرّف على تجربة البرازيليين في صنع منتوجاتهم من الجعة ويقول في هذا السياق إن "البرازيليين هم من أيقظوا الرغبة فيه لخلق مشروع له علاقة بالجعة الحرفية".
ويؤكد أن البرازيليين يقومون بتصنيع كلّ شي خلال خلق منتوجاتهم بخلاف ما يحدث في تونس التي يتمّ توريد المواد والآليات الضرورية والتي تعتمد بشكل كبير على اقتصاد الإيجار (Economie de rente).
يرفض أنيس الإفصاح حاليًا عن تفاصيل مشروعه الذي عاد إلى تونس من أجل تحقيقه ويواجه لأجله عديد العراقيل الإدارية منها بشكل خاص. وعن الفرق بين الجعة العادية والجعة الحرفية، يقول أنيس إن الفرق بينهما شبيه بالفرق بين عصير البرتقال الطازج والعصير الذي يباع داخل العلب مهما كان نوعه جيدًا، إلا أن الجعة الحرفية تعدّ من المنتوجات الفاخرة وثمنها مرتفع أكثر من الجعة العادية.
وبخصوص إمكانية نجاح الجعة الحرفية في جذب حرفاء في تونس، يبيّن أنيس حبيب أن هناك إمكانية هامة لرواجها، مبرزًا أن هناك نواة أولى أبدت اهتمامها بها. ويردف قائلًا إنه يعدّ " Le maitre Brasseur" الوحيد في تونس وذلك لأن ثقافة الجعة جديدة نسبيًا في البلاد التونسية التي تشتهر تقليديًا بصناعة النبيذ، رغم أن نسبة استهلاك الجعة في تونس اليوم تقدّر بأكثر من 1,84 مليون هكتولتر علمًا وأن هذه النسبة قد ارتفعت خلال السنوات العشر الأخيرة.
وقد ارتفعت نسبة مبيعات الجعة في تونس لتتجاوز 436,6 مليون دينار خلال سنة 2018. وبحسب منظمة الصحة العالمية تحتل تونس المرتبة 33 إفريقيًا والأولى في شمال إفريقيا فيما يتعلّق باستهلاك الكحول إذ تقدّر نسبة الاستهلاك بـ1,26 لتر للمواطن سنويًا.
مشروع أنيس حبيب المرتقب سيكون سابقة بالنسبة إلى تونس التي لا تزال بعيدة نوعًا ما عن صناعة أنواع مختلفة من الجعة خصوصًا الحرفية منها.
اقرأ/ي أيضًا: