تعيش تونس منذ أسابيع كسائر دول العالم تقريبًا أزمة فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني المعاصر، فأزمة فيروس كورونا وضعت ثلث البشرية في حالة الحجر الصحي وأدت إلى وفاة الآلاف من البشر، وهي تهدد الاقتصاديات الوطنية وعطّلت كل مرافق الحياة العامة في عشرات الدول.
وأطلقت الأزمة من الآن نقاشات فكرية حول مستقبل العولمة والسياسات العمومية الجديدة التي يجب استنباطها في مجالات عديدة على غرار الاقتصاد والصحة. يمكن إذًا لهذه الأزمة أن تكون لها نتائج كارثية في كل مجال لأنها يمكن أن تهدم كل ما قام الإنسان الفرد والمجتمع بتشييده منذ عقود لترديه حطامًا. كما أنها يمكن أن تكون أيضًا فرصة لإعادة النظر وإعادة البناء التشييد على قواعد جديدة.
لا يزال النقاش في تونس حول نتائج أزمة فيروس كورونا محتشمًا جدًا ومقتصرًا على بعض الأحداث مثل إيقاف طباعة وتوزيع الصحف وحماية الصحفيين أثناء أدائهم لعملهم الميداني
اقرأ/ي أيضًا: فيروس كورونا: أي أثر على الميديا في تونس وحول العالم؟
في هذا الإطار، لم تنته الأزمة بعد وقد انطلق الصحفيون والباحثون في مراكز الدراسات المتخصصة في التفكير في نتائج أزمة فيروس كورونا على مهنة الصحافة وصناعة الميديا. ثمة عدة مسائل بدأت تطرح من الآن ومنها على وجه الخصوص: نتائج الأزمة على اقتصاديات الميديا والسوق الإشهارية (أولًا)، وأدوار الصحافة والميديا في مواجهة تفشي الأخبار الكاذبة (ثانيًا)، ونتائج الأزمة كذلك على تطوير "صحافات" جديدة على غرار صحافة التحري وصحافة التفسير، ولكن أيضًا ما يسمّى "صحافة الحلول"(ثالثًا)، ونتائج الأزمة على علاقة الناس بالأخبار والحال أن الأزمة كشفت على الأقل من الناحية الكمية استهلاكًا متعاظمًا لها (رابعًا).
لا يزال النقاش في تونس حول نتائج أزمة فيروس كورونا محتشمًا جدًا ومقتصرًا على بعض الأحداث مثل إيقاف طباعة وتوزيع الصحف وحماية الصحفيين أثناء أدائهم لعملهم الميداني. ويمكن أن نحصر معالجة نتائج أزمة فيروس كورونا في تونس مبدئيًا في المسألتين التاليتين: النتائج على سوق الإشهار (الإعلان) أولًا، والدروس التي يمكن أن نستخلصها عن أدوار الصحافة والميديا في السياق الحالي لتأهيل القطاع حتى يقوم بدوره كمؤسسة من مؤسسات الديمقراطية ثانيًا، لأن أزمة الكورونا كشفت بلا ريب أشياء جديدة عن مكانة الصحافة على وجه الخصوص.
الصحافة والميديا قطاعًا حيويًا
كشفت الكورونا عن خطاب جديد عن الصحافة والميديا. ففي تونس وفي كل دول العالم تقريبًا، يقر المسؤولون السياسيون الحكوميون أن الصحافة قطاع حيوي ومؤسّسة تسدي خدمات أساسية بالنسبة للمواطنين أثناء الأزمة. يقول حاكم نيويورك "ليس هناك اليوم أهم بالنسبة لسكان نيويورك من المعلومات الدقيقة والحينية وأدوار الميديا اليوم أهم من أي وقت مضى. ولهذا السبب سيتم إثناء مؤسسات الميديا من قرارات خفض العمل إلى النصف". هذا الكلام قاله رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ في خطابه الأخير للتونسيين وردده مسؤولون حكوميون من كل المستويات وأطباء مؤكدين أن للصحافة والميديا أدوارًا أساسية في تزويد التونسيين بالمعلومات الصحيحة والدقيقة وبالتصدي للأخبار الزائفة، بل أيضًا في توعية التونسيين والحدّ من هلعهم وفي إقناعهم باحترام التعليمات للحفاظ على صحتهم. فصنفت الحكومة مؤسّسات الصحافة والميديا من المؤسّسات الحيوية على غرار الصحة والأمن والجيش والمنظومة الغذائية والماء والكهرباء والغاز.
هكذا تكتشف النخب السياسية التي تدير البلاد وبعض المهن الأخرى والتونسيين الماكثين في بيوتهم أن الصحافة والصحفيين والميديا بشكل عام وسائط أساسية بالنسبة إليهم وإلى الحياة العامة، وأنهم بديل حقيقي على الأخبار الكاذبة والسامة التي يعج بها الفيسبوك، وأنه دونهم قد تسير الأمور بشكل مخالف تمامًا ومفزع. وقد يكون جميعهم وخاصة منهم من في السلطة وفي قطاع الطب قد تخيلوا هذه الأزمة بلا هؤلاء الوسطاء الأساسيين.
الحاجة إلى الأخبار
يكتشف الصحفيون التونسيون كذلك أنهم يؤدّون خدمة أساسية للمواطنين الذي يحتاجون إلى الأخبار في مثل هذه الظروف الفريدة والعصيبة. ولا شك أن الحاجة إلى الأخبار تزداد في أوضاع الأزمات لكن الواضح اليوم أن التونسيين يقبلون بشكل كبير على المضامين الإخبارية التي ينتجها الصحفيون، ليس فقط لأنهم تحت الحجر الصحي فيقضون الوقت في الاطلاع على الأخبار، لكن أيضًا لأن الصحافة تقدم لهم الأخبار الموثوقة التي يحتاجونها عن الوباء في تونس.
يمكن في هذا الإطار أن نقيّم بطريقة صارمة جودة المضامين الإخبارية التي توفرها الصحافة لكن لا أحد بإمكانه أن يشكّ في إقبال التونسيين على المضامين الإخبارية. تجتمع إذًا كل الدلائل والمؤشّرات للتأكيد على أن الجميع، بما في ذلك الصحفيون، أصبح يدرك أن الصحافة مرفق عمومي بالمعنى العام لهذه الكلمة، أي أنها تسدي خدمة أساسية للمواطنين على غرار خدمات الصحة والنقل والكهرباء والماء والغاز والتعليم.
أزمة "الكورونا" هنا كاشفة لهشاشة النموذج الاقتصادي لعدد كبير من المؤسّسات في مجال الصحافة المكتوبة والالكترونية التي ستتعمق مع توقف العديد من الصحف عن الصدور
ولكن هل يجب أن نقف عند هذا الحد أو بالأحرى هل يمكن لمهنيي الصحافة وصناعة الميديا أن يكتفوا بالاعتراف بأدوارهم الأساسية أو بالشكوى إلى رئاسة الحكومة ومطالبتها بقرارات لمساندة القطاع لمواجهة الأزمة؟ وهل يجب أن يكتفي الصحفيون بالشعور بالفخر بأنهم منخرطون في الجهد الجماعي لمواجهة الأزمة؟ وبناء على هذا، ما هي الدروس التي علينا أن نتعلمها من نتائج أزمة فيروس كورونا على الصحافة والميديا التونسية وهل سيكون لهذه الأزمة الفريدة من نوعها فائدة ما بعد تنجلي؟
اقرأ/ي أيضًا: الرئيس و"شعبه العظيم"
الأزمة كاشفة الأعطال
إن من فوائد الأزمة بشكل عام أنها كاشفة للأمراض والأعطاب. وأزمة "الكورونا" هنا كاشفة لهشاشة النموذج الاقتصادي لعدد كبير من المؤسّسات في مجال الصحافة المكتوبة والالكترونية التي ستتعمق مع توقف العديد من الصحف عن الصدور من جهة، وغياب المضامين بمقابل التي يمكن أن تكون مصدرًا بديلًا في كل هذه الظروف وتراجع الإنفاق الذي ستشهده سوق الإشهار التجاري في الأسابيع وفي الأشهر المقبلة أيضًا. بل إن الأمر الخطير حقًا هو أن هذه الأزمة قد تؤثر أيضًا في الإيرادات التي ستتحصل عليها هذه المؤسّسات في شهر رمضان وهي الفترة التي تتحصل فيها المؤسسات الإذاعية والتلفزيونية على معظم إيراداتها.
إن السؤال العاجل الذي يجب طرحه هل ستمثل أزمة فيروس كورونا الضربة القاضية لعدد من المؤسسات الصحفية ومؤسسات الميديا كذلك، ثم السؤال الثاني الآن كيف ستدار أزمة الكورونا وهل ستتواصل المقاربة القائمة على صراع البقاء بالنسبة لمؤسسات الميديا وفق التصور الدارويني السائد منذ 2011؟ ولكن ماذا نقصد هنا بالتصوّر الدارويني لإدارة قطاع الصحافة وصناعة الميديا؟
لقد أرادت النخب السياسية "الإدارة الدروينية" لقطاع الصحافة والميديا وقبلت بها الدولة ومؤسّساتها وهيئاتها
على عكس التجارب الديمقراطية الأوروبية، حيث وضعت الدولة سياسة عمومية، وفق آليات معلومة وشفافية، لتأمين بيئة مواتية لاستمرارية مؤسّسات الميديا وشروط تحقيق صحافة الجودة، لم تتدخل الدولة في تونس لتأمين شروط الاستمرارية لمؤسسات الصحافة والميديا باعتبارها تقدم خدمة حيوية ومرفقًا عامًا. كما أنها لم تفعل شيئًا لتوفير شروط إنتاج الصحافة الجيدة للصحفيين؟
لم تقرّ الدولة ومؤسساتها وهيئاتها فقط بالإدارة الليبرالية الشاملة لقطاع الصحافة والميديا، بل إن النخب السياسية التي حكمت البلاد منذ 2011 قبلت، في إطار المقاربة الداروينية، أيضًا بأن يكون البقاء ليس للأصلح، بل للأقدر على بناء الشبكات المصلحية والزبائنية التي تبنيها مؤسّسات الميديا ورجال أعمال، ووكالات إشهار وسياسيين، أو أحزاب لتبادل المنافع.
لقد أرادت النخب السياسية "الإدارة الدروينية" لقطاع الصحافة والميديا وقبلت بها الدولة ومؤسّساتها وهيئاتها. وعلى هذا النحو تحولت الميديا إلى سوق حرة ومتحررة لا تخضع سوى لإكراهات دنيا تتمثل عادة في عقوبات تتعلق بالمضمون.
إن المقاربة "الداروينية" التي خضع إليها قطاع الميديا التونسية والتي جعلت من السوق المحدد الأساسي للصراع على البقاء بين المؤسسات القائم على التنافس بكل الوسائل المشروعة والماكرة على موارد عديدة هي التي تفسر بلا شك انحراف الميديا وخاصة القنوات التلفزيونية عن أدوارها بما في ذلك الانحرافات الشنيعة أثناء أزمة خطيرة مثل التي نعيشها الآن.
هل تنجح الصحافة والميديا في أن تدار كمرفق عمومي؟
إن الرهان الذي تواجهه المهنة الصحفية وصناعة الميديا التونسية الآن هو قدرتها على التجسيد الفعلي للاعتراف الضمني بها كمرفق عمومي ومؤسسة حيوية لحياة التونسيين. ولكن ما معنى أن تكون الصحافة مرفقًا عموميًا وخدمة عامة؟
يقدم لنا المفكر الألماني يورغان هابرماس تصورًا واضحًا للصحافة والميديا باعتبارها مرفقًا عموميًا. في عام 2007 واجهت بعض الصحف الألمانية أزمة مالية خانقة دفعت بالبعض منها إلى إطلاق صيحات فزع لأنها قد تقع في أيدي مجموعات مالية ستغير سياساتها التحريرية وتخضعها إلى المنطق التجاري المحض. يعتبر هابرماس أن الصحافة (الجيدة) تمثل مرفقا عموميًا لأسباب عديدة. فهي مصدر المواطنين بالأخبار السياسية التي يحتاجونه للنفاذ إلى الحياة السياسية والمشاركة فيها وفي بناء الرأي العام أيضًا.
الأزمة الراهنة يجب أن تكون أيضًا فرصة مواتية لاستحضار مقاربة جديدة تقر بالأزمة أولًا وتبحث عن حلول جديدة ومبتكرة
وعلى هذا النحو، لا يمكن أن نتصور اليوم الديمقراطية التي تقتضي مشاركة المواطنين دون هذه الصحافة لأنها تحتضن النقاش العام ولأنه بفضلها يتعرض المواطنون إلى الآراء السياسية المختلفة والحجج الفكرية المتنوعة والتي تساعدهم على أن تكون لهم آراء مستنيرة وأن يعتمدوا عليها أيضًا لتكوين قدرتهم على الحجاج وللمشاركة في المداولات العامة. كما أن المعارف والآراء التي توفرها الصحافة الجيدة تساهم أيضًا في تكوين رأي عام مستنير ونقدي قائم على الحجاج مما يساعد على تحرير الناس من الأصوات الشعبوية التي تستدعي الأهواء والمشاعر.
يذهب هابرماس إلى أكثر من هذا لإبراز العلاقة العضوية بين جوهر الديمقراطية نفسها، الديمقراطي والصحافة. ففي المجتمع الديمقراطي تتخذ القرارات والسياسات شرعيتها من أنها تمخضت بطريقة أو بأخرى عن النقاش العام عندما تتحول إلى موضوع يتداول فيه الفاعلون السياسيون والمواطنون في إطار نقاشات متعددة داخل أجهزة الدولة وخارجها.
وعلى هذا النحو، فإن الصحافة تساهم في تشكيل "طاقة" مخصوصة تقوم عليها الديمقراطية هي النقاش العام الحجاجي التي تغذيه الصحافة من جهة أولى وتحتضنه من جهة ثانية. ومن هذا المنطلق، لا يتردد هابرماس في مطالبة الدولة الديمقراطية بتوفير شروط الحفاظ على هذه الطاقة وإتاحتها للمواطنين تمامًا كما تفعل ذلك مع طاقات أخرى أساسية بالنسبة للمواطن كالغاز.
نحو مقاربة أزماتية للصحافة والميديا التونسية
لن ينجر عن نتائج فيروس كورونا على الصحافة والميديا التونسية أزمة جديدة، بل إن الأمر يتعلق بتطور جديد لأزمة عميقة وشاملة ومستمرة ستزداد حدة واتساعًا لأنها ستساهم بشكل كبير في تدمير القواعد الاقتصادية للقطاع، وستضيف مخاطر وإكراهات ومآزق جديدة ستزيد لا محالة في حدة الطابع الدارويني الذي تخوضه مؤسسات الميديا للبقاء والتي لن تبقي بالضرورة على الأصلح.
ولكن الأزمة هي أيضًا مرادفة للقرار الحاسم الذي يجب أن يتمخض عنها. ومن هذا المنظر، فإن الأزمة الراهنة يجب أن تكون أيضًا فرصة مواتية لاستحضار مقاربة جديدة تقر بالأزمة أولًا وتبحث عن حلول جديدة ومبتكرة تجعل من الصحافة والميديا مرفقًا عموميًا حقيقيًا تسهر الدولة على ضمان شروط استمراريته.
اقرأ/ي أيضًا: