مقال رأي
قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسيّة الماضية وبتاريخ 22 أوت/ أغسطس الماضي كان كاتب هذه الأسطر قد طرح أسئلة عن مآلات الحكم بعد الانتخابات. ولم تكن تلك الأسئلة التي حملت عنوان "الانتخابات التونسية ... مدخل للاستقرار أم للعجز عن الحكم" قد احتسبت أو أخذت بعين الاعتبار أزمة عالمية من جنس الكورونا أو بحجمها.
لقد كان واضحًا إلى حدّ كبير أنّ تشتّت الأحزاب وتفكّكها، وتعثّر النّظام الانتخابي وتهافته، وهشاشة الاقتصاد وانحداره ستؤدّي كلّها إلى ظرف صعب مستصعب. وبمفعول الكورونا صار الصعب هاوية أو حافّتها.
تبدو استقالة رئيس الحكومة أو الجدل حول سحب الثقة من رئيس البرلمان أشبه بأجراس تصمّ الآذان لطريق لا عودة منها
وتبدو استقالة رئيس الحكومة أو الجدل حول سحب الثقة من رئيس البرلمان أشبه بأجراس تصمّ الآذان لطريق لا عودة منها: تلك الطريق التي تبدأ بموت السياسة وانتهاء كلّ مقوّمات الثقة في الأحزاب والانتخاب والمُنتخبين، وقد تمرّ بحكومات ضعيفة دون سند سياسي لا قرار لها ولا لون ولا رائحة، ولا ريب أنّ في تلك الطّريق من مطبّات الانفجار الاجتماعي وربما الأمني ما لا يعلمه إلا الله، ولا ريب أنّ مآلها الوحيد الممكن هي المقصلة. مقصلة العشرية الديمقراطية.
اقرأ/ي أيضًا: سعيّد والنهضة.. علاقة متوترة ليست في مصلحة أحد
تتحمّل حركة النهضة المسؤولية التاريخية في سلوك هذه الطريق ومآلاتها الكارثية شاءت أم أبت. لا نقول ذلك لكونها جنحت لتوجه على حساب آخر أو لأنّها اتخذت هذا الموقف أو ذاك من رئيس حكومة أو ائتلاف أو سياسة. وإنّما تتحمّلها لكونها المؤسّسة الحزبية الوحيدة في البلاد، وهي شاءت أم أبت وشاء غيرها أم أبى العمود الفقري للسياسة في البلاد وبقيّة الأحزاب تجارب قيد التأسيس قد تنمو وتنجح وقد تنمو وتفشل، لكنّها تبقى أحزابًا نامية.
وعلى نفس النّحو، سيكون الاتّحاد العام التونسي للشغل مسؤولًا عن طريق اللاعودة وإن لم تُضره مآلاتها الكارثية على المدى القصير والمتوسط. شاء الاتحاد أو أبى وشاء غيره ذلك أو أبى. فالاتّحاد هو العمود الفقري لحضور الدّولة في المجتمع وهو الأساس في سياسة اقتصادية واجتماعية قائمة لا أفق لها ولا فطنة.
وفي اللّحظة الراهنة يحقّ لنا أن نتساءل: ما الجدوى من وجود حركة النهضة من منظور أبنائها ومؤسسيها ومناضليها أولاً؟ هل أنّ الحركة محكومة بأن يكون دورها كالأصنام الضخمة التي لا تضرّ ولا تنفع؟ أ تراها تحتلّ مكانًا يُضيّق على غيرها سعة الفضاء فيضجر الناس منه دون أن يكون لكلفة وجودها وحجمها أيّ نفع وتجهد هي في ألاّ يكون منه ضرر؟
تتحمّل حركة النهضة المسؤولية التاريخية في سلوك هذه الطريق ومآلاتها الكارثية شاءت أم أبت لكونها المؤسّسة الحزبية الوحيدة في البلاد، وهي أيضًأ العمود الفقري للسياسة في البلاد
وليس الحكم على حركة النّهضة بمثل هذه الحدّة من ضرب المغالبة الحزبية والأيديولوجية وإنّما هو نتاج لدورها الذي لم نختره ولم تختره وإنّما أراده لها الشّعب التونسي وظروف التّاريخ، فهي الحزب الأكبر في ديمقراطية ومسار سياسيّ عموده الفقريّ البرلمان والأحزاب الممثّلة له.
وإنّما هوان المسار السياسي التونسي من هوان هذا الحزب الأكبر الذي خلع رداء الإسلام السياسيّ وتبرّأ نسبيًا أو كليًا من الأسس الفكريّة لحركة الإخوان المسلمين ليعتصم بخيط رفيع عنوانه الإسلام الديمقراطيّ في مجتمع مسلم العقيدة للغالبيّة والحضارة للجميع وفي دولة اعتمدت الديمقراطيّة أداة لتسيير شؤونها. فهل يكون المشروع السياسيّ تأكيدًا للمؤكّد وإلحاحًا على المعلوم بالضّرورة؟ فذلك إذًا انعدام المشروع والفراغ في حزب يعني الفراغ فيه فراغ الديمقراطيّة البرلمانيّة كلّها؟
ولقد أعطى الشّعب التونسيّ لحركة النهضة فرصة وفرصتين وثلاث لتضطلع بدورها كاملاً غير منقوص، لا مناكفة واستفزازًا ومناورة وإن كان من كلّ ذلك بدّ، وإنّما توضيحًا لرؤية وعملًا بها بما يتيح لبناء تناقض موضوع متين حول المشروع ومستقبل البلاد لا تكفيرًا أو تخوينًا باسم الوطنيّة والثوريّة والإسلام والدولة العصريّة.
لقد أعطى الشّعب التونسيّ لحركة النهضة فرصة وفرصتين وثلاث لتضطلع بدورها كاملاً غير منقوص
وذلك المشروع المأمول في أزمة عالميّة كبرى هو الذي لا مكان له في سياسة تونس، في حزب النهضة وأحزاب من خالفها خلافًا وجوديًا باسم الوطنيّة أو ثوريًا باسم البراءة من شرك المناورة والتوافق. وذلك المشروع المأمول الغائب هو نفسه علامة الخطر في طريق نسلكها ونحن نقرع أجراس اللاعودة.
إنّها طريق داخل تونسيّ لن يجد شبابه في أرياف القيروان والقصرين وسيدي بوزيد بعض ما كان يجمّعه في مراكز السّياحة الكبرى، وهي طريق جنوب تونسيّ لن يجد شبابه في أبناء العمومة المقيمين في أوروبا المنهوكة ملاذًا ماليًا ولن يجد في ليبيا الجارة مسلكًا للتجارة والبيع والشراء.
إنّها طريق محفوفة بتربّص المتربّصين وقطّاع الطّرق، شأن من كانوا يقطعون طريق الحجّ على أجدادنا في اتّجاه حواضر ليبيا ومصر والشّام والحجاز، وحدها أدوات قطع الطّريق تغيّرت. لا شيء سيثني أحدهم من الاستثمار في أجراس اللاعودة.. لكنّ تونس محروسة بإذن الله وبلطفه.
اقرأ/ي أيضًا:
عن المصالح وشبهات الفساد ومهنة السياسة في تونس (1)
عن المصالح وشبهات الفساد ومهنة السياسة في تونس (2)