مقال رأي
لطالما ترددت بعد الثورة في الكتابة عن العنصرية والتمييز العرقي في تونس، هذا الكائن الهلامي الذي يصعب مسكه أو حتى تصديق وجوده بين التونسيين. فقد بات التبسيط والاستهانة بخطورة العنصرية الممنهجة في تونس مؤشرًا خطيرًا على التطبيع الممنهج مع الممارسات العنصرية، كما أصبح فيل نكران العنصرية مكتسحًا بضخامته الغرفة الكبيرة.
الإنسان الأسود في تونس لامرئي وجب إخفاؤه لأنه غير جميل، وغير مرغوب فيه، وليس ذكيًا في اللاوعي، هو ذلك الكائن الذي اكتملت إنسانيته بالإسلام والعروبة التي جعلت منه إنسانًا شبه مساو لأخيه العربي الأبيض. ولأن لون البشرة عند العرب منذ قديم الزمان له رمزيته التاريخية إذ أن السواد يدل على القبح كقبح لون الجاحظ كما تصفه سيرته الذاتية، ولأن التطبيع مع اللون الأسود لم يكن بالهين، اختار العرب أن يستعملوا صفة السمرة والاسمرار كتلطيف من وطأة السواد القبيح.
لماذا يشمئز العرب من عنصرية الأوروبي والغربي بصفة عامة ولا يرى في المرآة أن عنصريته أكثر قباحة من استهجانه لعنصرية الإنسان الغربي؟
في الأثناء، لماذا يشمئز العرب من عنصرية الأوروبي والغربي بصفة عامة ولا يرى في المرآة أن عنصريته أكثر قباحة من استهجانه لعنصرية الإنسان الغربي؟
بعدما اختارت تونس الديمقراطية كنهج لها في مستنقع الحروب والفقر والجهل الطاغي، يجب أن تكون العدالة هي الطريق للحفاظ على ذلك الكنز الضامن لحقوق الانسان، ولكن لا يعدو الحديث عن العنصرية في تونس عند البعض مجرد ضوضاء وغوغاء وفتنة.
استبطان الوصم العنصري
في شهر أفريل/نيسان الماضي، سافرت الى مدينة ڤبلي في الجنوب الغربي لزيارة متحف المدينة القديمة، تلك المدينة التي تحمل الكثير من الأسرار حول الماضي التجاري لها والذي لا يزال الكثير منه أكثر غموضًا من ملامح سكانها المختلطين عرقيًا. التقيت خلال زيارتي بإيمان وهي طالبة تونسية في جامعة خاصة بالعاصمة وتقوم بتربص لختم السنة الجامعية كمساعدة بحوث لباحث أجنبي حول المجالس القبلية في الجنوب الغربي. تبادلنا أطراف الحديث في طريق العودة الى العاصمة حول سفرتي الاستكشافية بخصوص الوجود الأسود في الجنوب التونسي والتاريخ التجاري للمنطقة الذي ارتبط بتجارة العبيد عبر الصحراء الكبرى وموروث تجارة الرق ومخلفاته من تمييز عرقي.
اقرأ/ي أيضًا: التمييز العنصري في تونس.. السر المخجل؟
كما تبادلنا أطراف الحديث حول حقيقة وجود العنصرية في تونس وروت لي قصصًا مروعة عن تصرفات عنصرية بغيضة صدرت من أصدقائها المقربين وحتى من بعض أفراد عائلتها. كانت من القلائل الذين أعرفهم في بلدي تونس ممن يرفضون سياسة الإنكار للظاهرة لأنها عاشتها شخصيًا. ولطالما راودني السؤال: لماذا كل هذا الإنكار؟ هل هو مقصود أم أنه هروب إلى الأمام أم شعور بالخجل والخزي؟ لم أستطع إيجاد أجوبة شافية لأنني أصطدم كل مرة بحائط اللامبالاة والإنكار وكأن العنصرية مقتصرة على شعوب معينة دون غيرها.
شعرت بنفس الحنق والإحباط تجاه الإنكار للجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها العهد السابق في حق الكثير من التونسيين من قبل شريحة من التونسيين وكأن الضحية مقدّر لها أن يُحكم عليها مرتين: عذاب النظام الدكتاتوري وعذاب شريحة من المجتمع في استهانتها بالضحية. فماذا لو كنت أسود في تونس ويسلط عليك غالبًا عنف مجتمعي لا مرئي لا مسموع يتدثر بالموروث الثقافي حول دونية من لم يكن أبيضًا؟
الأسود التونسي هو ضحية مقدّر لها أن يُحكم عليها مرتين: عذاب النظام الدكتاتوري وعذاب شريحة من المجتمع في استهانتها بالضحية بإنكارها للعنصرية
أصبح هذا السر الدفين حول شريحة مجتمعية تمثل على أقل تقدير 10 في المائة من التونسيين يقض مضجع من يتعرض لممارسات عنصرية شبه يومية، وكذلك من لا يتعرض لها أو من لا يهمه الموضوع أصلًا لأنه ينزعج بإعطاء صورة سلبية عن تونس الحداثية الرائدة في حقوق الإنسان مقارنة مع جيرانها في المنطقة. إذ لطالما تبجح التونسيون بأنهم الرواد في كل القضايا الإنسانية على رأسها القضية الفلسطينية وكل قضايا التحرر والانعتاق.
فيما ترزح في عالم تونسي آخر مواز شريحة من المجتمع تحت نير تمييز لا لون ولا رائحة له ولا حتى غطاء اجتماعي وقانوني يحميها من عنف مسكوت غير مبرر. هي سكيزوفرينيا اجتماعية رهيبة ترفض أن ترى الوجه القبيح لتونس التي لم تتصالح بعد مع تركة ماض ثقيلة من وصم التونسي من أصول سوداء والمهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء بالدونية.
تجريد الأسود من إنسانيته
يميل التونسي الأسود إلى الانعزالية في المجتمع ويفضل أحيانًا أن يكون مع بني جلدته أو عرقه بسبب العدوانية المسلطة عليه في حياته اليومية حسب رأيه، وذلك على الرغم من أن البعض من السود التونسيين لم يتعرضوا أبدًا لأي مضايقات ذات طابع عنصري. ويستدل البعض بهذه التعلة في تونس لإنكار وجود العنصرية ضد السود لأن لهم صديقًا أسود أو جارًا أسود أو يعرف بعض السود لم يتكلموا يومًا عن الموضوع، بل ولطالما سمعت شكوى من بعض التونسيين البيض أن التونسي الأسود عنصري ويرفض الاندماج.
اقرأ/ي أيضًا: اعتداء عنصري على مضيفة سمراء البشرة.. شهامة قائد الطائرة وتضامن التونسيين
سئم الأسود التونسي من مرتبة المواطن الثانوي لأن ذلك يجعله ضحية مضاعفة فسكوته عن الممارسات العنصرية ليس إقرارًا بعدم وجودها بل بعدم جدوى الحديث عنها لوجود جدار الصد من التونسي "الأبيض". وأنا أستعمل عبارة الأبيض بتحفظ شديد لأن التونسي الأبيض يبقى أقلية عدديًا مقارنة مع السود وسمر البشرة. وهو يتصرف مع الأفارقة جنوب الصحراء كشخص أرقى قليلًا منهم لأن بشرته فاتحة أكثر، وبالتالي يتصرف هذا العنصري في تونس كالمتعصب لسيادة البيض في الغرب والذي لا يتحرج من استعمال ألفاظ مهينة لكل من لا يشبهه في لونه أو ثقافته.
ترى سيرين ذات الـ22 سنة وهي تشتغل في مؤسسة ناشئة بالعاصمة أن العنصرية ظاهرة ذات بعد "ثقافي وليست شيئًا فطريًا" عندما رويت لها حادثة مضيفة الطيران بالخطوط التونسية غفران بينوس. وقالت في إحدى تدخلاتها بإذاعة خاصة بإن التونسي "عنصري بالفطرة" مضيفة "ما أعرفه هو أن التونسي يخاف من الاختلاف" حسب اعتقادها.
سئم الأسود التونسي من مرتبة المواطن الثانوي لأن ذلك يجعله ضحية مضاعفة فسكوته عن الممارسات العنصرية ليس إقرارًا بعدم وجودها بل بعدم جدوى الحديث عنها
يوجد في تونس نوع من التعالي على بقية الشعوب الافريقية، إنه مزيج من العنجهية والسلطوية الأبوية تجاههم. هذا السلوك ليس وليد الأمس أو الاستعمار الفرنسي لتونس بل جذوره ضاربة في التاريخ العربي الاسلامي منذ ابن خلدون. لن أناقش نظريات ابن خلدون أو المسعودي أو غيرهم من المؤرخين العرب والمسلمين حول أخلاق البشر والعمران، ولكن يجب فهم مقولته "المغلوب مولع بتقليد الغالب" التي استدل بها منذ سنتين شاب تونسي التقيته خلال مظاهرة في اليوم العالمي لمناهضة التمييز العنصري في وسط العاصمة وقد أنكر وجود العنصرية في تونس بحكم "أننا كلنا مسلمون و لا فرق بين أبيض أو أسود إلا بالتقوى" ثم انتقل ليعلل لي سبب وجود ظاهرة العنصرية قائلًا "إننا نتّبع الغرب في بعض الممارسات العنصرية تجاه كل ما هو أسود"، وعليه يمكن أن نستشف وجود مفارقة غريبة بأن يجتمع شيئان متنافران في منطق هذا الشاب.
يعزو مصطفى، 26 سنة ويعمل كمسؤول اداري بشركة أوروبية، التصرف العنصري بأنه نتيجة عديد التجارب التي يمر بها الشخص والتي يمكن أن يكون لها تأثيرات عليه في علاقة بمحيطه العائلي أو المقرب من دائرة المعارف والأصدقاء، كما أن هناك ارتباط بالطبقة الاجتماعية لتبقى بذلك العقلية مترسخة في عنصريتها لدى البعض.
العنصرية في في البلدان الغربية لا تقل قبحًا عن نظيرتها في البلدان العربية
العنصرية كتابوه اجتماعي وثقافي في البلاد العربية بصفة عامة وتونس بصفة خاصة هي "ظاهرة مسكوت عنه تمنعنا التقاليد والعادات من الخوض فيها" حسب مصطفى، لكن في البلدان الغربية "يشجع المحيط الديمقراطي على معالجتها والحديث عنها". وهو يرى أنه لم يكن ممكنًا غي العهد السابق طرح القضية كما هو الشأن اليوم لأن "النظام كان يحاول إخفاء كل شيء وقد رأينا ذلك في قضايا إرهابية خطيرة"، كما يقول.
اقرأ/ي أيضًا: لأول مرة مذيع النشرة الجوية أسمر البشرة.. ترحيب وانتقاد للاحتفاء "المبالغ فيه"
في خضم الجدل القائم في تونس حول مكانة السود في الساحة الإعلامية، وفي العالم الموازي الآخر في الضفة الشمالية للمتوسط في فرنسا، لا يزال الأسود موصومًا بالدونية خاصة المرأة السوداء الفرنسية في مجال الفن والإعلام، وهذه الدونية إجمالًا موجودة في دول أوروبية كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان عكس الدول الأنغلوسكسونية والإسكندينافية في حين أنه في ألمانيا تقل درجة تقبل الانسان الأسود لأسباب تاريخية نظرًا لصعوبة التخلص من الارث النازي لدى الكثير من الألمان.
ولا غرابة أن تتأثر تونس وبلدان المغرب الكبير بالمستعمر القديم في نظرته للإنسان الأسود، ففرنسا لاتزال متأخرة بعشرين سنة على الأقل على نظيراتها الأنغلوسكسونية (بريطانيا وأمريكا) إذ يظل وجود الدراسات الأكاديمية حول الوجود الأسود في فرنسا متخلفًا مقارنة بما يوجد في الجامعات ومراكز البحوث في بريطانيا والولايات المتحدة وإفريقيا الجنوبية وكندا وغيرها.
تحتاج تونس على أقل تقدير لجيلين كاملين ليدخل التونسي الأسود المجال العام ويتعود الشعب على رؤيته كمقدم برامج تلفزية أو كسياسي وذلك حتى تتأقلم العقلية التونسية مع الاختلاف
في المقابل، توصف صورة الأسود في الاعلام البريطاني مثلًا في التسعينات بأنها إيجابية نوعًا ما خاصة في السياسة والأكاديميا. ولقد بدأت فرنسا في التغيير منذ بداية الألفية الثّانية خاصة بعد تفتح الجيل الجديد على اللغة الإنكليزية، بمعنى آخر تحتاج تونس على أقل تقدير لجيلين كاملين ليدخل التونسي الأسود المجال العام ويتعود الشعب على رؤيته كمقدم برامج تلفزية أو كسياسي وذلك حتى تتأقلم العقلية التونسية مع الاختلاف.
وترى سيرين أن جيل الألفيين Millennials مختلف جدًا عن الأجيال السابقة، وقد تربى أكثر على الثقافة الغربية في تونس أين أضحى اختلاف اللون أو العرق أو الطول غير مهم، هي فئة شبابية متفتحة على كثير من الأشياء تجعل منها لا تخاف الاختلاف، إذ تستطرد قائلة "أرى أن مفهوم الجمال تغير اليوم ولم يعد يدور حول الانسان الأبيض وهذا شيء تغير في العالم حتى في تونس نرى التغيير".
مواطنون منسيون في ظل التحول الديموقراطي وتحديات العدالة الانتقالية
تساءل الكثيرون من التونسيين بعد الثورة عن الأسباب الكامنة وراء الحراك الاجتماعي للسود التونسيين، ورأى فيه البعض أنه الهاء عن القضايا الأساسية للبلاد على غرار الأوضاع الاقتصادية الصعبة للبلاد كالبطالة وغلاء الأسعار إضافة إلى الاٍرهاب. ولكن اكتست قضية السود كقضية حقوق إنسانية أهمية في المجتمع المدني والإعلام ولدى السياسيين في ظل التحول الديموقراطي في تونس.
قدمت منظمة منامتي سنة 2016 ملفًا حول الانتهاكات لحقوق الانسان ضد السود في تونس إلى هيئة الحقيقة والكرامة والمرتكبة من طرف بعض أجهزة الدولة وموظفيها
ترى سيرين في هذا الحراك بداية إدراك السود التونسيين أنّ "الاساءات لم تعد شيئًا عاديًا"، وهذا يرجع "لوجود توعية كاملة" في المجتمع المدني جعلت القضية تتصدر مكانها في البلاد. ويرى مصطفى أن إثارة القضية في هذه الفترة الانتقالية هو مهمّ "لضمان السلم الاجتماعي بين التونسيين" على الرغم من أنه لا يعتبر أن السود التونسيين أقلية. ولكنه يأسف لما يعتبره نزعة في تونس نحو "تتفيه القضايا الأساسية والحساسة سواء كانت في السياسة أو القضايا الاجتماعية كالعنصرية" وتلك "أصبحت عادة لدى التونسيين" مما جعل القضية تُنسى بسرعة لكونها "موضوع يتم مناقشته والتطرق إليه فقط للقيام للبحث عن الإثارة في الإعلام التونسي" حسب رأيه.
في الأثناء، قدمت منظمة منامتي سنة 2016 ملفًا حول الانتهاكات لحقوق الانسان ضد السود في تونس إلى هيئة الحقيقة والكرامة والمرتكبة من طرف بعض أجهزة الدولة وموظفيها. وتعتبر هذه سابقة في تونس وحتى الوطن العربي أن تكون الدولة مسؤولة عن حدوث انتهاكات تعتبر منتهجة ضد فئة من مواطنيها .
ولكن تبقى تساؤلات عديدة حول مستقبل المواطنين السود في تونس في ديموقراطية ناشئة تجعل من كل مواطنيها متمتعين بنفس الحقوق والواجبات بلا تمييز آو تفرقة على أساس اللون أو العرق أو التوجهات الجنسية أو الدينية منها:
كيف تستطيع العدالة الانتقالية إنصاف السود ضحايا التمييز العنصري، والتهميش والتغييب من السردية التاريخية؟ هل يأتي يوم ويقع انصاف الجنرال سليم مرزوق وقصته المنسية في نضاله ضد التهميش وكيف اعتبره الكثير من المواطنين السود في قابس مارتن لوثر كينغ تونسي؟
هل سينصف القضاء التونسي السكان السود في قرية القصبة بمعتمدية سيدي مخلوف في ولاية مدنين في قضية الحافلة المخصصة لأطفالهم للذهاب إلى مدارسهم منفصلين عن الأطفال البيض؟
هل سينصف القضاء التونسي السكان السود في قرية القصبة بمعتمدية سيدي مخلوف في ولاية مدنين في قضية الحافلة المخصصة لأطفالهم للذهاب الى مدارسهم منفصلين عن الأطفال البيض؟ وهو مشهد ربما يبدو سرياليًا من عصر التفرقة العرقية (الابارتهايد في افريقيا الجنوبية أو الولايات المتحدة الامريكية في القرن العشرين) لكنه لا يزال قائم الذات في تونس بعد الثورة في قرية منسية في الجنوب التونسي لا تزال تحمل وصمات الماضي المسكوت عنه حول العبودية واسترقاق السود من الأسياد البيض حتى أواخر القرن التاسع عشر. وهي قضية حركت جزءًا من المجتمع المدني التونسي بعد الثورة حول ترسبات العبودية والعنصرية في المجتمعات القبلية والعروشية ببعض مدن وقرى الجنوب التونسي؟
وهل ستنصف العدالة الانتقالية المواطنين السود في الجنوب التونسي للتخلص من رواسب الاسترقاق والمتمثلة خاصة في حمل البعض منهم لألقاب الأسياد البيض الذين كانوا يستعبدونهم في جربة وجرجيس مثل لقب "عتيق فلان"؟
اقرأ/ي أيضًا: