مقال رأي
كانت صورة صادمة تلك التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية قبل أيام في مدينة "مينابوليس" الأمريكية، وأظهرت شرطيًا أبيضًا يتعامل مع مواطن أمريكي أسود بطريقة لا تكاد تختلف عن معاملة الخرفان حين النحر، زيادة على ما برز من ملامح الرجل من عنهجية وصلف لا تكاد تخطئها عين. وقد أدت وفاة المواطن الأمريكي إلى إعادة إشعال مشاعر الغضب الكامنة لدى الأقليات في أمريكا وفي بقية أصقاع الكون.
وفي تونس، كنا على موعد مع إعادة ملامسة ملف الأقليات إبان تقديم حكومة الحبيب الجملي للبرلمان، فلقد كان من قبيل السابقة التاريخية أن ضمت قائمة الوزراء المقترحين أول وزير أسمر اللون وهو الحسين دبش الذي كان يشغل منصب الرئيس المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
لعل فظاعة ما جرى مع المواطن التونسي "سليم مرزوق" تشي بما يختمر في لاوعي العامة من رواسب لا يمكن إلا أن توضع في خانة العنصرية المقيتة
تونس التي كان لها السبق العالمي في إلغاء العبودية بقرار من أحمد باي سنة 1846، لم تكفها ما يزيد عن الستين سنة كاملة لتتخيّر من أجيال خريجي جامعاتها والجامعات الأجنبية امرأة أو رجلًا أسمرًا واحدًا لمنصب وزاري ناهيك عن رئاسة الحكومة أو رئاسة البرلمان أو رئاسة الدولة، عدا مناسبة يتيمة إبان تعيين المرحوم الطيب السحباني سنة 1986 في منصب كاتب دولة لدى وزير الخارجية.
اقرأ/ي أيضًا: عن الشوفينية الوطنجية التونسية
ولئن ساهمت ثورة تونس في إخراج جل ملفات الاستبداد إلى النور بعد سنين التعتيم، لا تزال بعض الزوايا المظلمة تترقب جهودًا جدية لكشف الحقيقة، وإنارة الرأي العام من جهة وإنصاف الضحايا ورد الاعتبار لهم ولو بعد حين، ومن ضمنها ملف الأقلية من المواطنين ذوي البشرة السوداء.
ولعل فظاعة ما جرى مع المواطن التونسي "سليم مرزوق" تشي بما يختمر في لاوعي العامة من رواسب لا يمكن إلا أن توضع في خانة العنصرية المقيتة بلا مواربة. إذ تروى الأستاذة "مها عبد الحميد"، الناشطة السوداء، بكثير من الحرقة والألم مأساة هذا الشاب الذي عاد إلى تونس ستينيات القرن الماضي بعد رحلة قادته إلى كل من فرنسا وأمريكا طلبًا للعلم.
عاد سليم يحمل شهائده النادرة في تلك الحقبة، وقد ترك خلفه مغريات كانت سترتفع به في سلم العلم والثروة إن هو استسلم لسلطانها. عاد وقد ارتفع به الأمل في أن يساهم بما توفر لديه في رسم مستقبل مشرق لبلد احتضن آماله في طورها الجنيني، وكان في خلده أن على أكتافه دينًا جاء ليقضي بعضًا منه تجاه هذه الأرض الطيبة.
ولم يرد سليم الولوج إلى ساحات الفعل من الشبابيك الخلفية بل طرق الأبواب الكبرى، فالتقى الرئيس الحبيب بورقيبة عارضًا ما نال من مراتب العلوم في الغرب وطالبًا أن يشرفه بمنصب وزاري هو أدنى ما يمكن أن يتلاءم مع مؤهلاته.
وقد روت مها عبد الحميد عن شقيقة سليم مرزوق رد الزعيم الصادم وقتها حين قال له: "طيب إذن. لقد نلت الشهائد الجامعية ولذلك سأعينك سفيرًا في إحدى البلدان الإفريقية جنوب الصحراء. هناك ستكون في أحسن حال بين أهلك".
كان رد فعل بورقيبة حينها لا يتناسب مع "الجرم" الذى أتاه شاب طموح أسود البشرة
لم يستطع سليم أن يستوعب الصدمة المهينة، وعاد الى مسقط رأسه، قابس، أين عقد مجموعة من الاجتماعات في سياق سعيه إلى تأسيس نواة حزبية تجمع ذوي البشرة السوداء، وأسس مكاتب في المحليات التي تضم المواطنين السود مثل "المدو"، و"عرام" والقرى المجاورة.
وكان رد فعل بورقيبة حينها لا يتناسب مع "الجرم" الذى أتاه شاب طموح أسود البشرة، ولم يشأ الزعيم حينها أن يشرفه بأن يكون من أوائل سجناء الرأي في دولة ما بعد الاستقلال بل لقد أشار بوضعه في مستشفى الرازي للأمراض العقلية بمنوبة أين قضى 35 سنة كاملة.
اقرأ/ي أيضًا: أبعاد العنصرية: تابوه التمييز العرقي في تونس
وبعد انقلاب 7 نوفمبر، سعت أخته إلى إخراجه لكن سليم رفض وآثر إتمام بقية حياته رفقه المجانين بعد ما لاقاه من "سطوة العقلاء" إلى أن توفي سنة 2001 ووُري الثرى في مسقط رأسه بقابس.
"الجنرال سليم" كما كان يدعى حينها "عاش يتمنى في عنبة" كما يقول الأديب علي الدوعاجي، لكنه مات ولم يسعد حتى وهو "تحت اللحود". ولم تكن مأساته سوى عينة بسيطة قد تكون بمثابة الشجرة الصغيرة التي تخفي غابة كثيفة بل هي أدغال مخيفة من السلوك العنصري البغيض. ومن ذلك ما روي عن رئيس المجلس القومي التأسيسي جلولي فارس حين قام بطرد المعتمد المعين حديثًا في مدينة الحامة فقط لأنه كان أسود اللون وقال له حينها "كيفاش باش انادوك؟ -سيدي المعتمد- ولى –بَاكْ- ( لفظ عنصري) المعتمد؟".
لم تكن مأساة سليم مرزوق سوى عينة بسيطة قد تكون بمثابة الشجرة الصغيرة التي تخفي غابة كثيفة
إنها المفارقة الغريبة و الصادمة، كون منفتح على عوالم الانعتاق والحرية حد الانفلات، يستبطن في الآن نفسه رواسب عنصرية لا تخلو من الازدراء و عقد التفوق. لم تكف كل الشرائع والأديان السماوية ولا عهود حقوق الإنسان ومواثيقه ولا حتى رسالة "الجاحظ" الشهيرة في "فضل السودان على البيضان" لتدفع البيض إلى الوقوف برهة أمام مرايا التاريخ كمقدمة ضرورية لمراجعة في حفريات الوعي واللاوعي لن تكون ذات معنى دون اعتذار صادق من رجل أبيض توهم للحظة أنه من فصيلة أنصاف الآلهة .ونقول، في الختام، بتصرّف عن مونتسكيو: "أنا أبيض (أو أسود) بالصدفة لكني إنسان بالضرورة".
تنويه: هذا المقال لا يعبّر عن رأي الموقع بل يعبّر عن رأي صاحبه فقط.
اقرأ/ي أيضًا: