ينتشل أعوان الحرس البحري وجيش البحر في تونس، سنويًا، عشرات الجثث لمهاجرين غير نظاميين، خصوصًا في سواحل المناطق الجنوبية على غرار جرجيس. وقد ظلت السلطات التونسية على مدى سنوات تقوم بدفن تلك الجثث دون تحديد هويتها، أو السعي إلى ذلك من خلال تجميع أشيائها وكلّ ما يدل عن انتمائها وهويتها، أو دون القيام بأي تحاليل أو رفع للبصمات.
لكن بعد ضغط من المجتمع المدني والمنظمات الدولية، انخرطت تونس على غرار العديد من الدول في عملية تحديد هويات المهاجرين غير النظاميين. لكنّ أغلب الجثث تصل إلى الشواطئ وقد تحلّل جزء كبير منها، يصعب معها تحديد هوية الشخص أو أخذ بصماته. فانطلقت تونس بعد الثورة في أخذ عينات الحمض النووي وترقيم ملفات الجثث، على أن يحمل قبر كلّ جثة نفس رقم ملف تحليل الحمض النووي.
انطلقت تونس بعد الثورة في أخذ عينات الحمض النووي وترقيم ملفات جثث المهاجرين غير النظاميين على أن يحمل قبر كلّ جثة نفس رقم ملف تحليل الحمض النووي
تنطلق العملية بنقل الجثث إلى أحد المستشفيات لفحص الجثة من أطباء اختصاص طب شرعي بالأساس، ويقع رفع بصمات الأصابع إن وجدت أو رفع عيّنات من الحمض النووي، ثم يقع ترقيم الجثث بنفس الرقم المسجل على ملف حمضها النووي على أن يقع كتابته على القبر أيضًا.
ويُمكّن هذا الإجراء كل عائلة باحثة عن جثة فقيدها من التوجه إلى الصليب الأحمر المشرف على العملية، للبحث عن جثث أبنائها أو من لقوا حتفهم خلال عمليات هجرة سرية. وحتى العائلات الأجنبية قادرة على التواصل مع الصليب الأحمر في بلدانهم لطلب معلومات حول آخر الجثث التي تم انتشالها من البحر الأبيض المتوسط ومكان انتشالها، لتقوم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بعد ذلك بالتواصل مع إدارة الطب الشرعي في الدول التي قامت بدفن جثث مهاجرين من المرجح أن تكون من ضمنها جثث أبنائهم.
اقرأ/ي أيضًا: رغم "الكورونا": ارتفاع عدد عمليات الهجرة غير النظامية.. وهذه هي الأسباب
يحمل قبر كلّ جثة نفس رقم ملف تحليل الحمض النووي (مريم الناصري/ الترا تونس)
كما ظلت السلطات التونسية على مدى سنوات تدفن تلك الجثث في المقابر العادية، حتى جثث الأجانب، باعتبار صعوبة تحديد هوية تلك الجثث وإذا ما كانت لتونسيين أم أجانب، خاصة وأنّ الجثث غالبًا ما تصل إلى الشواطئ وقد تحلل جزء كبير منها في البحر.
وقد عبّرت بعض البلديات عن رفضها دفن جثث المهاجرين غير النظاميين الأجانب مجهولي الهوية في مقابر التونسيين في مناسبات سابقة. وقد ندد المكلف بالإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر برفض بعض البلديات دفن جثث مهاجرين مجهولي الهوية في مقابر الجهة، إضافة إلى تنديده برفض بعض الجهات تخصيص مقابر خاصة بجثث المهاجرين غير النظاميين.
عبّرت بعض البلديات عن رفضها دفن جثث المهاجرين غير النظاميين الأجانب مجهولي الهوية في مقابر التونسيين في مناسبات سابقة
يُذكر أن وزارة الداخلية كانت قد أحبطت عدّة عمليات هجرة غير نظامية نحو سواحل إيطاليا منذ انتشار فيروس كورونا. وأفاد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بأنّ عدد المهاجرين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية تجاوز 2400 شخصًا منذ مطلع جويلية/يوليو الماضي، فيما لقي العشرات حتفهم في البحر الذي لفظ جثث بعضهم على السواحل التونسية.
اقرأ/ي أيضًا: بلديات ترفض دفن جثث المهاجرين وأخرى تلجأ للدفن الجماعي!
مئات الجثث مجهولة الهوية
وقد شهدت تونس عقب الثورة خاصة بسبب الانفلات الأمني عشرات عمليات الهجرة غير النظامية بصفة أسبوعية. استطاعت بعض مراكب الهجرة الوصول بأمان إلى إيطاليا، فيما لقيت عشرات الرحلات نهاية مأساوية راح ضحيتها مئات الضحايا في رحلة اللاعودة.
لفظ البحر جثثهم على ضفاف شواطئ عدّة في تونس، لا سيما سواحل الجنوب التونسي. دفن بعضها في مقابر جماعية على غرار دفن 200 جثة سنة 2018 في حفر جماعية، إضافة إلى تعمد بلدية جرجيس في السبت 13 جويلية/يوليو 2019 دفن جثث مهاجرين في حفرة واحدة. جثث لأناس كانوا يومًا ما أصحاب هوية، ضاعت في رحلة الموت كضياع أحلامهم بالوصول إلى الضفة الأخرى.
تونسيون وأجانب جمعتهم مقابر لا تعترف بالتفرقة الدينية أو الجنسية. وباتت جثثهم مجرّد أرقام في قبور منسية. قبور دون اسم أو تاريخ وفاة، فقط كتب عليها مجرّد أرقام مطابقة لأرقام ملفات هي الأخرى مركونة في رفوف تنتظر من يبحثون عن جثث أبنائهم.
رمضان بن عمر (المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) لـ"ألترا تونس": "التعامل مع جثث المهاجرين غير النظاميين قبل الثورة كان لا يستجيب لمعايير حفظ الكرامة البشرية، وكان يتم دفنهم في مقابر غير مهيأة"
يقول رمضان بن عمر، المكلّف بالإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لـ"ألترا تونس" إنّ "التعامل مع جثث المهاجرين غير النظاميين قبل الثورة كان لا يستجيب لمعايير حفظ الكرامة البشرية، وكان يتم دفنهم في مقابر غير مهيأة. لكن منذ سنة 2015 انطلقت العديد من المنظمات والهياكل في الاشتغال على موضوع جثث المهاجرين. وطالبنا بإيجاد مقبرة لائقة لدفن تلك الجثث والقيام بإجراءات لحفظ معطياتهم الشخصية وخاصة القيام بالتحليل الجيني الذي يُمكن عائلاتهم من نقل جثثهم أو معرفة مصيرهم. خاصة وأننا نعاني نفس الإشكالية ولدينا مهاجرون تونسيون نواجه إشكالية التعرف على مصيرهم أو استعادة جثثهم من دول أجنبية".
ويضيف بن عمر أنّ "هذه الأزمة زادت حدّة خصوصًا سنة 2018 بعد ظهور عشرات الجثث على سواحل جرجيس والطريقة التي تم بها دفن الجثث. الأمر الذي أثار امتعاض بعض المنظمات. فتمّ تهيئة مقبرة جرجيس، وإلى حد الآن يقع مواصلة تهيئتها. وبات يتم حفظ عينة من الحمض النووي أي تحليل ADN لجثث المهاجرين. وتتم العملية في قسم التشريح سواء في مستشفى قابس أو مستشفى صفاقس والتعامل مع هيئة الصليب الأحمر الدولي التي تولت عملية التدريب".
ويوضح: "لكن لدينا شكوك أنّه تم مؤخرًا في جرجيس دفن بعض الجثث في جهة مدنين دون القيام بحفظ عينات الحمض النووي وكأننا تراجعنا عن عملية أخذ عينات الجثث"، مضيفًا "قطعنا شوطًا مهمًا لكن يجب أن يتواصل لأنه لدينا العديد من المفقودين التونسيين. ولسنا نطلب فقط التحليل الجيني للجثث بل حتى التحليل الجيني لكل العائلات التي لديها مفقودين في عمليات هجرة سرية، لتكون عملية التثبت سهلة رغم أنّ العملية مكلفة ماديًا، لاسيما وأنّ العديد من الجثث تتحلل وتختفي أغلب ملامحها ولا يمكن معرفة هويتها دون القيام بتحليل ADN، أو دون أن تحمل الجثة ما يثبت هويتها".
ويشير المكلف بالإعلام في المنتدى إلى أنّه "يقع بعد حفظ عيّنة التحليل ترقيم ملف الجثة وكتابته على نفس القبر حتى تسهل فيما بعد عملية البحث عن الجثث في حال طالبت عائلة ما بنقل الجثة إلى مقبرة أخرى داخل تونس أو خارج تونس إذا كانت لأجنبي".
شمس الدين مرزوق (قام بدفن أكثر من 500 جثة بعد الثورة بشكل تطوعي في منظمة الهلال الأحمر) لـ"ألترا تونس": "تمّ دفن بعض الجثث خلال الفترة الأخيرة دون أخذ عينات الحمض النووي خوفًا من العدوى بفيروس كورونا"
شمس الدين مرزوق يقوم بدفن جثث المهاجرين غير النظاميين منذ سنوات في منطقة جرجيس تحديدًا، وقد قام بدفن أكثر من 500 جثة بعد الثورة بشكل تطوعي في منظمة الهلال الأحمر.
يقول مرزوق لـ"ألترا تونس" إنّه "تمّ دفن بعض الجثث خلال الفترة الأخيرة دون أخذ عينات الحمض النووي، جثث تنقل إلى المستشفى للقيام بتقرير طبي فقط ويتم نقلها إلى المقبرة مباشرة دون القيام بأخذ عينات، لاسيما منذ انتشار فيروس كورونا إلى اليوم وخوفًا من العدوى".
ويوضح، خلال حديثه معنا، "في السابق كان يقع كتابة نفس رقم ملف عينة الحمض النووي للجثة على القبر لتسهيل عملية معرفة هوية الجثث في حال بحثت العائلات عن أبنائها وقيامها بتحاليل ADN. ونرجو أن لا يقع التراجع عن العملية وعن هذا الإجراء الذي انطلقت فيه تونس من سنوات لتسهيل عملية تحديد هوية أصحابها".
تخوفات من دفن بعض الجثث خلال الفترة الأخيرة دون أخذ عينات الحمض النووي خوفًا من العدوى بفيروس كورونا (مريم الناصري/ الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا:
رئيس"الأرض للجميع" لـ"الترا تونس":ملف الهجرة يوظفه سياسيو إيطاليا كورقة للبروز