11-أغسطس-2022
 تونس العاصمة

"الشعبوية التي قادت الانقلاب في حقيقتها سليلة المسار الديمقراطي المتعثّر" (وسيم الجديدي/Sopa images)

مقال رأي

 

تكون الانقلابات في الغالب تدشينًا لمرحلة جديدة في الدولة والحياة السياسيّة، وكثيرًا ما يبني الانقلابيون شرعيّتهم على بلوغ الوضع القائم نهايته وعجزه عن الاستمرار. وهو ما يجعل، بزعمهم، من تصحيح الأمور حاجة وطنيّة. ويمثّل انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021 حالة انقلابيّة خاصة، إذ أنّ الشعبوية التي قادت الانقلاب في حقيقتها سليلة المسار الديمقراطي المتعثّر، وقد كانت جزءًا من أزمته السياسيّة الهيكليّة بسياستها في الترذيل والتعطيل.

ويمثّل الاستفتاء على دستور قيس سعيّد، عند أنصاره تصحيحًا للمسار الثوري وعلى هذا الأساس اعتبروا الدستور الذي لم يصوّت عليه أكثر من 25٪ من الجسم الانتخابي أساسًا لـ"جمهورية جديدة".
 

  • وهم القدرة على التجدّد

 
دسترة الانقلاب في جوهرها ثأر للنظام النوفمبري من ثورة الحرية والكرامة. وهو بحساب السياسة انتصار مؤقّت للثورة المضادة على مسار الثورة المتعثّر. فالقديم الذي قبل مكّون منه بسقف الديمقراطية ودستور الثورة بعد فوزه التاريخي بالرئاسات الثلاث في انتخابات 2014 أوهم بقابليته للدخول في مسار "تسوية تاريخية" على قاعدة مشروع تونس الديمقراطي.

دسترة الانقلاب في جوهرها ثأر للنظام النوفمبري من ثورة الحرية والكرامة وهو بحساب السياسة انتصار مؤقّت للثورة المضادة على مسار الثورة المتعثّر

وهي تسوية لا نرى بديلاً عنها لتجاوز ما خلّفته دولة الاستقلال المركزية من انقسام مضاعف هووي اجتماعي. ولا أفق لها إلا بإعادة بناء الدولة على قاعدة مشترك وطني (رأب الصدع الهووي) وتنمية محلية شاملة ومستدامة (رأب الصدع الاجتماعي)، فتغادر جهويّتها وتكتسب الصفة الوطنية لأول مرة في تاريخها الممتد من عهود البايات الحسينيين. وذلك هو جوهر المشروع الوطني بعد أن أعادت ثورة الحرية والكرامة الأمل في الشروع في جمع شروطه.

اختار القديم الانقلاب على "التسوية التاريخية" متوهمًا قدرته على التجدّد، وهو الوسواس الذي سكن "مفكّريه" عقب انتخابات 2014 فقرؤوها على أنّها رسالة مزدوجة: عجز الجديد المبكّر عن التواصل وقدرة القديم القياسية على التجدّد.

رغم أنّ دروس الانتقال الديمقراطي تدلّنا على أنّ الانتخابات الأولى بعد الثورة تكون بالضرورة لفائدة الجديد، في حين تكون الانتخابات الثانية لصالح القديم بعد أن يكون قد وضع كل أسباب تعطّل تأسيس النظام الجديد.  مثلما تدلّنا هذه الدروس على أنّ التعجيل بانتخابات عامة بعد كلّ ثورة مدعاة إلى انقسام الطبقة السياسية المنتسبة إلى الثورة. وتدلّنا هذه الدروس أخيرًا إلى أنّنا بإزاء جيل جديد من الثورات الإصلاحية، ومن حقائق هذا الجيل أنّها لا تميل إلى عمليّة "مسح الطاولة" الشائعة في الثورات التقليدية الكبرى في التاريخ ومنها الفرنسية والبلشفية والإيرانية. 

 


 

  • ملامح الانهيار

انقلاب 25 جويلية عملية هدم نسقي شاملة ومتواصلة طالت كلّ ما بنته تجربة الانتقال من مؤسسات ديمقراطية تشريعية ورقابية وتعديلية، ويبدو حتى بعد الاستفتاء أنّه لا برنامج للانقلاب غير الهدم. وبات عجزه الكامل واضحًا رغم استيلاء التنفيذي فيه على كل السلطات وكل الصلاحيات. فالأزمة المالية الاقتصادية بلغت درجات خطيرة تهدّد وحدة الدولة وتنذر بالإفلاس والمجاعة أمام مستويات التضخم القياسية وانهيار المقدرة الشرائية وتعطّل الاستثمار والإنتاج وخلوّ السوق من مواد العيش الأساسية.

الأزمة المالية الاقتصادية بلغت درجات خطيرة تنذر بالإفلاس والمجاعة أمام مستويات التضخّم القياسية وانهيار المقدرة الشرائية وتعطّل الاستثمار والإنتاج

ومع ذلك تطمع بقايا القديم المتدرّعة بالانقلاب في التجدّد، ولكن أسابيع قليلة بعد الاستفتاء حملت معها مؤشرات انهيار شامل لـ"نص القديم" وروافده الوظيفية بدءًا بنصّه السياسي وما يعرفه من تصدّعات واضحة في سرديّته المؤسسة على "العشرية السوداء" المستهلكة فهي لم تعد قادرة على تبرير عجز الانقلاب ولا على إيقاف تراجعه وعزلته بعد سنة. ولم يبق من مُرافِع عن الانقلاب سوى بقايا رموز تهرّمت وشاخت من البورقيبية المتيبّسة (أحمد ونيّس نموذجًا) تمضغ جملًا قديمة منكّهة بخطاب سيادي يثير الشفقة.

ملامح انهيار تتسرّب تدريجيًا إلى نصّه الإعلامي وجمله "الوهابية" المستهلكة، فلم يعد بإمكان بعض من رموز الإعلام المنحاز للثورة المضادّة، بعد سنة من الانقلاب، وبعد استفتاء الـ25% تعليق إخفاقات الانقلاب وعجزه وعبثه على العشرية السوداء وزعيمتها النهضة التي "سرقت المال العام ودمّرت الدولة".

كما لا يخفى تهافت نصّه الثقافي وانسداد أفقه، حين يطمع في أن يعبّر عنه التهريج "المسرحي"، وحين يأمل في أن يجعل منه أحد أدواته في حربه على ما بقي من شروط الديمقراطية. فمن استمع إلى الجمهور وهو يخرج من عرض "نموت عليك" يلحظ موت هذا الضرب من التهريج في عقول الكثيرين.

أزمة النصوص وانهيار بعضها في واقع الأمر تطول السرديّات الإيديولوجيّة الكبرى التي رافقت الحركة السياسيّة والحقوقيّة في بلادنا

وأزمة النصوص وانهيار بعضها في واقع الأمر تطول السرديّات الإيديولوجيّة الكبرى التي رافقت الحركة السياسيّة والحقوقيّة في بلادنا. وقد يذهب البعض إلى حدّ الحديث عن "موت الإيديولجيا" في مواجهة " تيّار العولمة " الذي لا يمكن أن يكون "ما فوق الإيديولوجيا" رغم زعم أنصاره واجتهادهم في تثبيت ذلك.

 

 

  • من المرحلي إلى الاستراتيجي

وفي المقابل تقوم نخب، منها ما كان يُحسب في السابق على المشروع البورقيبي التحديثي ومحيطه اليساري، لتعلن إطلاق المقاومة المواطنية في مواجهة نظام الانقلاب ونظامه الدكتاتوري من نقطة استقلال القضاء والمظلمة المسلطة على القضاة (عياض بن عاشور، حمادي الرديسي، كمال بن مسعود، أحمد صواب، بشرى بلحاج حميدة). وفتحت تدخلاتهم في ندوة جمعية القضاة التونسيين حول إضراب القضاة جبهة جديدة في مواجهة الانقلاب وعبثه بالدولة والقضاء والمجتمع.

طيلة سنوات الانتقال العشر عرفت الحدود بين القديم والجديد تطورات مهمة همّشت إلى حدّ كبير مصداقيّة ثنائية قديم/جديد الإجرائية في التعبير عن تفاعلات المشهد السياسي ورصد تحولاته. ولكن الانقلاب والفرز على قاعدة مسار بناء الديمقراطية ودستور الثورة أعادا صراع الثورة والثورة المضادّة إلى الواجهة، مع تسجيل تغيرات مهمة في اتجاهات مختلفة تتصل بهوية الجهتين.

الانقلاب والفرز على قاعدة مسار بناء الديمقراطية ودستور الثورة أعادا صراع الثورة والثورة المضادّة إلى الواجهة

ومثلما كان حياد الأجهزة من أهمّ أسباب تواصل المسار الديمقراطي لعشر سنوات رغم ما عرفه من تعثّر وما اعترضه من تحديّات، فإنّ انحيازها، على ما يبدو، كان السبب في تسجيل الثورة المضادة انتصارها المؤقت، وسيكون عجز الثورة المضادة وانكشاف وهم عودة القديم، إلى جانب صمود القوى الديمقراطية المواطنية وقدرتها على المبادرة في قادم الأيام مثلما بادرت بالتصدّي إلى الانقلاب، وإنّ ما يعرفه السياق الإقليمي والدولي من تحولات سريعة في ظل الأزمة العالمية وارتباط مصلحة تونس بالتقدّم نحو استعادة المسار الديمقراطي سيدفع بالأجهزة إلى وضع الحياد مجددًا.

وهو ما سيفضي إلى حوار وطني بأفق توحيد المجال السياسي وتجديد الطبقة السياسية واللقاء على المشترك الوطني الديمقراطي. وليس الحوار عمليّة تجميع لجهات تعلن مناهضتها للانقلاب، مثل محاولات الجمع بين جبهة الخلاص والخماسي. إذ أنّ خصوم الانقلاب كثر، بعد سنة منه، ولكنّ أنصار الديمقراطيّة قليلون. وبذلك نخرج من "المرحلي" وعنوانه مواجهة الانقلاب وكان التجبيه (بناء جبهات) الذي قد يُحتاج إليه لاحقًا جزءًا منه، إلى الاستراتيجي وعنوانه استعادة المسار الديمقراطي وتجميع موادّ بنائه المتناثرة في المشهد السياسي وقد تكون صيغة المؤتمر الوطني مناسبة لإنقاذ البلاد من الانهيار المُحْدِق.

سنتجه إلى حوار وطني بأفق توحيد المجال السياسي وتجديد الطبقة السياسية واللقاء على المشترك الوطني الديمقراطي

يعيدنا هذا إلى لحظة 2011 مع نتيجة مهمة تتمثّل في عجز بقايا القديم وروافده الوظيفية التي تورّطت مع الانقلاب على أن تكون جزءًا من البناء الديمقراطي، بعد أن أضاعت فرصة لتسوية تاريخية أتاحتها الثورة، وهو ما يحرمها من تمثيل القديم بما هو نمط مجتمعي نبت مع تجربة الاستقلال، ليقدّم من يمثّله في التسوية التاريخية التي لا غنى عنها لمجتمع منقسم، والتي لن تكون إلا على قاعدة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ووحدة الدولة والمجتمع. نحن إزاء مرحلة مثّل الانقلاب عاملاً مهمًّا في مشارفتها على النهاية، وهو ما يفسح المجال أمام الجسم السياسي والمجتمعي لاستنبات جديد موادّه مما بقي حيًّا…إن بقي ما يستحقّ الحياة..

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"