مقال رأي
فيما يشبه الزلزال "النفسي الاجتماعي"، هزّت حادثة "أستاذ الزهراء" المجتمع التونسي وجعلته مباشرة أمام يقين ظَاهَرَهُ وأعرض عنه لسنوات عديدة وهو تهاوي المنظومة التربوية العمومية، ودفعه دفعًا لطرح سؤال حارق لطالما أرجأه وهو "ماذا يحدث في الحياة المدرسية التونسية من تغيرات تشي بالانهيار وانفراط العقد التربوي أو ما يسميه علم الاجتماع "بالحضيض التربوي"؟
هزّت حادثة "أستاذ الزهراء" المجتمع التونسي وجعلته مباشرة أمام يقين أعرض عنه لسنوات عديدة وهو تهاوي المنظومة التربوية العمومية
"حادثة أستاذ الزهراء" أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن العنف والاعتداءات بأنواعها المسلطة على المدرسة التونسية من داخلها أو خارجها في هذه السنوات الأخيرة باتت حقيقة ثابتة بل سمة نفّرت جزءًا من التونسيين من المدرسة العمومية وحملتهم في رحلة مجهولة نحو التعليم الخاص الذي يظهر ما لا يبطن وحول هذه المسألة نقاش مفتوح ولم يحسم بعد... وهي في حقيقة الأمر اعتداءات تتطابق تماما مع تعريف منظمة الصحة العالمية "الاستعمال العمدي للقوة الجسدية أو المادية ضدّ الشخص نفسه وضد الآخرين وضد المجموعة والتي تتسبّب بشكل قوي في إلحاق صدمة أو الموت أو ضرر نفسي أو تشويه أو حرمان".
اقرأ/ي أيضًا: أستاذ يرقد بالإنعاش بعد الاعتداء عليه بساطور.. وجامعة التعليم تعلن إضرابًا
لكن من أين يتأتى العنف المسلط على المدرسة؟
ببساطة هو قادم من أروقة المجتمع نفسه، ففي السنوات الأخيرة وحسب مؤشرات المعهد الوطني للإحصاء فإن منسوب العنف الساري في المجتمع قد ارتفع بل عرف أرقامًا قياسية لم تشهدها تونس من قبل وقد أوعز المختصون ذلك إلى عوامل عديدة ومن أهمها الانهيارات التي عرفتها طبقات المجتمع وتدحرج بعضها إلى مستوى الفقر مما تسبب في تردي المعيشة وأيضًا عدم الاستقرار السياسي الذي انجر عنه تتالي حكومات غير منسجمة مع الواقع ومع تغيرات ملحة، زد على ذلك التعثرات التي عرفها مسار الانتقال الديمقراطي بعد الثورة... كل ذلك خلق مناخات متعددة الآفاق استشرى داخلها العنف بأنواعه وفسدت داخلها الأخلاق وانفرطت منظومة القيم ، فكثرت "البراكجات" و"النطرة" والسرقة والسّطو والتحيّل والغش والاعتداءات على الإدارة والعاملين فيها بمختلف القطاعات.
المدرسة لم يستثنيها العنف بل ضربها بقوة فإلى جانب السرقات والاقتحامات، عرفت المدرسة التونسية في السنوات الأخيرة مشاهد مريعة لاعتداءات عدة
والمدرسة كمؤسسة مجتمعية قيمية مثلها مثل مؤسسة القانون ومؤسسة العائلة وغيرها من المؤسسات والتي من دونها لا يمكن للمجتمع أن يكون مجتمعًا بالمعنى الخلدوني للكلمة، لم يستثنيها العنف بل ضربها بقوة فإلى جانب السرقات والاقتحامات التي تتعرض لها المؤسسات التربوية بشكل يومي عرفت المدرسة التونسية في السنوات الأخيرة مشاهد مريعة لاعتداءات فيما يشبه العدوان قام بها مواطنون يحملون صفة الولي أو هم من أقرباء التلميذ يرقى بعضها إلى إضمار القتل تجاه المربين بمختلف أسلاكهم... ورغم نداءات الاستغاثة التي وجهها المربون ونقاباتهم والمجتمع المدني ودعواتهم المتتالية من أجل تجريم الاعتداء على حرمة المدرسة والعاملين فيها إلا أن ذلك لم يلق آذانًا صاغية من سلطة القرار السياسي.
اقرأ/ي أيضًا: الخبير محمد بن فاطمة: منظومة التربية منهارة ولا بدّ من منهجية للإصلاح (حوار)
فيما يتعلق "بالعنف المدرسي" الذي يعرفه علم النفس "بأنه نمط من أنماط السلوك الذي ينبع عن حالة إحباط مصحوب بعلامات توتر ويحتوي على نية سيئة لإلحاق ضرر مادي ومعنوي بكائن حي"، هو في حقيقة الأمر العنف النابع من المدرسة ذاتها والمتبادل فيما بين مختلف المنتمين لفضاء المؤسسة التربوية.
والمدرسة التونسية يمارس داخلها هذا النوع من العنف بشكل يومي والإحصائيات المتعلقة بذلك تجمّع سنويًا من المؤسسات التربوية وتوجه إلى المندوبيات الجهوية وترفع إلى وزارة التربية التي تتكتم عن نتائجها النهائية ولا تنشرها للعموم بل لا تتم قراءتها القراءة العلمية الدقيقة من أجل استخلاص التصورات المستقبلية للحياة المدرسية.
من مطالب المربين منذ سنوات تأكيد المرور بين المراحل التربوية بواسطة المناظرات الوطنية وإعادة الاعتبار للتكوين المهني لتخفيف العبء على المعاهد الثانوية ومعالجة ظاهرة التسرب المدرسي
وحادثة "أستاذ الزهراء" التي جدت منذ أيام وهزت الرأي العام التونسي كان بالإمكان تفاديها لو قامت وزارة التربية بمراجعات هيكلية وعميقة، طالب بها المربون منذ سنوات، والتي تهم تأكيد المرور بين المراحل التربوية بواسطة المناظرات الوطنية (السيزيام والنوفيام) وإعادة الاعتبار للتكوين المهني عبر ضمه من جديد لوزارة التربية لأنه يخفف العبء على المعاهد الثانوية ويعالج ظاهرة التسرب المدرسي ويساعد على الاندماج في الحياة الاقتصادية بسرعة، وتحويل بعض المواد إلى فضاءات للنقاش مع التلاميذ وترسيخ الأنشطة الثقافية المتجددة وخصوصًا التربية على وسائل الإعلام وعلى احترام البيئة وجعل كل ذلك إلزامياً.
ومن مطالبهم أيضًا مراجعة الزمن المدرسي وجعل مختص في علم النفس في كل مدرسة ابتدائية وإعدادية ومعهد ثانوي وبعث بيوت تمريض لائقة بكل مؤسسة تربوية ورقمنة المواد وبعث منصات للتواصل التربوي وربط الصلة مع المحيط وتشريك مؤسسة العائلة وغير ذلك.
لقد حان الوقت أكثر من أي وقت مضى من أجل تشخيص الواقع الحالي وتشريك المعنيين والخروج بتصورات جديدة تكون حافزًا نحو إصلاح تربوي بات ضروريًا
لقد حان الوقت أكثر من أي وقت مضى أن تعود تونس إلى مرسوم اليونسكو الصادر سنة 2003 والمتعلق بأولويات الوقاية من العنف المدرسي، وأن تذهب إلى عقد مؤتمر وطني خاص بالعنف في الوسط المدرسي من أجل تشخيص الواقع الحالي بكل جدية وتشريك المعنيين وخصوصًا من المربين وشركاء التربية من المجتمع المدني والخبراء والخروج بتصورات جديدة تكون حافزًا نحو إصلاح تربوي بات ضروريًا.
لا نريد أن تكون حادثة "أستاذ الزهراء" مجالاً للمزايدات السياسية والحسابات النقابية الضيقة بل نريدها لحظة تأمل ونقاش رصين بخصوص ما آلت إليه مؤسسة المدرسة التي فقدت هيبتها وماتت شجرة القيم داخلها والتي تطعم منها الأجيال حتى يكونوا على دروب الصلاح.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: