مقال رأي
كان يجب أن ننتظر آخر شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021 حتى يهتم الرئيس التونسي قيس سعيّد بشكل واضح ومباشر بأهم ملف سياسي راهن. لا يتعلق ذلك بالنظام السياسي الذي يحلم منذ سنة 2011 بإقامته ولا بمكافحة الفساد.
أهم ملف سياسي راهن هو الوضع الاقتصادي والمالي، ومن ثمة الصيغة الوحيدة الواقعية الممكنة لمواجهة الموازنات المالية أي المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بعد تراجع سيناريوهات التمويل الثنائي من قبل "الأشقاء" الذين لمح إليهم سعيّد بعد 25 جويلية.
كيف ستكون المفاوضات مع صندوق النقد بالنسبة لرئيس تمسك بشكل متواصل بسردية تتعفف عن الحاجة لمؤسسات مالية دولية وسبق أن سمى أحد أذرعها، مؤسسات الترقيم المالية، بـ"أمك صنافة"؟
السؤال الأساسي الآن كيف ستكون خطة "الإصلاحات" الاقتصادية لرئيس تمسك بشكل متواصل بسردية تتعفف عن تسيير الاقتصاد وحسابات المال، وأيضًا عن الحاجة لمؤسسات مالية دولية، وسبق أن سمى أحد أذرعها، مؤسسات الترقيم المالية، بـ"أمك صنافة".
اقرأ/ي أيضًا: سعيّد ينتقد وكالات التصنيف العالمية ويهاجم دعوات التظاهر ضده الأحد
أشرف سعيّد، الاثنين 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، على "اجتماع" لم يتم وصفه حتى بشكل محدد رغم أنه عملياً مجلس وزاري مضيق ضمّ، كما نص البلاغ الرئاسي، "بالخصوص رئيسة الحكومة ووزيرة المالية ووزير الاقتصاد والتخطيط ومحافظ البنك المركزي وكاتبة الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج المكلفة بالتعاون الدولي".
البلاغ يضيف "مثّل متابعة الوضع الاقتصادي والمالي بتونس، وعرض برنامج الإصلاحات الاقتصادية الذي تقترحه الحكومة في إطار التفاوض مع صندوق النقد الدولي من بين أهم المحاور التي تم التعرض إليها في هذا الاجتماع. كما تم التطرق، بالمناسبة، إلى سبل إعادة تحقيق النمو الاقتصادي، وتفادي التضخم المالي فضلاً عن آليات استعادة المالية العمومية لثوابتها".
وهنا يأتي صوت الرئيس في الاجتماع من خلال جملة محددة عرضها البلاغ: "ضرورة إيلاء الأولوية للفئات الهشّة في برنامج الإصلاحات، وتعزيز الحوكمة والحرص على شفافية المالية العمومية. كما شدّد على أهمية ضمان العدل الجبائي وعلى ضرورة تطهير البلاد من جميع مظاهر الفساد". والاجتماع رغم أهميته البالغة لم يتم عرض مقطع فيديو يتضمن كلمة للرئيس خلاله.
من الواضح أن "ممانعة الرئيس" كسياسي غير تقليدي مهموم أساسًا بالصيغ والحلول القانونية ويتطير على الأرجح من وقع الأرقام، لم يعد من الممكن أن تتواصل
من الواضح أن "ممانعة الرئيس"، كسياسي غير تقليدي مهموم أساسًا بالصيغ والحلول القانونية، ويتطير على الأرجح من وقع الأرقام وتعقيد الإحداثيات المالية خاصة عندما تعكس عبئًا يصعب حله بمعايير قيمية ثنائية كأبيض وأسود، لم يعد من الممكن أن تتواصل.
الوضع صعب بشكل خاص. تقرير الميزانية التكميلية لسنة 2021 يضع النقاط على الأرقام. عجز في الميزانية يتجاوز 3.2 مليار دولار. وفي القسم الخاص بمصادر تعبئة الموارد إلى آخر العام لا توجد الإجابات الشافية.
اقرأ/ي أيضًا: قانون المالية التعديلي 2021.. أرقام وملاحظات
تقرير مؤسسة الاستشارة الاقتصادية الدولية (Capital Economics) بتاريخ 25 نوفمبر الجاري: "صناع السياسة في تونس لديهم القليل من الذخيرة المتاحة للدفاع عن الدينار. نعتقد أن العملة ستنخفض بأكثر من 10٪ مقابل اليورو بنهاية العام المقبل"
آخر التقارير الباعثة على القلق، تقرير مؤسسة الاستشارة الاقتصادية الدولية (Capital Economics) بتاريخ 25 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. يقول كاتبه منذ البداية: "الوضع الخارجي لتونس في حالة يرثى لها وصناع السياسة لديهم القليل من الذخيرة المتاحة للدفاع عن الدينار. نعتقد أن العملة ستنخفض بأكثر من 10٪ مقابل اليورو بنهاية العام المقبل والمخاطر تكمن بشدة في الاتجاه الهبوطي"، ويضيف: "يرجع التدهور الأخير في وضع الحساب الجاري إلى اتساع العجز التجاري حيث انتعشت الصادرات منذ بداية العام لكن الواردات نمت بوتيرة أسرع بكثير، إلى جانب هذا الانتعاش البطيء الذي أثره قطاع السياحة على الميزان التجاري مما يعني أنه من المتوقع أن يظل عجز الحساب الجاري كبيرًا".
وفي الختام، المسألة بسيطة: لا يمكن لقيس سعيّد أن يذهب قدمًا إلى الضفة الأخرى أي نحو حلمه في تحوير الدستور إلا عبر فترة انتقالية حساباتها الواقعية صعبة وتتركز في عمق السياسة التي يتهرب منها هو أيضًا مثلما تهربت منها النخبة التقليدية: الموضوع الاقتصادي والمالي.
لا توجد وصفة مثالية، إما "إصلاحات" مرضي عليها من صندوق النقد بما يسمح بالتمويلات للميزانية وهذا يعني قرارات "موجعة" أو عجز متعاظم وعدم قدرة على تمويل الميزانية
لا توجد وصفة مثالية، إما "إصلاحات" مرضي عليها من صندوق النقد بما يسمح بالتمويلات للميزانية وهذا يعني قرارات "موجعة" تهم تجميد الأجور والطرد أو التخلي عن موظفين وفي أحسن الحالات تقليص ساعات عمل موظفين في الوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية أو عجز متعاظم وعدم قدرة على تمويل الميزانية.
وبعيدًا عن توهم بعض معارضي قيس سعيّد الذين يرون سقوط الرجل و"ترنح الانقلاب" الفوري، من الواقعية الإقرار أن استمرار سعيّد في السلطة لن يكون ثمنه سهلاً، سياسيًا أو اجتماعيًا، خاصة إذا واصل التركيز على المقاربة السياسية وهدف تغيير النظام السياسي بما يعدد مجال خصومه، ويتجاهل حلولًا مبتكرة بالتعاون مع عقول مجددة لأهم مواضيع السياسة أي الشأن الاقتصادي الاجتماعي.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
حوار| آرام بلحاج: تعهدات تونس مع صندوق النقد قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي
حوار: المختص الاقتصادي رضا الشكندالي يقدم مقاربة متكاملة لإنقاذ ميزانية 2021