تخيل أن تعيش في قرية فقيرة تفتقد لكل مقومات العيش الكريم، وبينما أنت تقاوم كي تحيا تجد نفسك في مصيدة للألغام، ذلك هو حال سكان القرى المتاخمة لجبال القصرين، فـ "الفقر وراءهم والألغام تحت أقدامهم".
وعلى الرغم من معرفتهم بأنّ جبال سمامة والشعانبي والسلوم لم تعد تلك المناطق الآمنة التي احتضنتهم جيلاً بعد جيل ووفرت لهم حماية وموارد رزق متنوعة وهواءً نظيفًا عليلاً، فإنه لا خيار آخرَ أمامهم سوى الدخول يوميًا إلى أعماق الجبال "الملغمة" للبحث عن لقمة العيش.
يعتمد سكان المناطق المتاخمة لجبال القصرين على ما توفره هذه الجبال من حطب وحلفاء وأعشاب جبلية لتوفير قوتهم ما جعل الكثير منهم ضحايا لانفجار الألغام المزروعة في تلك الجبال
ويعتمد هؤلاء السكان على ما توفره الجبال المرتفعة من حطب وأعشاب جبلية وحلفاء وبعض النباتات الأخرى لبيعها في الأسواق الأسبوعية، لتوفير قوتهم وقوت أطفالهم، ما جعل الكثير منهم ضحايا لانفجار الألغام المزروعة في تلك الجبال والتي لا تفرق بين طفل أو امرأة أو رجل طاعن في السن.
جبال القصرين.. من مصدر للحياة إلى حلبة للموت؟
في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2024، فقدت حدّي فقراوي، (36 عامًا)، ساقها اليسرى وكُسرت ساقها اليمنى بعد أن تعرضت لانفجار لغم أرضي كان مزروعًا في منطقة العثامنية التابعة لمعتمدية حاسي الفريد من ولاية القصرين، عندما كانت بصدد جمع نبتة الحلفاء لبيعها.
يقول زوجها طارق ذيبي في حديثه مع "الترا تونس" إنّ زوجته أصيبت بينما كانت تجمع الحلفاء برفقة والدته المسنة وزوجة خاله في أرض قريبة من منزلهما، بهدف بيعها والتوجه بثمنها إلى السوق الأسبوعية من أجل شراء بعض الخضر واللحم.
زوج حدّي فقراوي (بترت ساقها إثر انفجار لغم) لـ"الترا تونس: زوجتي كانت بصدد جمع الحلفاء في أرض قريبة من منزلنا بهدف بيعها وتلقّي بعض الملاليم مقابلها.. لكن انفجار لغم أرضي تسبب في بتر إحدى ساقيها ما جعلها مقعدة وضاعف معاناتها
يضيف طارق، (31 عامًا)، أنّ حدّي وبقية سكان المنطقة تعودوا منذ نعومة أظافرهم على التوجه بشكل يومي إلى جبل سمامة والمناطق القريبة منه لجمع الحطب ونبتة الحلفاء والأعشاب الجبلية، إضافة إلى رعي الأغنام، ما يعني أن جبال القصرين على الرغم من خطورتها تعتبر مصدر الرزق الأول لمئات العائلات الفقيرة.
ووفق محدث "الترا تونس"، فإنّه يعاني بدوره من البطالة وقلة ذات اليد، ويتردد يوميًا على الجبل لجمع الحلفاء لبيعها للفلاحين الذين يستخدمونها كأعلاف للأبقار، مقابل 200 مليم فقط للحزمة الواحدة من الحلفاء.
يدرك طارق وعائلته وكل جيرانه أنّ الجبال التي كانت قبل سنوات قليلة تحتضنهم وتوفر لهم الغذاء والهواء النظيف تحولت من مصدر للحياة إلى حلبة للموت، لكنهم يقرّون في المقابل بأنّهم لا يملكون الخيار وأنّ الجبل على الرغم من خطورته يبقى مورد رزقهم الوحيد في منطقة تعاني من ارتفاع نسب الفقر والبطالة إلى جانب غياب المشاريع التنموية.
زوج حدّي فقراوي (بترت ساقها إثر انفجار لغم) لـ"الترا تونس: نعاني من البطالة وقلة ذات اليد لذلك نتردد يوميًا على الجبل رغم المخاطر لجمع الحلفاء وبيعها للفلاحين الذين يستخدمونها كأعلاف للأبقار مقابل 200 مليم فقط للحزمة الواحدة من الحلفاء
وأظهرت إحصائيات رسمية نشرها المعهد الوطني للإحصاء، حول توزع نسبة الفقر على خارطة تونس سنة 2020، أنّه تم تسجيل أعلى نسبة فقر في منطقة حاسي الفريد من ولاية القصرين بـ 53.5%، ما يعني أنّ أكثر من نصف سكان هذه المنطقة يعيشون الخصاصة والحاجة.
ويجني طارق وزوجته حدّي أسبوعيًا ما بين 20 إلى 60 دينارًا من بيع الحلفاء، وهو مبلغ يعتبره طارق ضعيفًا جدًا ولا يوفر لهم حاجياتهم اليومية من غذاء ودواء وملبس، في وقت تشهد فيه الأسعار ارتفاعًا لافتًا.
يقول طارق في هذا السياق: "إذا اشترينا الأكل لا نقدر على شراء اللباس وإذا اشترينا اللباس لا نقدر على شراء الأكل واليوم أصبحت زوجتي مقعدة تحتاج لعلاج ومتابعة خاصة فزادت أعباؤنا، تلك هي حياتنا نفنيها بين أحضان الجبل نبحث عن لقمة عيش تُبقينا على قيد الحياة وفي النهاية ربما نموت أو نصبح مقعدين".
زوج حدّي فقراوي (بترت ساقها إثر انفجار لغم) لـ"الترا تونس: أصبحت زوجتي مقعدة تحتاج لعلاج ومتابعة خاصة فزادت أعباؤنا.. تلك هي حياتنا نفنيها بين أحضان الجبل نبحث عن لقمة عيش تُبقينا على قيد الحياة وفي النهاية ربما نموت أو نصبح مقعدين
وبحسب محدثنا، فإنّ وضعية زوجته الصحية بدأت في الاستقرار بشكل تدريجي، وأنها أدركت فعلاً كونها أصبحت بلا ساق وستكون حركتها من هنا فصاعدًا محدودة وأنها لم تعد قادرة على العمل من أجل توفير قوت يومها.
ويعوّل طارق وزوجته على أن يتمّ توفير الدعم المادي لهما، كما وعدهما والي القصرين، الذي مكّنهما في مرحلة أولى من بطاقة علاج مجانية ومبلغ مالي بسيط، بينما يحلم الزوجان بجراية قارة ومنزل لائق كي يتمكّنا من عيش حياة كريمة.
خديجة الرحيمي.. قصة امرأة تحدّت الألغام من أجل لقمة العيش
في أوت/أغسطس 2024، توفيت خديجة الرحيمي جراء انفجار لغم أرضيّ في جبل السلوم من ولاية القصرين، تاركة وراءها عائلة ملتاعة وطفلين يتيمين دون عائل أو مورد رزق.
ومن المفارقات أنّ خديجة أصيبت قبل هذه الحادثة في انفجارين الأول في 2016 تسبب لها في جروح طفيفة بينما فقدت ساقها في انفجار ثانٍ تعرضت له سنة 2018، وشاءت الأقدار أن تتعرض لانفجار لغم ثالث سنة 2024، لتغيب عن هذا العالم للأبد.
في أوت 2024 توفيت خديجة الرحيمي جراء انفجار لغم أرضيّ في جبل السلوم ومن المفارقات أنها أصيبت قبل هذه الحادثة في انفجارين الأول في 2016 تسبب لها في جروح طفيفة بينما فقدت ساقها في انفجار ثانٍ تعرضت له سنة 2018
بألم كبير وبصوت تخنقه العبرات، تحدث شقيقها سالم الرحيمي مع "الترا تونس"، عن قصة نضال شقيقته التي أفنت حياتها في العمل لتوفير لقمة العيش لعائلتها متنقلة بين الجبال والتضاريس والسباسب، تبحث عن الحلفاء والإكليل والزعتر وكل ما يجود به عليها الجبل.
بالتمعن في قصة خديجة، تجد أنّ هذه السيدة الأربعينية قد تحدت بكل قوتها الألغام التي زرعتها المجموعات الإرهابية في الطبيعة الخضراء الخلابة لتحولها إلى مكان مهجور، وَسَعَت حتى آخر أنفاسها لكسب لقمة عيشها بجهد وشرف.
وبحسب سالم، أصيل دوار الرحيمات من معتمدية حاسي الفريد، فإنّ شقيقته خديجة رحلت عن هذا العالم وهي تبحث عن مورد رزقها بين الجبال تاركة وراءها طفلين دون سند، وأنها كانت تحلم بحياة أفضل لها ولأبنائها بعيدًا عن الفقر والتهميش.
شقيق خديجة الرحيمي (توفيت جراء انفجار لغم) لـ"الترا تونس": شقيقتي رحلت عن هذا العالم وهي تبحث عن مورد رزقها بين الجبال تاركة وراءها طفلين دون سند.. كانت تحلم بحياة أفضل لها ولأبنائها بعيدًا عن الفقر والتهميش لكن حالَ الأجل دون الأمل
يضيف سالم، وهو عاطل عن العمل، أنّهم يعيشون في منطقة معزولة تعاني من الفقر وغياب الماء الصالح للشرب وغياب مواطن الشغل، إضافة إلى تأثرها بسنوات الجفاف التي عرفتها تونس.
ويؤكد محدث "الترا تونس"، أنّ شقيقته كانت تدرك أنّ حياتها مهددة وأنها قد تموت في أي لحظة لكنها كانت مجبرة على الدخول إلى الجبل كل صباح من أجل جمع الحطب لمقاومة برد الشتاء أو رعي الأغنام أو جمع الحلفاء والإكليل من أجل بيعها مقابل دنانير قليلة لا تغني ولا تسمن من جوع.
شقيق خديجة الرحيمي (توفيت جراء انفجار لغم) لـ"الترا تونس": خديجة كانت تدرك أنّ حياتها مهددة وأنها قد تموت في أي لحظة لكنها كانت مجبرة على الدخول إلى الجبل كل صباح من أجل جمع جمع الحلفاء والإكليل من أجل بيعها مقابل دنانير قليلة
يواصل حديثه قائلاً: "لسنا سعداء بالعيش على بعد أمتار قليلة من منطقة عسكرية مغلقة وفي الآن ذاته لا نريد الهجرة وترك أراضينا ومنازلنا التي كبرنا بها وترك منطقتنا دون سكان، لهذا ننتظر أن تتدخل الدولة في أسرع وقت ممكن لدعمنا على الصمود والعيش بكرامة".
يتابع: "تعاني منطقتنا من نقص التنمية ويحيط بنا الفقر من اليمين والألغام من اليسار، وتحولت الجبال الخضراء الشامخة إلى مصدر للخوف والرعب وحصد الأرواح البشرية، لكننا نريد العيش ونحتاج الدعم في أسرع وقت ممكن".
شقيق خديجة الرحيمي (توفيت جراء انفجار لغم) لـ"الترا تونس": "تعاني منطقتنا من نقص التنمية ويحيط بنا الفقر من اليمين والألغام من اليسار، وتحولت الجبال الخضراء الشامخة إلى مصدر للخوف والرعب وحصد الأرواح البشرية"
ودائمًا ما تحذر وزارة الدفاع التونسية السكان من خطورة التوغل داخل المناطق العسكرية المغلقة تجنبًا لانفجار الألغام المزروعة من قبل جماعات إرهابية. كما أعلن الأمر الرئاسي لسنة 2015 والمؤرخ في 6 جويلية/يوليو 2015، جبال الشعانبي، السمامة، السلوم والمغيلة والمناطق المتاخمة لها بولاية القصرين مناطق عمليات عسكرية مغلقة ابتداءً من تاريخ صدور الأمر الرئاسي وحتى نهاية العمليات.
ناشط في المجتمع المدني: "نريد أن نعيش.."
يؤكد الناشط في المجتمع المدني بولاية القصرين، البُصيري الرحيمي، أنّ هذه الجبال التي تعدّ مناطق عسكرية مغلقة هي مصدر رزق لمئات العائلات التي تعرف بدورها بالمخاطر التي تهددها بسبب الألغام المزروعة بداخلها.
يضيف الرحيمي في حديثه مع "الترا تونس"، أنّ سكان المناطق والقرى الريفية المحاذية لجبال القصرين لا يمتلكون خيارًا آخر سوى المغامرة بحياتهم من أجل العيش وتربية أغنامهم التي تعدّ مورد رزقٍ لهم.
البصيري الرحيمي (ناشط مدني بالقصرين) لـ"الترا تونس": سكان المناطق والقرى الريفية المحاذية لجبال القصرين لا يمتلكون خيارًا آخر سوى المغامرة بحياتهم واقتحام الجبال الفخخة بالألغام من أجل العيش
يتابع محدث "الترا تونس" أنّ مناطق مثل الرحيمات والطوالبية وضروايا والعثامنية وعين سيدي محمود وغيرها من القرى الريفية الأخرى المتاخمة لجبال القصرين، تعاني من فقر شديد وغياب شبه تام للمشاريع التنموية، إضافة إلى غياب الماء الصالح للشرب.
وبحسب الرحيمي، فإنّ بإمكان سكان تلك المناطق التوقف عن المخاطرة بحياتهم والتوغل داخل الجبال لجمع الحلفاء والإكليل والحطب في حال توفرت لهم مواطن شغل بديلة ومشاريع تنموية وآبار مياه لسقي حيواناتهم وأرضهم واستغلالها لإنتاج الخضر والزيتون.
وتابع قائلًا:" للأسف، هذه المناطق اليوم تعاني من فقر مدقع وسكانها مجبرون على الاعتماد على ما تنتجه الجبال كمصدر زرق، ولكن نحن نريد أن نعيش وأن نحيا حياة كريمة كما نريد مشاريع تنموية تساعدنا على العيش بكرامة".
البصيري الرحيمي (ناشط مدني بالقصرين) لـ"الترا تونس": المناطق المتاخمة للجبال في القصرين تعاني من فقر مدقع لذلك إن توفرت لهم مواطن شغل بديلة ومشاريع تنموية فلن يجازفوا بحياتهم في الجبال
ويطالب أهالي القرى المتاخمة لجبال القصرين بضرورة توفير موارد رزق بديلة لهم وحفر آبار مياه جوفية وتوفير مشاريع للنساء الريفيات لحمايتهنّ من خطر الإصابة بالألغام وهنّ يبحثن عن قوتهن وقوت أطفالهنّ بين الجبال والسباسب.
ولم يخفِ البصيري الرحيمي مخاوفه من إمكانية تسجيل حوادث أخرى لانفجار ألغام خصوصًا بعد نزول الأمطار التي أدت إلى انجراف التربة التي كانت تغطي هذه الألغام، داعيًا إلى ضرورة الإسراع في إيجاد حلول بديلة عاجلة لحماية حياة السكان.
وأشار إلى أنّ أول لغم انفجر في جبال القصرين كان تقريبًا سنة 2013 غير أنه منذ تلك الفترة وإلى اليوم لم تتحرك السلطات لوضع إجراءات وقرارات جذرية لحماية السكان وتوفير مواطن شغل لهم تمنعهم من التوغل داخل الجبال.
البصيري الرحيمي (ناشط مدني بالقصرين) لـ"الترا تونس": نخشى تسجيل حوادث أخرى لانفجار ألغام خصوصًا بعد نزول الأمطار التي أدت إلى انجراف التربة التي كانت تغطي هذه الألغام لذلك نطالب بالإسراع في إيجاد حلول بديلة عاجلة
ووفق البصيري، فإن الأهالي يأملون في أن تتحرك السلطات لدعمهم على البقاء والصمود بالتزامن مع بدأ الرئيس التونسي قيس سعيّد عهدة رئاسية ثانية، قائلاً: "أملنا سيتجدد في العهدة الرئاسية الجديدة".
يضيف: "لا يزال السكان يتمسكون بالبقاء في أرضهم رغم الموت ورغم المخاطر الذي تحيط بهم من كل الجوانب، ونحن نريد أن نعيش حياة كريمة على أرضنا وأرض أجدادنا".
يشار إلى أنه لا توجد إحصائيات حكومية رسمية بخصوص عدد الإصابات في انفجار الألغام في جبال القصرين، لكن الثابت أن الجهة تشهد سنويًا انفجارات.