"لقد تحطمت ابنتي وأصبحت حزينة ودامعة وذاوية، فهي لا تنام ولا تأكل ولا تلتقي أحدًا ولا تغادر المنزل... لقد أسلمت خيط حلمها بالحصول على شهادة البكالوريا، وفقدت مستقبلها بعد الإعلان عن نتيجة الدورة الرئيسة.. لقد رسبت ابنتي نتيجة التهاون والارتجال في أخذ القرار المناسب في التوقيت المناسب من قبل وزارة التربية التي نقلت ابنتي من العاصمة إلى مركز الاختبارات الكتابية المخصص لمرضى الكوفيد 19 بالمهدية وذلك سويعات قبل انطلاق الامتحانات.." هكذا صرّح لـ"الترا تونس" ولي تلميذة تدرس بالبكالوريا وأصيبت بفيروس كورونا بضعة أيام قبل انطلاق الامتحان.
ولي تلميذة بكالوريا: أحمّل وزارة التربية مسؤولية إخفاق ابنتي وتدهور وضعيتها النفسية رغم تميّزها المدرسي، بل إلى الدولة نفسها.. وربما أذهب في مقاضاة وزارة التربية
وأشار الولي لما أسماه بـ"المأساة" التي اقترفتها وزارة التربية التونسية في حقّ ابنته ومجموعة أخرى من تلامذة البكالوريا من مختلف جهات البلاد أصيبوا بكورونا وتم ترحيلهم لمدينة المهدية لإجراء امتحانات الدورة الرئيسية في مركز أعد للغرض بما يتماشى والبروتوكول الصحي المدرسي.
ويعيب الولي على وزارة التربية إعلامهم بالتنقل للمهدية ساعات قبل انطلاق الامتحانات وهو ما أضر بنفسية الممتحنين، وحمّل الولي مسؤولية إخفاق ابنته في الامتحان رغم تميّزها المدرسي وتدهور وضعيتها النفسية إلى مسؤولي الوزارة، بل إلى الدولة نفسها وقال إن ابنته أصبحت تعيش كوابيس أثناء نومها، وأنه يفكر بكل جدية عرضها على الطبيب النفسي، وربما الذهاب لمقاضاة وزارة التربية وفق قوله.
اقرأ/ي أيضًا: بكالوريا 2021: تلاميذ بين مركز حجر "غير صحي" وتفتيش مهين
هكذا يبدو الوجه الآخر للجائحة، هتك نفسي متواصل لآلاف التونسيين الذين ضاقت بهم أقسام الاستشفاء النفسي بالمستشفيات العمومية أو العيادات النفسية الخاصة، ويذكر أن "مستشفى الرازي" وهو المستشفى العمومي الوحيد المختص في الأمراض العقلية والنفسية قد سجل في الأشهر الأخيرة طاقة استيعاب قصوى، وعرفت أقسامه إقبالًا مشهودًا من قبل مرضى كورونا الذين تعافوا لكن الخوف من فقدان حياتهم أو ما يعرف بـ"رهاب ما بعد الصدمة" قد استبد بهم وذلك وفق تصريح إعلامي للدكتور وحيد المالكي عضو اللجنة العلمية لمكافحة فيروس كورونا ورئيس قسم الطب النفسي بمستشفى الرازي بمناسبة مشاركته في يوم تحسيسي خاص بالحث على التلقيح بولاية منوبة خلال شهر جوان/ يونيو المنقضي.
ولمزيد التأكيد على خطورة الانعكاسات النفسية على التونسيين الذين يعيشون هذه الأسابيع موجة عاتية من فيروس كورونا أصدرت "نقابة الأخصائيين النفسيين" بيانًا بتاريخ 27 جوان/ يونيو 2021 دعت فيه وزير الصحة العمومية إلى وضع خطة وطنية استثنائية للإحاطة النفسية وتطبيقها، تشمل أعوان الصحة والمرضى.. وأكدت في البيان ذاته على خطورة الوضع الصحي والذي وصفته بالكارثي، ونبهت إلى وجود مؤشرات تنبئ بتدهور التوازن النفسي الفردي والجماعي وخاصة لدى الفئات الهشة.
اقرأ/ي أيضًا: تأثيرات على النمو والشهية والتركيز.. ماذا تعرف عن مخلفات كورونا النفسية؟
وإضافة إلى ما خلفته الجائحة في تونس من آثار عميقة على الاقتصاد والتشغيل وعلى تردي الوضع السياسي، فإن فيروس كورونا كان له تداعيات أخرى قد تبدو لا مرئية لكن نتائجها وخيمة على المجتمع، فهي بصدد الفتك النفسي بالفرد كما المجموعة، حيث ارتفعت مؤشرات الضغط النفسي وخاصة أنواع الضغط الحادّ وانتشرت الأمراض النفسية لدى كبار السن ولدى الأطفال، كما تولّد عن ذلك تنامي الأرقام الخاصة بالعنف والإدمان على الأدوية المسكّنة وعلى الأعشاب الطبية المهدئة وعلى المخدرات الممنوعة..
إنّ غيمة كورونا التي تخيّم على سماء المجتمع التونسي وفي ظل غياب الرعاية الصحية النفسية الضرورية، تجعل العديد من التونسيين يعيشون كوابيس غريبة لا تفارقهم. ففتكت بأمزجتهم وعطلت سير حياتهم العادية... "الترا تونس" التقط حكايا هذه الكوابيس ثم قدمها للمختص النفسي لمزيد التوضيح:
- روايات الكوابيس مشحونة بالخوف والإحباط والقلق والضغط النفسي
واصل ولي تلميذة البكالوريا حديثه لـ"الترا تونس" عن ابنته التي أصيبت بكورونا قبل الامتحان بأيام نتيجة حضورها لحفل عائلي ونقلت فجأة من العاصمة إلى المهدية لإجراء الامتحان قائلًا إن ابنته لم تتحمّل كل ما حصل لها ويذكر: "لقد صدمت وارتبكت وأخفقت وتدهورت حالتها النفسية فلم تعد تقوى حتى على الكلام، وأصيبت بكوابيس أثناء النوم جعلتها تنهض صارخة، ويتمثل الكابوس الأساسي في مشهد ممرض يحمل حقنة من الحجم الكبير ويطارد ابنته على شاطئ فسيح ويقول لها هذا هو التلقيح ضد كورونا..".
أما "أماني" وهي طالبة بكلية 9 أفريل بتونس، فتروي معاناة شقيقتها مع الفيروس رغم أنها لم تصب به فتقول: "نحن نقطن حيًا شعبيًا غرب العاصمة، وقد صنفته وزارة الصحة منطقة موبوءة، وعرفت الأنهج القريبة من منزلنا فقدان العديد من الجيران التي كانت شقيقتي تلتقيهم يوميًا.. وهذا الفقد جعل شقيقتي تصاب بحالة من الخوف، فأصبحت تمتنع عن الذهاب إلى المعهد خوفًا من عدوى كورونا وجلبها للمنزل، وبات نومها متقطعًا جرّاء كوابيس متكرّرة مثل: سقوط طائرة كانت هي على متنها فتحطمت وماتت وتم دفنها مع أحد الجيران الذين حصدهم فيروس كورونا" وتضيف أماني بأنها قررت مرافقة شقيقتها إلى أخصائي نفسي علّه يخفّف عنها معاناتها.
طالبة بكلية 9 أفريل لـ"الترا تونس": شقيقتي امتنعت عن الذهاب إلى المعهد خوفًا من عدوى كورونا وجلبها للمنزل، وبات نومها متقطعًا جرّاء كوابيس متكرّرة
وقد روى "أحمد السميري" من جهته، وهو سائق سيارات محترف ومتحصل على جميع أصناف رخص السياقة، كوابيسه بعد أصيب بكورونا وتم على إثرها إنهاء عقد عمله وفصله من الشركة التي يعمل بها فيقول: "كنت أخطط لأيامي القادمة بالاستعداد للزواج وبناء شقة فوق منزل والدي، لكن كورونا لم ترحمني، فقد أصبت بها في العمل وقضّيت أسابيع شتوية قاسية لكنها أحالتني على البطالة.. لقد اضطربت حياتي وأصبحت أعيش حالات أرق في البداية، وسرعان ما تحول الأرق إلى كوابيس ترافقني خلال نومي فصرت أحلم بحوادث المرور القاتلة كأن أدهس مجموعة من الأطفال أمام مدرسة أو أن ينقسم بي جسر إلى نصفين فأجدني والسيارة في قاع البحر غريقًا..." ويضيف أن هذه الكوابيس تتكرر يوميًا وهو ما دفعه إلى الاتصال بمختص نفسي.
أمّا الشاب "نبيل بوسنينة" أصيل ولاية منوبة فيروي لـ"الترا تونس" أنه فقد والدته خلال شهر فيفري/ شباط المنقضي بعد معاناتها مع فيروس كورونا، ويضيف أن رحيل أمه قلب حياة العائلة رأسًا على عقب، فشقيقته انقطعت عن عملها بأحد المصانع لتهتم بشؤون المنزل، كما أصبح والده المتقاعد يعيش حالة من التيه والفقد وقلّ نومه، وحتى إن نام فإن الكوابيس تستبد به وترافقه طول الليل، فقد أصبح يحلم بموته والتحاقه برفيقته التي قاسمته حلاوة الحياة ومرّها لثلاثين سنة، وتقريبًا هو يقوم بزيارتها يوميًا بحكم قرب المقبرة من محل السكنى" وأوضح بوسنينة أن والده رفض التنقل إلى الطبيب النفسي مرجعًا كل ما حصل إلى مشيئة الله.
مساعدة بإحدى الصيدليات بالعاصمة: فقدت ابنتي ابتسامتها وأصبحت حركتها محدودة وطلبت بإرادتها أن لا تنام بمفردها بغرفتها
وتحدثت "آمنة بوكدوس" وهي سيدة أربعينية تعمل مساعدة بإحدى الصيدليات بالعاصمة عن تغير سلوك ابنتها الوحيدة نتيجة هيمنة غمامة فيروس كورونا على نفوس الأفراد والعائلات والقطاعات، ما انجر عنه من انقطاعات متتالية للدراسة نتيجة الحجر الصحي وتطبيق البروتوكول الصحي المدرسي الذي لم يراع هشاشة نفسيات الأطفال، وتضيف بوكدوس أن ابنتها فقدت ابتسامتها وأصبحت حركتها محدودة وطلبت بإرادتها أن لا تنام بمفردها بغرفتها، كما رافقتها كوابيس مزعجة من قبيل: أننا سافرنا جميعًا وتركناها بمفردها بالمنزل، أو أنها خرجت في اتجاه مدرستها فلم تجدها في مكانها، أو أن لصًا جاء إلى المنزل وسرق منها قطتها.. وأكدت آمنة بوكدوس أنها اتصلت بالاخصائي النفسي المدرسي الذي خصص جدولًا تأهيليًا لمرافقتها لأشهر حتى يعيد لها توازنها النفسي الطبيعي.
"الترا تونس" عرض هذه الكوابيس التي تسببت فيها جائحة كورونا على المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية نوفل بوصرة، فكان هذا رأيه:
- "كورونا مازال وضعها غامضًا وعلى الدولة أن توجد خطط الرعاية والمرافقة"
أوضح الأستاذ بوصرة أن منظمة الصحة العالمية وضعت عدة خطط للرعاية والمتابعة النفسية فيما يتعلق بكورونا وطالبت الحكومات بالالتزام أو الاستئناس بها عند وضع الخطط المحلية، لكن العديد من الدول لم تلتزم بتلك الخطط إما لضعف إمكانياتها أو لعدم إيلائها أمر الرعاية النفسية الأهمية اللازمة، وتونس تعتبر من الدول التي لم تقدم لمواطنيها الرعاية النفسية بالشكل المطلوب أثناء تفشي الجائحة وخاصة مع ظهور السلالات الجديدة التي عصفت بالاستقرار النفسي للمواطن التونسي وجعلت منه فريسة للأمراض النفسية والكوابيس والتغيرات المزاجية وعدم الاستقرار النفسي والخوف والركون إلى العنف.
وأضاف بوصرة أن المختصين في الرعاية النفسية في تونس من أطباء ومختصين نفسيين وباحثين بالمخابر الجامعية تأكد لديهم علميًا أن كورونا كانت لها آثار نفسية عميقة في المجتمع التونسي وستبقى مخلفاتها وترسباتها لسنوات قادمة.
المختص في علم النفس والباحث بالجامعة التونسية نوفل بوصرة لـ"الترا تونس": "رهاب كورونا" يصيب أولئك الذين زارهم الفيروس كما يصيب محيطهم وعائلاتهم ما يتسبب في تغيير السلوك الذي يصبح مشوبًا بالخوف من الموت
وبيّن الأستاذ نوفل بوصرة أن المشاعر المهيمنة الآن في تونس هي مشاعر الإحباط بمختلف تجلياتها وأنواعها، وهي التي تسببت فيها القرارات السياسية المتعلقة بكل أنواع الحجر الصحي، ما أدى إلى فقدان آلاف التونسيين لمواطن شغلهم وأيضًا إلى غلق المدارس لأشهر ولأسابيع متتالية ومن دون أن تكون هناك خطة متابعة ومرافقة نفسية لتلك الشرائح المجتمعية المتضررة نتيجة لفقدان مواطن العمل والضبابية التي خيمت على العام الدراسي وخصوصًا المناظرات والامتحانات الوطنية.
وإلى جانب مشاعر الإحباط، أشار بوصرة إلى ظهور ما يعرّفه علم نفس الأوبئة بـ"رهاب كورونا" وهو يصيب أولئك الذين زارهم الفيروس كما يصيب محيطهم وعائلاتهم ويتسبب هذا الرهاب في تغيير السلوك الذي يصبح مشوبًا بالخوف من الموت.
اقرأ/ي أيضًا: خوفًا من كورونا وهربًا من عنف لفظي وجسدي.. نسوة يخترن الولادة الطبيعية بالبيت
وبخصوص الكوابيس التي تستبد بالأشخاص نتيجة كورونا، أوضح المختص في علم النفس لـ"الترا تونس" أن "الأمر يبدو طبيعيًا، فهو نتيجة حتمية للضغط النفسي التي تسببت فيه كورونا للإنسان ومحيطه، فعندما يباغت "المجهول" الإنسان، فإنه يُحدث داخله زلزالًا نفسيًا قد يكون مدويًا وقاسيًا أحيانًا، وكما هو معلوم، فإن قدرات التحمل والمناعة النفسية تختلف من شخص إلى آخر، لذلك تتنوع الكوابيس ومدتها، أما التخلص منها فيتطلب وقتًا طويلًا حتى تجد النفس أمانها من جديد، وأعتقد أن التفهم المستمر والمرافقة العائلية والاحتماء بالطبيعة من العوامل المساعدة على زوال الكوابيس".
وختم محدثنا تدخله بالقول إن كورونا مازال وضعها غامضًا على المستوى النفسي، فقد تولّد أمراضًا نفسية جديدة لم تكن البشرية تعرفها من قبل، وبناءً على ذلك يجب على الدولة التونسية أن تعزز قدراتها في مستوى الرعاية النفسية في مقرات العمل وفي المؤسسات التعليمية والجامعات، وأن تضع خطط إنقاذ جدية لأننا قد نشفى من كورونا، لكن الآثار النفسية قد ترافقنا طول العمر.
اقرأ/ي أيضًا:
الوباء والدولة والفرد زمن الخوف
كيف يمكن تدارك الخلل في المسار التربوي منذ بداية انتشار كورونا؟