أوان خشبية مزخرفة، فناجين قهوة ومهارس، أطباق وقوارير وملاعق متعددة الأشكال والأحجام، صنعت من أنواع مختلفة من الخشب، لتستعمل من قبل أغلب العائلات التونسية، حتى لا يكاد يخلو بيت تونسي من بعض تلك الأدوات والأواني.
ولسنا نتحدث هنا عن حقبة تاريخية ماضية استعمل فيها الإنسان الأواني المصنوعة من الحجر والخشب قبل اختراع آلات صنع الأواني الحديثة، وإنما نتحدّث عن اليوم. إذ مازال عدد كبير من النساء التونسيات يستعملن الأواني الخشبية. بعضهن ورثها عن العائلة نظرًا لعدم تأثرها بعوامل الطبيعة، ولأنّها تعبّر عن هوية بعض المناطق أو العائلات التي تتمسك بمهنة موروثة عن الأجداد. وبعضهن يقبل على شرائها جديدة من أغلب الأسواق التونسية.
محمد عبد الرحيم (حرفي في صناعة الأواني الخشبية) لـ"الترا تونس": عدد كبير من الحرفيين تمسكوا بهذه الصناعة التي توفر مداخيل هامة
وعلى الرغم من أنّ صناعة الأواني الخشبية حرفة يدوية عريقة تعكس براعة صانعيها رغم تطور الآلات، وتقاوم الاندثار بسبب عزوف الشباب عن تعلّمها، إلاّ أنّ عددًا كبيرًا من الحرفيين تمسكوا بتلك الحرفة التي توفر لهم مداخيل هامة، وفق ما يشير إليه محمد عبد الرحيم (52 سنة) أحد صانعي الأواني الخشبية لـ"الترا تونس".
ويضيف عبد الرحيم أنّ مئات الحرفيين من مختلف الجهات التونسية لا يزالون يحافظون على هذه الحرفة، بدليل وجود تلك الأواني والأدوات في أغلب الاسواق بالمدن العتيقة وفي مطابخ أغلب العائلات. كما أنّها تشهد إقبالًا كبيرًا من قبل التونسيات لا سيما في المواسم الكبرى على غرار شهر رمضان وعيدي الإفطار والأضحى. ويتابع محدّثنا قائلًا "يختلف أنواع الخشب باختلاف أنواع الأشجار المستخرج منها مثل خشب البلوط والزيتون والصنوبر. ويتم استعمال أدوات بسيطة لصناعة وتشكيل هذه الأواني ونقشها".
ويشغّل محمد عبد الرحيم قرابة خمسة حرفيين معه من الشباب بأجر يفوق 500 دينار شهريًا، وهي تجارة مربحة، وفقه، خاصة مع إقبال عديد النسوة وعدّة مطاعم على شراء هذه المواد.
اقرأ/ي أيضًا: كيف يستعد التونسيون لشهر رمضان؟
ويتم غالبًا استعمال أغصان الزيتون كونها الأصلح والأكثر جودة لهذا الغرض، مثلما يقول الحرفي عمر الوسلاتي (58 سنة). ويضيف الوسلاتي لـ"الترا تونس" أنّه يتابع الإنجاز بدءًا من تحضير الجذع إلى صقله وترطيبه وتشكيل الإناء المطلوب، مشيرًا إلى أنّه ينتقل إلى الغابات في موسم قطع أغصان الزيتون لشرائها من الفلاحين وخزنها بطريقة خاصة حتى تجف. ومن ثمة يقع تسوية سطحها الخارجي حتى يصبح أملسًا وجاهزًا للصنع كل حسب حجمه وحسب الغرض المعدّ له. ويؤكد محدثنا صعوبة الحصول على أغصان الأشجار بسهولة نظرًا لمنع قطع الأشجار من الغابات.
عمر الوسلاتي (حرفي في صناعة الأواني الخشبية) لـ"الترا تونس": الحرفي يجب أن يكون ملمًا بأنواع الخشب وخصائصها وأفضلها
ويقول عمر الوسلاتي إن "الحفر والنقش على الخشب حرفة فنّية قديمة جدًا توارثها عن الأجداد منذ كان في جندوبة. ولكني انتقلت إلى العاصمة لترويج البضاعة التي أشارك بها أيضًا في أغلب المعارض والمهرجانات". ويتابع حديثه بالقول إن "الحرفي يجب أن يكون ملمًا بأنواع الخضب وخصائصها وأفضلها. إذ يختلف الخشب المستخدم في الحفر من حيث طريقة الاستخدام والقابلية للتشكيل، فمنه ما هو لين جدًا أو مقاوم للرطوبة، ومنه ما يتحمل أكثر الحرارة للاستعمال في الأكلات الساخنة".
اقرأ/ي أيضًا: "سكّرتك بالشروليّة على كل بنية".. وللفتيان نصيب من التصفيح في تونس
عادة قديمة
وفي أحد محلات بيع تلك الأواني تختار سعاد ما تحتاجه استعدادًا لشهر رمضان، قنينة زيت وأواني صغيرة مخصصة للتوابل وحاملة مكسرات وأدوات أخرى لصنع الحلويات. تقول سعاد لـ"الترا تونس" إنّ الأواني الخشبية لا تدلّ على قلة ذات اليد وعدم القدرة على شراء غيرها من الأواني الفاخرة، بل أصبحت حتى الأواني الخشبية باهظة الثمن نوعًا ما بسبب ما أدخل عليها من زخارف عصرية وأدوات زينة أو بسبب ارتفاع أسعار أغصان شجر الزيتون الذي يصعب الحصول عليه بسهولة.
لمياء (سيدة تونسية) لـ"الترا تونس": يحافظ الخشب على نكهة الأشياء أفضل من أي مواد أخرى مصنوعة من الزجاج أو الألمنيوم
وتضيف محدثتنا أنّ أغلب النسوة سابقًا يقبلن أكثر على شراء بعض الأدوات الخشبية على غرار الملاعق الخشبية التي لا تخدش الجزء الأسفل من القدر ولا تتفاعل مع الحمضيات. كما أنّها تتميز بكونها غير ناقلة للحرارة مما يوفر الأمان التام أثناء الطبخ، إضافة إلى أنّها لا تصدأ مثل غيرها من الملاعق المعدنية، وسهلة التنظيف. وكذلك يمكن استخدام الملاعق الخشبية بمختلف أحجامها وتصاميمها لتزيين المطبخ وغرفة الطعام لا سيما تلك المصنوعة من أغصان الزيتون وذات زخارف جميلة، لأنّها تضفي نوعًا من الفخامة.
من جهتها، تشير لمياء، التي كانت تستعد لاستقبال شهر رمضان، إلى أنّ أغلب النساء في تونس يستعملن الأواني الخشبية خاصة منها الملاعق وحتى الأواني الصغيرة لحفظ التوابل أو العسل والزيت، وتلك عادة متوارثة في عدّة جهات نظرًا لأنّ الخشب يحافظ على نكهة الأشياء أفضل من أي مواد أخرى مصنوعة من الزجاج أو الألمنيوم لذا فهي تقبل على شرائها استعدادًا لشهر رمضان.
كما تبيّن محدّثتنا أنّ البعض يستغرب فعلًا استمرار رواج الأواني الخشبية بالرغم من وجود مواد أخرى عصرية، ولكن يظل لبعضها رونق خاص مثل المهراس الخشبي الذي تستعمله بعض النسوة المغرمات مثلها بـ"الهريسة العربي" و"السلاطة"، إذ تحتفظ بنكهة خاصة مغايرة لتلك التي يتم طحنها باستعمال أجهزة الطحن والخلط الكهربائية، لذا فهو يستعمل بكثرة قديمًا خاصة لطحن بعض التوابل والقهوة وحتى تحضير اللّحم المفروم، لتبقى بذلك أغلب عاداتنا مستمرة خاصة في المواسم والأعياد حتى وإن كان ذلك بأقل إقبال واهتمام.
اقرأ/ي أيضًا: