يعتبر التهريب في تونس من أكثر المشاكل التي تؤرق الحكومات المتعاقبة في السنوات الأخيرة، لكن هذه المعضلة لم تكن أبدًا وليدة الثورة. تعود أطوار هذه الظاهرة إلى أواخر الثمانينيات بعد إمضاء اتفاقية المغرب العربي، وما انجر عنها أحيانًا من استعمال سيء لانفتاح الحدود، وبدأت تتعاظم شيئًا فشيئًا تحت وطأة المشاكل الاقتصادية التي دفعت بعض سكان المناطق الحدودية نحو التهريب الذي كان يقتصر في البداية على الملابس المستعملة وبعض قطع الغيار. وكانت تتغير المواد المهربّة حسب حاجة أسواق البلدين: تونس وليبيا. لكن منذ السنوات الأخيرة لنظام بن علي، بدأت تطفو على السطح تجارة أخرى عبر الحدود وهي تجارة مادة النحاس التي تُهرّب من الجزائر إلى تونس ثم ليبيا وصولًا إلى مصر ويتم توزيعها بعد ذلك. لكن هذا الطريق الطويل اختصره المهربون بالتصدير عبر موانئ البلاد من خلال اكتشاف طريقة جديدة لشرعنته.
يُهرّب النحاس من الجزائر إلى تونس ثم ليبيا وصولًا إلى مصر ويتم توزيعه في طريق طويل اختصره المهربون عبر التصدير من الموانئ التونسية فكيف يكون ذلك؟
نقل كميات النحاس عبر الحدود
ليلة شتاء باردة، تشتد ببرودة زخات المطر التي تتساقط على رأس أحمد (اسم مستعار، رفض الكشف عن اسمه خوفًا من بطش المهربين) الذي يجلس منتظرًا أصدقاءه وهو يرتشف قهوته أمام مقهى في أقصى مدينة فريانة من ولاية القصرين المتاخمة للجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: مركز الإحاطة والتوجيه الاجتماعي بصفاقس يلفظ أبناءه إلى الشارع (تحقيق)
يُعدّ هذا المقهى ملتقى العمال الذين يعملون مع المهربين بحكم تواجده في مفترق طرق يؤدي أحدها إلى الحدود الغربية لتونس. بعد نصف ساعة، أتت سيارة من نوع "ديماكس" (D-max) محملة بعدد من الأشخاص، وصعد أحمد بسرعة على متنها على أن يعود في الليلة القادمة لدفع ثمن القهوة بعد أن يحصل على أجرة العمل الليلي، ثم واصلت السيارة طريقها إلى الحدود.
عند الوصول، كان المشهد أشبه بمنطقة تبادل حر. مكان شاسع جدًا مليء بالخردة التي تتكون من النحاس، هي بقايا أشياء مصنوعة من النحاس (عصي، مزهريات، أكواب، تماثيل، صحون إلخ). نزل ركاب السيارة بسرعة وبدؤوا برمي قطع الخردة داخل الشاحنات الكبيرة المخصصة لنقل هذه البضائع. تسبق هذه العملية عملية أخرى تتمثل في نقل كميات الخردة من التراب الجزائري إلى التراب التونسي، وهي العملية الأخطر من بين جميع المراحل التي يمر بها المهربون.
يقع تهريب مادة النحاس من الجزائر إلى تونس عبر مهرّبين من الجانبين باستعمال أحمرة مدرّبة خصيصًا للقيام بهذه المهمة
وقفت فوق تلة كبيرة لرؤية مشهد نصحني أحمد بمشاهدته، يفصل بين البلدين وادي صغير، بدأت إشارات المهربين من التراب الجزائري تظهر. يقف في الجهة التونسية أكثر من 50 شخصًا يقود كل واحد منهم حمارًا تم تدريبه لخوض مثل هذه المغامرات. فجأة وبعد اتصال من أحد المهربين الجزائريين، أُعطيت الإشارة فتحرك الجميع في وقت واحد، الجميع يركض وكل شخص بجانبه حماره يركض معه دون جلبة، تسمع فقط أصوات الأرجل وهي تتحرك بسرعة حيث تم تدريب الأحمرة على عدم إصدار أصوات نهيق في مثل هذه العمليات. تدوم العملية لأكثر من ساعة بين جيئة وذهاب بين البلدين، لتتكدس السلع في النهاية في مخزن كبير قبل أن تأتي الشاحنات لأخذه إلى مخازن أخرى في المدينة الحدودية.
من الحدود إلى المصانع
تنقل هذه الكميات إلى مدينة فريانة الحدودية أين تم تركيز بعض المصانع غير المرخصة من أجل القيام بعملية التذويب. حسب أحد المهربين في المدينة، يتجاوز عدد هذه المصانع في المدينة 12 مصنعًا جميعها غير مرخص له للنشاط "ويعود سبب عدم حصول هذه المصانع على رخص هو محاولة أحد كبار المهربين احتكار سوق تهريب النحاس فعمل على منع الرخص عن باقي المهربين". وتتولى هذه المصانع تذويب كميات النحاس وتحويله إلى مربعات صغيرة حتى تسهل عملية نقلها.
مصنع لتذويب النحاس قبل تصديره
تحويل قطع النحاس إلى قوالب لتسهيل عملية نقلها
كيف تصبح كميات النحاس مشروعة؟
المرحلة اللاحقة هي المرحلة الحاسمة التي تمكّن المهرّبين من تصدير بضائعهم غير المشروعة. يعمل حسن (اسم مستعار) مسؤولًا عن الأمور الإدارية لدى أحد المهربين، وقد رفض أيضًا كشف اسمه خوفًا على ضياع لقمة عيشه. حسب حسن، وجد المهربون طريقة في جعل بضائعهم قانونية من خلال إحداث شركات لجمع النفايات.
يقول محدثنا: "الأمر في غاية البساطة. تمكن هؤلاء المهربين من إحداث شركات في عدة ولايات في البلاد لإبعاد الشبهات، وأصحاب هذه الشركات هم أصدقاؤهم أو مقربون منهم أو حتى عملة لديهم. يحصل هؤلاء الأشخاص على دفتر فواتير يكون لدى المهرب، وعند دخول كمية كبيرة من النحاس يتم توزيعها على عدد من الفواتير. في النهاية، تظهر الصورة كأن المهرب يملك شركة تجارية واشترى هذه الكمية فعلًا من هذه الشركات".
حسن (اسم مستعار): وجد المهربون طريقة في جعل بضائعهم المهرّبة من النحاس بضائع قانونية من خلال إحداث شركات لجمع النفايات
يجلس حسن في القهوة لتوزيع كميات النحاس على الفواتير باستعمال آلة حاسبة، كانت الكمية تعادل 40 طنًا من النحاس تم توزيعها كالآتي: 10 أطنان للفاتورة الأولى، و5 أطنان للفاتورة الثانية، و15 طنًا للفاتورة الثالثة وأخيرًا 10 أطنان للفاتورة الرابعة، ثم وضع جميع الوثائق في دفتر يحتوي على وثائق الحاويات التي ستنقل البضاعة إلى الميناء إضافة لعدة وثائق أخرى.
حسب تقرير صادر عن منظمة النزاهة المالية، تعدّ تونس ضمن الثلاثين دولة الأولى في حجم التدفقات غير المشروعة خارج البلاد بقيمة 1.8 مليار دولار، فيما بلغ حجم التدفقات غير المشروعة داخل البلاد حوالي 2.3 مليار دولار. وتعود هذه التدفقات إلى حجم الفواتير المزورة في التعاملات التجارية. فوفق ذات التقرير، تم تضخيم 29 في المائة من حجم الفواتير المزورة فيما تم تخفيض نسبة 24 في المائة من هذه الفواتير.
تعدّ تونس ضمن الثلاثين دولة الأولى في حجم التدفقات غير المشروعة خارج البلاد
اقرأ/ي أيضًا: من قتل دودة الحرير في طبرقة؟
العبور إلى الميناء
يقع نقل البضاعة المحوّلة، حسب مصدر مطلع في شأن النقل البحري، عبر حاويات إلى الميناء لكن تُوصّف البضاعة في الوثائق على أساس أنها كميات من الخردة وليس نحاس. وحسب نفس المصدر، يسهل تواطئ بعض أعوان الديوانة مع المهربين وأصحاب الشركات الوسيطة عمليات التهريب هذه.
يسهل تواطئ بعض أعوان الديوانة مع المهربين وأصحاب الشركات الوسيطة عمليات تهريب مادة النحاس عبر الموانئ التونسية
في المقابل، يحبط الجهاز الديواني، أحيانًا وعبر عمليات المراقبة المستمرة، عمليات تصدير النحاس مثلما حصل في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 عندما تمكنت الإدارة الفرعية للإستعلامات بالحرس الديواني إثر عمل استخباراتي بالتنسيق مع مصالح المكتب الحدودي للعمليات التجارية برادس من الكشف عن محاولة تهريب كمية كبيرة من قوالب النحاس بلغت 25 طنًا قدرت قيمتها بحوالي 328 ألف دينار.
بعد الثورة، قفزت صادرات النحاس في تونس بشكل كبير لتصل إلى أكثر من 140 مليون دولار سنة 2011. وحسب منظمة الأمم المتحدة، وصل حجم الصادرات عام 2017 إلى 102 مليون دولار منها 66 في المائة مصدّرة إلى أوروبا.
تطوّر صادرات النحاس من تونس (إحصائيات الأمم المتحدة)
وفيما يتعلق بعمليات تهريب النحاس، تحدثت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تقريرها لسنة 2017 عن شبهة تورط عصابة في تهريب النحاس والاتجار بالعملة بإحدى المدن بولاية المهدية مشيرة إلى تورط رجال أعمال ومهربين في هذه القضية.
تقرير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لسنة 2017
يحبط الجهاز الديواني عديد عمليات التهريب
وقد تورط الرئيس السابق زين العابدين بن علي وعائلته أيضًا في هذا النوع من التهريب، وقضت الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس بثبوت إدانة المتهمين في ما عرف بقضية سرقة وتهريب النحاس، وحكمت بسجن الرئيس المخلوع لمدة 10 سنوات مع النفاذ العاجل وشقيقته حياة بن علي المحالة بحالة فرار لمدة 6 سنوات وسجن كل من عماد الطرابلسي ودريد بن علي ودريد بوعوينة وعز الدين دوعاز وسليمان ورق المدير العام السابق للديوانة لمدة 3 سنوات.
في وسط المدينة العتيقة، لا يزال محل محمد رمضاني موجودًا يقاوم مرور السنوات الطويلة، اليوم صار لمحمد أكثر من 25 سنة في مجال السياحة وتحديدًا في بيع المنتجات التقليدية التي تتمثل في مواد نحاسية. لكن محمد كان أحد ضحايا عمليات تهريب النحاس المتواصلة في تونس. يقول محمد: "لقد ذهبت قبل أيام إلى أحد المخازن التي دأبت على التزود منها بالنحاس فوجدت الباب مغلقًا، اتصلت بصاحب المحل ففوجئت بأنه يخبرني بأنه لم يعد يعمل في ميدان النحاس ووجد عملًا أخر. هذه الأزمة طالت الجميع". محل محمد هو العائل الوحيد له ولعائلته ولعائلة العامل الذي يعمل معه. وأمامه، يقبع جاره أيمن الحمداني في وسط محله الجميل الذي تزينه هو الآخر الأواني النحاسية. يؤكد أيمن أن عمليات تهريب النحاس بدأت تؤثر على قطاع الصناعات التقليدية منذ سنة 2012 بسبب ضعف المراقبة.
تم نشر هذا المقال عن طريق (ألترا تونس). هذا المقال جزء من برنامج ثروات الأمم، وهو برنامج تطوير المهارات الإعلامية الذي تديره مؤسسة طومسون رويترز بالشراكة مع مركز التطوير الاعلامي. للمزيد من المعلومات إضغط الرابط. مؤسسة طمسون رويترز ليست مسؤولة عن محتوى هذه المادة، ترجع هذه المسؤولية للمؤلف و الناشر.
اقرأ/ي أيضًا: