لم يختلف اليوم عن سابقيه، بدايته كانت بشرب فنجان قهوة بمقهى في ساحة برشلونة، وتصفح صفحات جريدة تنشر عروض شغل. تعقبه ساعات من رحلة بحث تدوم طيلة النهار أحيانًا. هكذا يتحدّث محمّد علي ضيف الله (27 سنة)، الذي هاجر من ولاية الكاف إلى العاصمة بحثًا عن العمل، دون أن يملك شهادة علمية أو أن يكون حاصلًا على شهادة تكوين في نشاط مهني خاص. لكنّه اليوم يبحث عن عمل في إحدى الحضائر أو شركات المقاولة للبناء أو أي شيء آخر قادر على اشتغاله.
اقرأ/ي أيضًا: لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع
ولم يكن محمد علي الأول في عائلته الذي هاجر من منطقته بحثًا عن العمل. فأخواه هاجرا قبله منذ ثلاث سنوات للعمل في العاصمة، بعد أن انعدمت فرص الشغل في جهته، كما يقول لـ"الترا تونس". ويضيف أنّ المنطقة التي يعيش فيها تعتمد على بعض الأنشطة الفلاحية التي هي بالأساس موسمية وعائلية، وأنّه أول مرّة يهجر فيها منطقته ولا يعرف السبب، والحال أنّه على يقين أنّ أزمة فرص العمل لا تخص جهته أو أبناءها دون سواهم. لكنّه يبحث كلّ يوم عن عمل ليوفر منه بعض مصاريفه اليومية إلى أن يحظى بعمل قار، وفق قوله.
تشير أغلب الدراسات إلى أنّ الأسباب الحقيقية للهجرة الداخلية تتمثل غالبًا في البحث عن فرص العمل أو مواصلة الدراسة في الجامعات غير المتوفرة في المناطق الداخلية
ولا تختلف قصّة كريم الرويسي (26 سنة) كثيرًا عن قصة محمّد علي، فقط هاجر هو أيضًا من ولاية سليانة إلى بعض المناطق الساحلية في البداية، حيث اشتغل في بعض مصانع النسيج أو صنع البلاستيك، ليستقرّ به الحال اليوم بالعاصمة كنادل بإحدى المقاهي منذ سنة، دون أن يفكر في العودة إلى منطقته. وفق ما يشير إليه في تصريحه لـ"الترا تونس".
وقد تبدو المهن التي يقبل عليها بعض هؤلاء الشباب مهنًا بسيطة قد تتوفر في أغلب المناطق التي توافدوا منها، مثل العمل بالحضائر أوالمقاهي أو أعمال البناء أو حتى في بعض الأعمال الفلاحية، إلاّ أنّ الشاب عيسى محمدي أصيل منطقة القصرين يقول لـ"الترا تونس" إنّ "حتى تلك المهن البسيطة لم تعد متوفرة في العديد من المناطق الداخلية، ولا تحقق سوى مواطن شغل لعدد قليل من شباب أغلب المناطق الداخلية بالأساس". ويضيف أنّه يبحث منذ ثلاث سنوات عن عمل قار إلا أنّه لم يظفر سوى ببعض الأعمال اليومية في بعض حضائر البناء.
وتشير أغلب الدراسات إلى أنّ الأسباب الحقيقية للهجرة الداخلية تتمثل غالبًا في البحث عن فرص العمل أو مواصلة الدراسة في الجامعات غير المتوفرة في المناطق الداخلية. ظاهرة خلقت تفاقمًا للضغوطات العمرانية وظهور ما يعرف بالتصحر الديمغرافي في عدد من مناطق البلاد، خصوصًا أنّ نسبة تلك الهجرة غير متوازنة بين مناطق الشمال والجنوب وبين المناطق الساحلية. من جهة أخرى، يؤكد الخبراء أنّ ارتفاع نسق الهجرة الداخلية، وبالخصوص هجرة سكان الريف باتجاه المدن، تسببت في اختلال ديمغرافي وعمّقت التفاوت بين الجهات.
المعهد الوطني للإحصاء: أكثر من 70 في المائة من سكان تونس يعيشون على طول الساحل الشمالي والشرقي للبلاد
اقرأ/ي أيضًا: تنتشر عند التونسيين.. "اللودو" بين المرح والإدمان
يذكر أنّ المعهد الوطني للإحصاء أشار إلى أنّ نسب البطالة حسب الولايات بالنسبة للثلاثي الثاني لسنة 2017، ترتفع بالأساس في المناطق الداخلية، وقد اِحتلت ولاية تطاوين المرتبة الأولى من حيث ارتفاع البطالة بـ32.4 في المائة، تليها قفصة بـ27.3 في المائة، ثم قابس بـ25.8 في المائة. أما ولاية المنستير الساحلية، فقد اِحتلت المرتبة الأخيرة في نسب البطالة بـ6.1 في المائة.
كما كشف التقرير الأخير الذي أصدره المعهد الوطني للإحصاء سنة 2014، أنّ أكثر من 70 في المائة من سكان تونس يعيشون على طول الساحل الشمالي والشرقي للبلاد. فيما بيّن التقرير أنّ المناطق الجاذبة لموجات الهجرة الداخليّة هي إقليم تونس الكبرى الذّي حقّق في الفترة الفاصلة بين 2009 و2014 هجرة ناهزت 46 ألف مواطن، إلى جانب الوسط والجنوب الشرقي الذين استقطبا 119.6 ألف من إجمالي عدد الوافدين على الأقاليم الساحليّة والبالغ عددهم 360.8 ألف.
وقد أكدت دراسة المعهد أنّ البحث عن العمل أو الدراسة والزواج تعد أهم أسباب الهجرة الداخلية. وقد تصدر البحث عن العمل قائمة دوافع الهجرة الداخلية بنسبة 20.7 في المائة. كما ذكرت دراسة حول التفاوت بين المناطق، من إعداد الباحث في علم الاجتماع المتخصص في الديموغرافيا حسان القصار بالتعاون مع البنك الدولي أنّ العمل يحتلّ صدارة أسباب الهجرة الداخلية في تونس، بنسبة 64 في المائة.
طارق بلحاج محمد (باحث في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": تراجع الاستثمارات الفلاحية إلى جانب التغيرات المناخية التي أثرت على الفلاحة في تونس تسبب في تزايد نسق الهجرة نحو مناطق الساحل
من جهته أشار الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمّد، في تصريح لـ"الترا تونس"، إلى أن ظاهرة الهجرة الداخلية ليست بالظاهرة الجديدة ولا تميّز فقط المجتمع التونسي، مبينًا أنه في السابق كانت أغلب المناطق الداخلية مختصة بالأساس في الأعمال الفلاحية التي توفر أغلب مواطن الشغل لشباب تلك المناطق. ويضيف بلحاج محمد أن تراجع الاستثمارات الفلاحية إلى جانب التغيرات المناخية التي أثرت على الفلاحة في تونس تسبب في تزايد نسق الهجرة من تلك المناطق نحو مناطق الساحل، مبرزًا أنّ الهجرة لا تتمثل في الانتقال من الريف إلى المدينة فقط بل حتى من مدينة إلى أخرى بسبب العمل أو الزواج أو الدراسة.
لكن تظل المناطق التي لا يتوفر فيها الحد الأدنى من فرص العمل طاردة للسكان باتجاه المدن من أجل تأمين حياة أفضل والبحث عن فرص شغل تتلاءم وما يطمح إليه كلّ فرد، وهو ما ساهم في إفراغ المناطق الداخلية من أبنائها من أصحاب المستويات الدراسية والمهنية المتوسطة والعالية. كما أدّت إلى اكتظاظ سكاني في المدن الكبرى، واختلال التوازن وظهور التجارة الموازية التي أثّرت بشكل كبير على الاقتصاد.
اقرأ/ي أيضًا: