منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2024، مثُل 4 فلاحين من منطقة البحيرين من ولاية سليانة أمام القضاء، وذلك على خلفية مشاركتهم في تحركات احتجاجية ضدّ تواجد شركة مختصة في التنقيب عن المياه وتعليبها بمنطقتهم.
بدأت القصة منذ سنة 2023، عندما خرج أهالي منطقة البحيرين في تحركات احتجاجية رافضة لتواجد الشركة في منطقتهم التي يرون أنّ مائدتها المائية لم تعد تتحمل المزيد من الاستنزاف، بعد تسجيل جفاف لافت في عدد من العيون الجبلية القريبة منهم وآبار السقي، إضافة إلى جفاف الأراضي وموت الأشجار المثمرة.
منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية: تجريم الحراك البيئي المتواصل في تونس ما بعد الثورة يعد إرثًا متواصلاً من الممارسات "اللاديمقراطية والقمعية" التي تهضم حق المواطنين في التمتع ببيئة سليمة
-
احتجاجات بيئية سلمية تقابلها تضييقات وملاحقات قضائية
عبد الوهاب البرقاوي (74 عامًا)، هو واحد من الفلاحين الأربع الذين واجهوا، ولا يزالون، ملاحقات قضائية على خلفية مشاركتهم في تلك الاحتجاجات، حيث يؤكد في حديثه مع "الترا تونس"، أنه "لم يرتكب أيّ جرم سوى دفاعه عن حقهم في الحفاظ على مياه منطقتهم التي تعاني أصلاً من الجفاف".
يضيف البرقاوي، وهو متقاعد وأصيل منطقة البحيرين من معتمدية برقو، أنّ منطقته غير قادرة على تحمل تواجد شركة جديدة للتنقيب عن المياه الجوفية خصوصًا وأنها تحتوي أساسًا على 3 شركات واحدة منها تنشط في البحيرين، ما تسبب في استنزاف المائدة المائية وتضرر المساحات الزراعية والأشجار المثمرة.
عبد الوهاب البرقاوي (فلاح ملاحق قضائيًا على خلفية الاحتجاج من أجل المياه) لـ"الترا تونس": منطقة البحيرين تعاني من الجفاف وهي غير قادرة على تحمل تواجد شركة جديدة للتنقيب عن المياه الجوفية، وهو ما دفعنا للاحتجاج وعرّضنا للملاحقة القضائية
ووفق البرقاوي، فإنّه تمّ في البداية رفض مطالب صاحب الشركة بالتنقيب عن المياه في المنطقة قبل أن يتحصل على الرخصة سنة 2023، وهو ما صدم الأهالي ودفع بهم إلى الخروج للشارع للاحتجاج بطريقة سلمية قوبلت بالتضييقات والإيقافات والملاحقات القضائية، وفق روايته.
ويؤكد محدثنا أنّ تحركات الأهالي مشروعة ونابعة من خوفهم على مستقبلهم ومستقبل أطفالهم خصوصًا وأنّ تقارير الخبراء أثبتت تراجع المائدة المائية بالمنطقة ونضوب مياه الآبار بالتزامن مع أزمة جفاف متواصلة لسنوات.
في أول تحرك احتجاجي لأبناء المنطقة تم إيقاف عبد الوهاب البرقاوي رفقة 3 آخرين وتم وضعهم في الإيقاف التحفظي لمدة 4 أيام قبل أن يتمّ إطلاق سراحهم، وفي التحرك الثاني تم إيقاف 4 آخرين ومتابعة بقية المشاركين في حالة سراح، وهو ما يعتبره محدث "الترا تونس"، "محاولة لترهيبهم وتخويفهم"، حسب تعبيره.
عبد الوهاب البرقاوي (فلاح ملاحق قضائيًا على خلفية الاحتجاج من أجل المياه) لـ"الترا تونس": التتبعات القضائية لم تثننا عن عزمنا في مواصلة الدفاع عن حقنا في المياه باعتبار أننا نعتمد عليها لسقي أراضينا التي تعدّ مصدر رزقنا الوحيد في منطقة تعاني الجفاف
ووفق البرقاوي، فإن الإيقافات التي طالتهم لم تثنهم عن عزمهم في مواصلة الدفاع عن منطقتهم وعن حقهم في المياه باعتبار أنهم يعتمدون عليها لسقي أراضيهم وغراساتهم التي تعدّ مصدر رزقهم الوحيد في منطقة تعاني من نقص التنمية والجفاف، مؤكدًا أنه تم "إثارة 3 قضايا ضدهم".
يضيف: "تم الحكم عليّ بـ 4 أشهر سجنًا وبخطية مالية بينما تم الحكم على الفلاحين الثلاث الآخرين بـ3 أشهر سجنًا بتهم التعرض لحرية الشغل والثلب"، متسائلاً عمَّا إذا كان الدفاع عن الحق في بيئة سليمة والحق في المياه يعد جريمة تستحق العقاب، وفقه.
ويأمل البرقاوي أن ينصفه القضاء وأبناء قريته الذين يناضلون للدفاع على حقهم وحق أبنائهم في المياه أو ما تبقى من مياه منطقة البحرين، خصوصًا وأن منطقة برقو لوحدها توجد بها 3 شركات لتعليب المياه و3 مناطق سقوية تحتاج بدورها كميات هامة من المياه للحفاظ على إنتاجها وحماية الأمن الغذائي بالجهة.
-
ناشط بيئي: متمسكون بحقنا في بيئة سليمة وهواء نظيف
ومن الشمال الغربي إلى الجنوب الشرقي، حيث يناضل الناشط البيئي خير الدين دبيّة ومن معه منذ سنة 2012 لإنقاذ ولاية قابس من التلوث القاتل القادم من المجمع الكيميائي بالجهة، تحت عنوان "أوقفوا التلوث" التي تعدّ من أشهر الحملات البيئية التي عرفتها تونس.
الناشط البيئي خير الدين دبية لـ"الترا تونس": تعرضت للإيقاف في مناسبتين جراء مشاركتي في تحركات احتجاجية للمطالبة ببيئة سليمة ونظيفة في مدينتي التي أنهكها التلوث وقضى على ثروتها البحرية ولوث هواءها النظيف
يقول دبيّة في حديثه مع "الترا تونس"، إنه تعرض للإيقاف في مناسبتين جراء مشاركته في تحركات احتجاجية للمطالبة ببيئة سليمة ونظيفة في مدينته التي أنهكها التلوث وقضى على ثروتها البحرية ولوث هواءها النظيف.
وفي 2017، نجح الحراك البيئي بولاية قابس في إجبار الحكومة على اتخاذ قرار بتفكيك الوحدات الملوثة المرتبطة بإفراز "الفوسفوجيبس" وإحداث وحدات صناعية جديدة تحترم المعايير الوطنية والدولية في السلامة البيئية في مدة زمنية لا تتجاوز السنتين، غير أن دبيّة كشف أنّ هذا القرار لم يتم تطبيقه إلى اليوم ما دفعهم إلى استئناف تحركاتهم الاحتجاجية في جوان/ يونيو الفائت، وفقه.
ويرى الناشط البيئي أنّ الإيقافات والمضايقات التي تعرض لها ومن معه لم تُثنهم عن عزمهم في التمسك بحقهم في بيئة سليمة وهواء نظيف، مشيرًا إلى أنّ تجريم الحراك البيئي يكون عادة إما عن طريق الهرسلة الأمنية أو الملاحقات القضائية أو بإطلاق حملات شيطنة وتصريحات مسيئة من قبل المسؤولين.
ويؤكد دبيّة أن الحراك البيئي في تونس شهد تطورًا لافتًا منذ سنة 2011، رغم المضايقات والهرسلة التي يتعرض إليها المشاركون.ـات في التحركات الاحتجاجية المدافعة عن البيئة وعن الحق في الماء وغيرها من الحقوق الأخرى.
الناشط البيئي خير الدين دبية لـ"الترا تونس": الحراك البيئي في تونس شهد تطورًا لافتًا رغم المضايقات والهرسلة التي يتعرض إليها المشاركون في التحركات الاحتجاجية المدافعة عن البيئة وعن الحق في الماء وغيرها من الحقوق الأخرى
ووفق محدث "الترا تونس"، فإنّ الانتهاكات البيئية الجسيمة التي يعاني منها آلاف التونسيين شكلت لديهم وعيًا بيئيًا هامًا دفعهم إلى التمسك بحقهم في بيئة سليمة ونظيفة دون خوف أو استسلام.
وفي عين دراهم من ولاية جندوبة، تواجه الناشطة البيئية مريم بكار بدورها ملاحقات قضائية على معنى المرسوم 54، وذلك "على خلفية احتجاجها وأهالي المنطقة ضد التلوث الصادر عن منشأة لتربية الدواجن بمنطقة الحُمران"، وفق ما كشفه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في وقت سابق.
ووفق المنتدى، فقد مثُلت بكار نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول الفائت، أمام قاضي التحقيق بمحكمة جندوبة، معبرًا عن مساندته المطلقة للناشطة مريم بكار ولكل نشطاء الحراك البيئي ضد ما قال إنها "انتهاكات تطال حقوقهم البيئية ومكونات المنظومة البيئية ككل".
-
منظمة: تجريم الحراك البيئي في تونس متواصل
ويؤكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التزامه بمساندة كل الحركات البيئية السلمية باعتبار أنّ الاحتجاج السلميّ حق يكفله الدستور والقانون على حدٍّ سواء.
ويعتبر المنتدى أنّ تجريم الحراك البيئي المتواصل في تونس ما بعد الثورة يعد إرثًا متواصلاً من الممارسات "اللاديمقراطية والقمعية" التي تهضم حق المواطنين في التمتع ببيئة سليمة وتضرب عرض الحائط المعاهدات والاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان.
رئيسة قسم البيئة بمنتدى الحقوق الاقتصادية إيناس الأبيض لـ"الترا تونس": لا بدّ من مراجعة السياسات الوطنية في علاقة بالتعامل مع الملفات البيئية العالقة وذلك لتفادي الاحتقان الاجتماعي والشعبي، فالتضييقات والإيقافات لن تجدي نفعًا
وفي حديثها مع "الترا تونس"، أكدت رئيسة قسم البيئة بالمنتدى إيناس الأبيض، مساندة المنظمة لكل التحركات الاجتماعية السلمية بما فيها التحركات التي تدافع عن الحق في بيئة سليمة والتي يقودها في الغالب السكان المتضررين.
وأوضحت الأبيض أنّ الإيقافات أو التضييقات التي تستهدف المشاركين.ـات في التحركات البيئية في تونس لم تكن يومًا الحل الأنسب، مشيرة إلى أنّ الحل يكمن في ضرورة إيلاء الإشكاليات البيئية الأهمية القصوى والاستماع للأصوات المدافعة عن البيئة لإيجاد حلول جذرية وعاجلة بالتعاون مع جميع الأطراف.
في ذات السياق، أشارت الأبيض إلى أنّ المشاركين في التحركات البيئية يدافعون عن حقهم في بيئة سليمة طبقًا لما يكفله لهم الدستور والقانون التونسيّيْن، إلى جانب المواثيق والمعاهدات الدولية.
ودعت الأبيض إلى ضرورة مراجعة السياسات الوطنية في علاقة بالتعامل مع الملفات البيئية العالقة وذلك لتفادي الاحتقان الاجتماعي والشعبي، مؤكدة أنّ التضييقات والإيقافات لن تجدي نفعًا.
وبحسب الأبيض، فإنّ المنتدى يتابع حاليًا 3 ملفات بيئية واجه أصحابها تضييقات وملاحقات قضائية وهي: ملف منطقة الحُمران من ولاية جندوبة وملف منطقة البحيرين من ولاية سليانة وملف غار الملح ببنزت، وهي ملفات بيئية عالقة يواجه أصحابها ملاحقات ومحاكمات قضائية، وفقها.
إيناس الأبيض لـ"الترا تونس": منتدى الحقوق الاقتصادية يتابع حاليًا 3 ملفات بيئية واجه أصحابها تضييقات وهي ملف منطقة الحُمران بجندوبة وملف منطقة البحيرين بسليانة وملف غار الملح ببنزت، وهي ملفات عالقة يواجه أصحابها محاكمات قضائية
وبينما يواجه مواطنون ومدافعون عن البيئة في تونس ملاحقات قضائية وتضييقات، أفاد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بيان له منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني، بأنّ المحكمة الإدارية أصدرت حكمًا ابتدائيًا يقضي بإنصاف أهالي منطقة سيدي مذكور من معتمدية الهوارية، وذلك على خلفية الدعوى القضائية التي قاموا بها بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول 2018 من أجل المطالبة بحقهم الدستوري في بيئة سليمة".
وأشار المنتدى إلى أنّ هذا الحكم "يعدّ سابقة في القضاء البيئي، ويعزز من مكتسبات المدافعين والمدافعات عن الحقوق البيئية ويكرس لفقه التقاضي البيئي كاستراتيجية ناجعة لإنصاف أصحاب وصاحبات الحقوق البيئية".
-
ارتفاع نسق التحركات البيئية في تونس
أظهر تقرير نشره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في جويلية/يوليو الفائت، تصاعد نسق التحركات ذات الطابع البيئي خلال الثلاثي الأول من سنة 2024، وذلك بنحو 172 تحركًا مقابل 156 تحركًا خلال الفترة ذاتها من سنة 2023.
منتدى الحقوق: تصاعد نسق الاحتجاجات ذات الطابع البيئي في تونس وتمحورت في غالبيتها حول ظاهرة الانقطاع المتكرر للماء الصالح للشرب والمطالبة ببيئة سليمة غير ملوثة والربط بالصرف الصحي
ووفق التقرير ذاته، فقد تم تسجيل 56% من التحركات البيئية خلال الثلاثي الثاني من العام، سيما خلال شهر جوان/يونيو الذي سجل 52 تحركًا، وذلك بالتزامن مع موسم الحصاد وموجات الحر القاسية التي تجاوزت المعدلات المسجلة في نفس الفترة من سنة 2023.
وتمحورت المطالب البيئية في غالبيتها حول ظاهرة الانقطاع المتكرر للماء الصالح للشرب، وذلك بمعدل 83 احتجاجًا، بالإضافة إلى احتجاجات في كل من سوسة والقيروان ونابل وسوسة وتوزر طالب فيها المواطنون ببيئة سليمة غير ملوثة وبربطهم بالصرف الصحي.
كما عرفت البلاد خلال الثلاثي الثاني من سنة 2024، تحركات احتجاجية تندد بتفاقم ظاهرة التلوث الصناعي في ولاية قابس، إلى جانب تحركات احتجاجية تندد بتفاقم أزمة النفايات التي تتراكم في الشوارع وأنحاء المدن بكل من ولايات صفاقس والقصرين.
وأكد التقرير أنّ التحركات البيئية خلال الأشهر الستّ الأولى من سنة 2024، اتسمت بطابعها الجماعي المنظم وكانت في أغلبها وقفات وتجمعات احتجاجية ونداءات عبر وسائل الإعلام في محاولة للفت انتباه المسؤولين والسلطات المعنية إلى ضرورة التدخل العاجل للحد من وطأة التحديات البيئية على المواطنين في مختلف المناطق في البلاد.