رأي

معضلة الثورة والتسلطية والإصلاح.. قوانين الشغل مثالًا

22 مايو 2025
معضلة الثورة والتسلطية والإصلاح.. قوانين الشغل مثالًا
هل أنّ "الإصلاحات" الجذرية مستحيلة في عصر الثورات والتأسيس الديمقراطي وممكنة في فقط في سياق تسلّطي؟ (تصميم الترا تونس)
طارق الكحلاوي
طارق الكحلاويأكاديمي وناشط سياسي من تونس

مقال رأي 

 

مرّر البرلمان التونسي تنقيح مجلة الشغل هذا الأسبوع والذي سيغير بشكل كبير العقود الشغلية. بمعزل عن الاتفاق مع التنقيح أو الاختلاف معه أسلوبًا أو مضمونًا، لكن من البيّن أننا إزاء مسّ بأحد مقوّمات المنوال الاقتصادي التونسي قبل وبعد الثورة. وأن هذا المطلب كان أساسيًا في الحراك الاجتماعي طيلة سنين خاصة في إطار شعار "تجريم المناولة". لكن لم يكن هذا التمرير أيضًا ليحصل لولا موازين القوى الراهنة التي يسيطر عليها عمومًا الرئيس، في السلطتين التنفيذية والتشريعية. السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: هل نحتاج التسلطية لتمرير قوانين جذرية مثيرة للجدل، مرة أخرى بمعزل عن الاتفاق أو الاختلاف معها ومدى جدواها العملية الإصلاحية؟ هل الديمقراطية خاصة في مرحلتها التأسيسية الرخوة تمنع قيام إصلاحات جذرية تطلبها ضرورة كل الثورات؟

منذ بداية التسعينيات، وبتأثير من برامج الإصلاح الهيكلي تحت إشراف صندوق النقد الدولي (خاصة اتفاق 1986-1987) وكما هو الحال في عديد دول العالم في سياق المدى الليبرالي و"نهاية التاريخ" في محطته الليبرالية الأخيرة، اعتمدت تونس بشكل صريح مبدأ "العمل الهش" أو "مرونة العمل". كان مسار صياغة وتنقيحات مجلة الشغل منذ الستينيات يعكس مسار المنوال التنموي التونسي من فترة قيادة الدولة للإصلاح ضمن قاطرة "الاشتراكية الدستورية" والتأسيس لمنوال ما يمكن تسميته بـ"الدولة الاجتماعية". وكان أحد عناوين ذلك أن عقد الشغل كان في الأصل والقاعدة "غير محدد" (CDI) في مقابل العقد "المحدد" زمنيًا (CDD) الذي كان استثناء. 

الأسئلة التي يجب أن نطرحها هي: هل نحتاج التسلطية لتمرير قوانين جذرية مثيرة للجدل؟ هل الديمقراطية خاصة في مرحلتها التأسيسية الرخوة تمنع قيام إصلاحات جذرية تطلبها ضرورة كل الثورات؟

ثم جاءت "مرحلة نويرة" في السبعينات وإقرار قوانين 1972 و1974 التي تنظم "الاستثمار الأجنبي" بما يفتح ثغرة في عقود الشغل نحو توسيع مبدأ الاستثناء لجلب الاستثمار الأوروبي خاصة الفرنسي والإيطالي في قطاع النسيج. كان ذلك بالمناسبة أحد محركات ودوافع الانتفاضة الاجتماعية التي ستحصل في إطار سلسلة إضرابات في مصانع النسيح خاصة في الساحل والتي ستكون أهم عوامل قرار الاتحاد العام التونسي للشغل إقرار أول إضراب عام بعد الاستقلال أي 26 جانفي/يناير 1978.

غير أن توجه الدولة العام تمسك بالنهج العام "الليبرالي" أو الأصح رأسمالية المحاباة في السياق التونسي الذي دفعت في اتجاهه المؤسسات المالية الدولية على رأسها صندوق النقد بما في ذلك رفع الدعم عن مادة الحبوب بما أدى إلى انتفاضة ثانية في جانفي/يناير 1984. ورغم التراجع المؤقت تم تبني الإصلاحات الهيكلية التي نصح بها الصندوق ومن ثمة الانتهاء إلى مجموعة "إصلاحات" كان من بين أهمها إقرار مبدأ "مرونة الشغل" بما أدى ليس فقط إلى جعل العقود الشغلية "المحدودة" القاعدة، بل أيضًا لانطلاق "المناولة" خاصة منتصف التسعينات بما سمح بتأسيس شركات عديدة أغلبها لمقربين من السلطة السياسية. 

كانت هذه "الإصلاحات" الهيكلية مستحيلة نهاية فترة بورقيبة وترهل السلطة لكن "تجددها" إثر 7 نوفمبر/تشرين الثاني واستعادتها قوتها وسطوتها على المجال العام وخاصة إضعاف الاتحاد مع جلب قيادة جديدة موالية، لم تكن بذات تأثير وكاريزما الأمين العام التاريخي للاتحاد الراحل الحبيب عاشور.. من أهم العوامل التي سمحت بتمرير سلطة بن علي لهذه "الإصلاحات". ينقل الحبيب عاشور كيف أن بن علي فرض عليه الانسحاب في أحد اللقاءات المباشرة بينهما قبل "مؤتمر سوسة" الشهير في أفريل/نيسان 1989 وصعود إسماعيل السحباني إلى الأمانة العامة. للمفارقة، كان الاتحاد من الممضين منتصف التسعينيات على الاتفاقات الإطارية التي أقرت مبدأ "المناولة".

 كان "النمو الاقتصادي" المرتفع نسبيًا (بمعدل 5%) زمن بن علي على الأقل في العشرية القائمة بين منتصف التسعينيات ومنتصف الالفينات يتم أيضًا في سياق أجور زهيدة في عديد القطاعات ضمن "المناولة"، وكان ذلك أحد أهم دوافع حالة القلق الاجتماعي العميقة خاصة إزاء سلطة تمارس رأسمالية المحاباة والكليبتوقراطية عبر عائلات الحكم بشكل صريح واستعراضي يثير الحنق. لهذا عندما اندلعت الثورة واستتب لها الأمر برحيل بن علي، كان في صدارة الحراك الاجتماعي الذي سينطلق ببطئ لكن بثبات هو "ترسيم" العديد من عمال المناولة مثلًا في الخطوط الجوية، وهو ما تم في بعض الأحيان بطرق مثيرة للشبهات، وأيضًا شيوع شعار "إلغاء المناولة". 

وتصدر اتحاد الشغل هذا المطلب مع منظمات أخرى من المجتمع المدني منها "المنتدى الاقتصادي والاجتماعي". لكن كان من النادر أن تركز النخبة السياسية بعد الثورة على مختلف المطالب الاجتماعية، ليس من زاوية الإنصات إليها، لكن أساسًا من زاوية العزم على التصدي إليها ومحاولة حلها جذريًا خاصة منها "الشغل الهش" الذي كان أحد أهم محركات الحراك الاجتماعي في البلاد إلى جانب بطالة أصحاب الشهائد العليا. استغرقت نخبة الحكم من جهة في تدبير أشكال التداول على الحكم فيما بينها بما يضمن "التوافق" وعدم إثارة الاستقطابات العميقة وترميم مسائل الهوية والنمط المجتمعي القيمي بين الأصالة والحداثة، ومن جهة أخرى، استغرقت النخبة الأكثر هيمنة في طلب مقبولية ورضا نخبة رجال أعمال خاصة منهم نخبة اقتصاد الريع المحليين وشركائهم الأجانب وأيضًا وبكل تأكيد مقبولية ورضا الراعي الغربي الليبرالي. 

في المقابل، كان اتحاد الشغل أيضًا منجذبًا لسحر السلطة وصفقات ترتيبات الحكم والتأثير والنفوذ. كان ذلك يعني أن النخبة السياسية والاجتماعية من أحزاب ومنظمات تميل إلى استبعاد وتهميش فئات اجتماعية قلقة ومثابرة في مطالبها انتقلت بشكل متصاعد للالتقاء مع طبقة وسطى سئمت عدم الاستقرار السياسي للنظام شبه البرلماني. انتخابات 2019 منذ دورها الرئاسي الأول كانت المؤشر الأول الواضح لموجة شعبوية معادية للنخبة كان أحد سماتها المشتركة مبدأ "الدفاع عن الشعب"، و"الشعب" هنا يعني فيما يعني تلك الفئات المسحوقة والمنسية. 25 جويلية/يوليو 2021 كان أيضًا محطة أخرى لتحركها الواسع الذي تم تحت سقفه التأويل المتعسف للفصل 80 بما سمح بجمع الرئيس لكل السلطات. بعض قيادات الحراك الاجتماعي تم ضمه لاحقًا لمؤسسات الدولة سواء كولاة أو معتمدين ـو نواب في البرلمان، وبعضهم تصدر الدفاع عن تنقيح مجلة الشغل وإلغاء المناولة.

جزء من نخبة المعارضة الحالية لا تريد أن تفهم أنّ سعيّد يستهدف أساسًا إرضاء فئات بقيت على الهامش وأنّ ذلك يأتي بلا شك في سياق سعيه العام لتوسيع قاعدته الاجتماعية

للأسف إنّ جزءًا من نخبة المعارضة الحالية لا تريد أن ترى كل هذا المسار المعقد والطويل. ولا تريد أن تفهم أنّ قيس سعيّد يستهدف أساسًا إرضاء فئات بقيت على الهامش وأنّ ذلك بلا شك في سياق سعيه العام لتوسيع قاعدته الاجتماعية، لكن أيضًا استطاع بسبب الوضع التسلطي تمرير قانون لم يكن من الممكن البتة في مرحلة "التوافقات" و"تدوير الزوايا" أن يمر. هل التنقيح سيكون في صالح العمال أم أنه سيضرهم موضوعيًا وعلى الأمد الطويل؟ لا توجد دراسات جدوى للآثار الاقتصادية والاجتماعي وهذا من مظاهر الأسلوب الفرداني التسلطي الذي لم يكن يرى مشكلًا في مشاركة منظمة الأعراف لولائها السياسي المطلق للمسار الحالي في مناقشة القانون، مقابل تهميش اتحاد الشغل لعدم ولائه المطلق سياسيًا للرئيس. ومن غير المضمون أنّ التنقيح سيزيد في نسبة العمال وينقص من نسب البطالة بل يمكن أن يحصل العكس. لكن من المؤكد أنّ الرئيس الذي دفع في اتجاه إطلاق العنان لسجن أهم رجال الأعمال في البلاد لا يخشى مسّ النظام العصبي لمنوال التسعينيات.

نحن هنا إزاء معضلة تونسية بل عربية عميقة: هل أنّ "الإصلاحات" الجذرية العميقة مستحيلة في عصر الثورات والتأسيس الديمقراطي وممكنة في فقط في سياق تسلّطي؟ هل يمكن للديمقراطية أن تحقق إصلاحات اجتماعية عميقة؟ حتى الآن تحيلنا التجربة على العكس تمامًا. في كل الحالات فإن القوى المؤمنة بالديمقراطية معنية بالتفكير الجدية في أهمية صياغة رؤى وبرامج مقنعة لفئات اجتماعية مختلفة تبيّن لها أهمية العلاقة بين الإصلاح الناجع ودولة المؤسسات والحوكمة الرشيدة.

انتقاد قيس سعيّد في الملف الحقوقي لن يغير ميزان القوى، وبالتأكيد لن يخدم قضيتها التهكم والتنمر أو حتى تجاهل اهتمامات فئات اجتماعية واسعة منهم عمال المناولة. فقط تشكيل قاعدة اجتماعية واسعة ترى في الديمقراطية مصلحتها الاقتصادية والاجتماعية سيضمن ذلك.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت" 

الكلمات المفتاحية

في ضرورة تقدير الموقف

في ضرورة تقدير الموقف

لا يمكن التنبّؤ بما ستؤول إليه الأحداث. لكن، من واجب الدّولة أن تحسب ألف حساب للسّيناريوهات كافّة، من الأسوأ إلى السيّئ.


الزميل الناجح عدو محتمل؟ عن الحسد المهني وأثره المدمر

في مكاتب العمل.. حين يتحوّل الزميل إلى خصم صامت!

تتعدد الأسباب التي تؤدي إلى ظهور مشاعر الحسد والغيرة داخل بيئة العمل، وغالبًا ما ترتبط بعوامل تنظيمية ونفسية وثقافية.


الصامتون أمام الاستبداد في تونس.. فلسطين ليست ممحاة للخذلان

الصامتون أمام الاستبداد في تونس.. فلسطين ليست ممحاة للخذلان

هيئة المحامين بتونس لم تقم بأي خطوات جدّية ومؤثرة لإسناد منظوريها المعتقلين لأسباب سياسية.. ولكن في خضم هذا الخذلان، تجد عميد المحامين يتوجه للاهاي لإيداع شكاية مباشرة لتتبع الكيان الصهيوني من أجل ارتكاب جرائم حرب.


زمال والطنطاوي.. مفارقة مرعبة بين تونس ومصر

العياشي زمال وأحمد الطنطاوي.. مفارقة مرعبة بين تونس ومصر

الواقع أن المطالبة بالاقتداء بسلوك السلطة في مصر هو مثير للخيبة والرعب. فلقد كانت "الإجابة تونس"

جربة فتحي بلعيد أفب Getty
اقتصاد

جربة جرجيس.. الوجهة السياحية الأولى في تونس

المندوب الجهوي للسياحة: المنطقة السياحية سجلت ارتفاعًا في أعداد الوافدين بنسبة 19.7% والليالي المقضاة بنسبة 15.7%

قصيبة المديوني منتدى الحقوق
مجتمع

رصد المد الأحمر في سواحل المنستير.. وزارة الفلاحة تحذّر البحارة والمتساكنين

سبق أن طالب الأهالي ومختصون في الشأن البيئي والمناخي السلطات المعنية بالتحرك سريعًا لتفادي أي مخاطر ممكنة على صحة المتساكنين


النادي الإفريقي
منوعات

النادي الإفريقي.. فوز قائمة محسن الطرابلسي في انتخابات الهيئة المديرة

فوز قائمة محسن الطرابلسي وهي القائمة الوحيدة المترشحة لعضوية ورئاسة الهيئة المديرة للنادي الإفريقي بعد حصولها على نسبة 92.28%من الأصوات

حركة النهضة انتخابات المجالس المحلية في تونس القايدي.jpg
سیاسة

النهضة: الحكم بالسجن ضدّ الصحبي عتيق جائر وهو حكم سياسي جاهز

حركة النهضة تعتبر أن الحكم بالسجن لمدة 15 سنة ضد الصحبي عتيق ومنصف العمدوني هو "حكم سياسي جاهز وجائر"

الأكثر قراءة

1
سیاسة

أشاروا إلى "فراغ مؤسسي".. نواب يقترحون تنقيح قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين


2
مجتمع

"قافلة الصمود عادت بقوة السلاح".. وائل نوار يكشف وقائع ما حدث في شرق ليبيا


3
مجتمع

%90 من التونسيين لا يجرون فحص الزواج.. شهادات حيّة وأطباء يكشفون لـ"الترا تونس" العواقب


4
منوعات

حليب الإبل.. دواء واستثمار وثروة تونسية متعددة الاستخدامات


5
مجتمع

"كارثة بيئية" في خليج المنستير.. دعوة لإعلان حالة طوارئ بيئية وتحذير من مخاطر صحية