كروان الإذاعة التونسية عادل يوسف.. كنز صوتي وتراث جدير بالاعتناء والتوظيف
15 مايو 2025
لم ينظِم عادل يوسف قصيدة واحدة، لكنّ آلاف الشعراء يدينون له بما بلغته أشعارهم من صدى في النفوس، ولم يُؤلّف كتابًا، غير أنّ مئات المفكّرين بلغت تصوّراتهم وآراؤهم الأَفهام بفضل صوته، هو للإذاعة شحرور وكروان، وهو للكتّاب أفضل رسول وأوثق وسيط اجتماعيّ وثقافيّ وجماليّ كفيل يجعل نصوصهم أكثر سريانًا على الألسن وأعلق في القلوب والأذهان.
تشعر بالراحة والطمأنينة حينما تقرأ الأدعية والابتهالات، لكنّك وأنت تستمع إليها بصوت عادل يوسف تكاد تبلغ أعلى درجات الخشوع والسكينة والتبتّل، وتُحسّ بلذّة فائقة وأنت تترنّم بقصائد نزار قبّاني وإيليا أبي ماضي والشابّي وجعفر ماجد.. ولكن ماذا لو أصغيت إليها من حنجرة الشحرور؟ حتما ستحملك إلى عوالم السحر والفنّ والحبّ والتأمّل والخيال. ألا إنّ فضل عادل يوسف على المدوّنة الأدبيّة التونسيّة والعربيّة قديمها وحديثها يكاد يضاهي فضل أمّ كلثوم على بيرم التونسي وأحمد رامي وأحمد شوقي وغيرهم ممّن رسخت قصائدهم في الذاكرة لمّا حوّلتها من القراءة إلى الإنشاد ومن الإلقاء إلى الغناء.
عديد المبدعين الذين يعتدّون بأصواتهم ومهاراتهم في القراءة والتنغيم، كانوا لا يستأمنون على كلماتهم وعباراتهم غير عادل يوسف، منهم الشعراء زبيدة بشير وجعفر ماجد ورياض المرزوقي
ولئن قام جهد كوكب الشرق على ترسانة من الموسيقيين والملحّنين، فقد ارتكز نجاح الشحرور التونسيّ على صوته، فقد ناب لسانه وحنجرته وأنفه وقصبته الهوائيّة وكلّ عناصر جهازه الصوتيّ عن القيثار والبيانو والناي والعديد من الآلات الموسيقيّة ذات الأنغام المتنوّعة المتباينة قوّة ونعومة، تراني أقول حينما أراه قد وقف أو جلس وراء المصدح: عادل يوسف حضر، كلّ عناصر الأركسترا قد حضرت إذن.
آداب القراءة وفنون الإلقاء
كانت لي مع " الشحرور" تجربة متمّيزة طويلة مفيدة رغم سطحيّة العلاقة المباشرة، ففي صائفة سنة 1996 جمعني لقاء مع بوراوي بن عبد العزيز رئيس مصلحة الإنتاج بمكتبة في الإذاعة الوطنيّة، دعاني إلى المشاركة في إعداد برنامج إشراقة الصباح، بتواتر مرّة واحدة في الأسبوع قد تبلغ مرّتين عند الطلب، وحثّني على كتابة نصوص كل واحد منها يمتدّ على حوالي اثني عشر صفحة بخطّ اليد تكون مضامينها وأساليبها ذات منحى رومنسي تحفل بمعاني الحبّ والخير والفنّ والجمال، وكنت أمنّي النفس بأن أقدّم الحلقة بصوتي، شعرت بحسرة لأنّني بلغت نصف الطريق، فقد تقرّر أن يقتصر دوري آنذاك على الإعداد فقط، لم أكن مطلعًا على طقوس الإذاعة ودواليبها في تلك الفترة، ولم أكن أعرف من منتجيها غير كمال عمران رحمه الله أستاذي بالمرحلة الثالثة، يوم تقديم الحلقة الخاصّة بي فجر يوم من أيّام الأحد، أيقنت وأنا أنصت إلى عملي بصوت الشحرور أنّ نصوصي التي سأكتبها قد وهبتها الأقدار صوتًا هو الأجمل والأصفى والأكثر بيانًا، فتحوّلت حسرتي إلى شكر وارتياح وامتنان، وقلت في نفسي: لا أحد يمكن أن يستأمن عليه الكاتب كلامه أفضل من عادل يوسف.

وتواصلت تجربتي مع هذا الصوت إلى سنة 2000 حتّى حلّ محلّه الكثير من المقدّمين الذي أخذوا عنه المشعل، وكان قد أودع فيهم فنونًا في القراءة والإلقاء متى اتّبعوها لن يضلّوا، فنونًا في "البيان الصوتيّ" تقوم حسب رأيي على أربعة ضوابط لا غنى عنها:
لا قراءة دون استعداد ذهني ونفسيّ وراحة جسديّة، فلا يدخلنّ القارئُ قاعة التسجيل وقد قدم متأخرًا لاهثًا ولا يلِجنّه، وهو يعاني من أعراض مرضيّة في الأنف والحنجرة، كُن سليمًا معافى يكون الصوت أجمل وأصفى وتكون مخارج الحروف أدقّ وأسلم.
لا إلقاء دون فهم، فمعاني الحبّ والفرح والغضب والأمل والصبر والتحدّي ينبغي أن يحسن القارئ تحويلها من المكتوب إلى المشافهة، ولا يفلحنّ المقدّم في ذلك إن لم يكن قد استوعب النصّ جيّدًا، يقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه أسرار البلاغة: "رُبّ كلمة تُلقَى على وجه، فتُوجب من التأثير ما لا توجبه إذا أُلقيت على وجه آخر".
لا إلقاء دون تقطيع للنصّ تقطيعًا يأخذ بعين الاعتبار طول نفس القارئ ومواطن الصمت وإيقاع النطق وقوّته ومستويات التنغيم فيه، بل إنّ الكاتب بإمكانه وهو ينصت إلى عمله على لسان عادل يوسف أن يراجع أسلوبه، فيكفّ عن استعمال تلك الجمل الطويلة الملتوية القائمة على كثرة الموصولات الاسمية والحرفيّة، فيعمد إلى بلاغة الإيجاب وأجمِل بها بلاغة!
لا قراءة دون مراجعة معجميّة ونحويّة دقيقة حتّى إن كان صاحب النصّ حجّة في اللغة وآية في النحو، إنّما الفيصل هو لسان العرب جليس "الشحرور" ومستشاره في عيون الألفاظ وأواخر الكلِمِ، وكيف لا يفعل هذا من خيّر تغيير لقبه من عادل عَوَضْ عبد اللطيف إلى عادل يوسف، لا فقط لأنّ لقب يوسف أكثر جاذبيّة أو استئناسًا بلقب المذيع المصري إبراهيم يوسفـ إنّما الدافع الأساسي وفق شهادة "الشحرور"، راجع إلى أنّ غالبيّة التونسيين كانوا في ستينيات القرن العشرين ينطقون عَوَضْ نطقًا خاطئًا بكسر العين، ( عِوض) فغير لقبه وكفى المواطنين وكفى نفسه حرج النطق المغلوط.
الذكاء الاصطناعي كفيل إذا وجد مدوّنة صوتية طويلة ومتنوعة لعادل يوسف، الذي قدّم برامج على امتداد 40 سنة، بأن يجعل صوته أميل إلى الخلود، عبر جعل النصوص الراهنة واللاحقة مقروءة بصوته
الشحرور الذي راودته القصيدة عن صوته
القصيدة أو الخاطرة قريبة إلى مبدعها قرب البنت إلى أبيها، هي قطعة من روحه، لا يهنأ عليها إلّا بعد أن يكون قد أودعها في مجموعة شعريّة مدوّنة موثقة، فتجد أخواتها تستأنس بهنّ وتستند عليهنّ، وعند إلقائها أو تحويلها إلى أغنية، يكون حال المبدع كحال من يتلقّى عروضًا لخطبة إحدى صباياه، فلا يتمنّى لها إلّا من يصونها نطقًا وإعرابًا وتنغيمًا، هذا شأن الكتّاب ومعدّي البرامج ذات المنحى الفنّي والجمالي في الإذاعة الوطنيّة من ستينيات القرن الماضي إلى حوالي سنة 2000، تراهم في تدافع وخصام غير معلن حول قارئ النصّ ومنشده وعارضه ومقدّمه، ولم يكن العرسان في تلك العقود الأربعة كثر، وكان أجملهم وأكثرهم لياقة عادل يوسف، فكانت كّل النصوص الحسناء تراوده عن صوته.
العديد من المبدعين والمفكّرين والأساتذة الجامعيين الذين يعتدّون بأصواتهم ومهاراتهم في القراءة والتنغيم، كانوا لا يستأمنون على كلماتهم الرقيقة الأخّاذة وعباراتهم الفصيحة الدقيقة غير عادل يوسف، منهم الشاعرة زبيدة بشير وجعفر ماجد ورياض المرزوقي والشاذلي زوكار وصوف عبيد وحبيب شيبوب وغيرهم، حتّى بوراوي بن عبد العزيز رئيس مصلحة الإنتاج آنذاك -وهو ما هو كتابةً وتقديمًا- كان يدخل في منافسة من أجل الظفر بصوت "الشحرور الاستثنائيّ الفريد"، ولَكَمْ كانت هذه المعركة الجماليّة تثير في عادل يوسف من الحرج وفق تصريح أدلت به زوجته لإحدى الإذاعات المحليّة. غير أنّه حرج مثمر على حدّ تعبير ابنته أميمة عبد اللطيف في نفس اللقاء الإعلاميّ لمّا قالت إنّ أباها كان يبادل المنتجين والمعديّن والجمهور عطاء غزيرًا لقاء ما يلقاه فيهم من حبّ وتقدير وتبجيل.

ما ننتهي إليه هو أن عادل يوسف لم يحتكر المصدح، إنّما كانت الإذاعة هي التي احتكرته لحاجتها الماسّة إليه، وقد غنمت منه أكثر ممّا غنم منها، ولقد ظلّ صوته وسيظلّ مبثوثًا صباحًا مساءً من خلال برامج أو حلقات وقعت إعادة بثّها في الإذاعة الوطنيّة وسيعاد بثّها بلا شكّ في مناسبات لاحقة، منها "نقوش على سطح الذاكرة" و"إشراقة الصباح" و"خيوط الفجر" و"أغنية وقصيد" و"زخارف وعبرة" و"نغم" و"تحيّة الغروب" و"رمضان ملء قلوبنا"..
كيف نحسن الاستفادة من التراث الصوتي لشحرور الإذاعة؟
تزخر خزينة الإذاعة حاليًا بآلاف الحلقات من برامج قدّمها عادل يوسف على امتداد أربعين سنة، هذا الموروث الثقافيّ يحتاج إلى عناية وتوظيف حسن، أمّا العناية فتتمثّل في مواصلة تحويل الإسطوانات القديمة إلى ملفات صوتيّة رقميّة يسهل حفظها وتبويبها والاستفادة منها، وأمّا التوظيف فلا ينبغي أن يقتصر على إعادة العرض بل ينبغي أن يتجه إلى مستويين على الأقلّ، إخضاع ذاك الأسلوب في القراءة وتلك الطرائق في الإلقاء إلى قراءة علميّة من أهل الاختصاص تثمر قواعد، فلا شكّ أنّ عادل يوسف قد أنار من تدرب عنده بنصائح وتوجيهات أفادتهم في مسيرتهم الإذاعيّة، ولكنّ بعض الخصوصيّات التي ميزت "البيان النطقي الصوتي" لدى الشحرور كانت ذاتيّة تلقائيّة فوجب معرفة أسرارها من أجل تحويلها من العفويّة إلى التقعيد. وليس يخفى في هذا السياق على أهل العلم في المجالات التقنية، أنّ الذكاء الاصطناعي كفيل إذا وجد مدوّنة صوتية طويلة ممتدّة متنوعة للشحرور أمكن له جعل صوته أميل إلى الخلود، فليس بعزيز على هذا المجال العلمي أن يجعل النصوص الراهنة واللاحقة مقروءة بصوت عادل يوسف الذي فارقنا جسده يوم الأحد 12 ماي/أيار 2025، ولن تفارقنا ابتهالاته وكلماته في الحبّ والخير والجمال.
الكلمات المفتاحية

سجاجيد النجمة الزهراء.. عن المجموعة النادرة للبارون ديرلنجي
مجموعة السجاجيد والزرابي المعروضة في قصر النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد، هي واحدة من مجموعات أخرى جمعها البارون ديرلنجي من أسفاره ورحلاته أو وصلت إليه عن طريق أصدقائه ويصل عددها إلى 2600 قطعة

كتاب "أجواد وأوغاد".. حفر بلاغي وعلمي في عتمات الهامش الاجتماعي التونسي
كتاب "أجواد وأوغاد" للباحث هيكل الحزقي يمكن اعتباره كتابًا متأنّيًا ومؤسسًا جادًا لفهوم مجتمعي تونسي ظل شريدًا في التاريخ الاجتماعي المديني

سرقة الكتب في معرض تونس الدولي للكتاب.. بين الأخلاق والإيديولوجيا
برزت ظاهرة غريبة منذ الدورات الأولى لمعرض تونس الدولي للكتاب تتمثل في "سرقة الكتب" من قبل طلبة وشباب محب للمطالعة حتى أنّ الأمر بات مقلقًا

جربة جرجيس.. الوجهة السياحية الأولى في تونس
المندوب الجهوي للسياحة: المنطقة السياحية سجلت ارتفاعًا في أعداد الوافدين بنسبة 19.7% والليالي المقضاة بنسبة 15.7%

رصد المد الأحمر في سواحل المنستير.. وزارة الفلاحة تحذّر البحارة والمتساكنين
سبق أن طالب الأهالي ومختصون في الشأن البيئي والمناخي السلطات المعنية بالتحرك سريعًا لتفادي أي مخاطر ممكنة على صحة المتساكنين

النادي الإفريقي.. فوز قائمة محسن الطرابلسي في انتخابات الهيئة المديرة
فوز قائمة محسن الطرابلسي وهي القائمة الوحيدة المترشحة لعضوية ورئاسة الهيئة المديرة للنادي الإفريقي بعد حصولها على نسبة 92.28%من الأصوات

النهضة: الحكم بالسجن ضدّ الصحبي عتيق جائر وهو حكم سياسي جاهز
حركة النهضة تعتبر أن الحكم بالسجن لمدة 15 سنة ضد الصحبي عتيق ومنصف العمدوني هو "حكم سياسي جاهز وجائر"