كتاب "صحيفة المدينة - إسلام مهمّش".. أركيولوجيا ضرورية بعيدًا عن آلة الفقه
27 مارس 2025
إذا ما نظرنا نظرة تاريخية للبيئة الحضارية التي ظهر فيها الإسلام في شبه الجزيرة العربية، نجد أنها بيئة تعتمد بالأساس على ثقافة الشفوي وأنّ المكتوب كان حضوره قليلًا جدًا.
لكن عندما تم الانتقال من أزمنة الشفوي إلى زمن المكتوب أو عصر التدوين وتسريد الأحداث والوقائع ونقلها على الورق ومن ثمة الذهاب إلى "تربية أنا جمعي جديد"، لم تكن العملية بالأمر اليسير، إذ شابتها صعوبات جمة خاصة فيما تعلق بمنظومة الدين الإسلامي والذهاب إلى "مأسسة" فكرها النابت مع بداية الدولة العباسية. فكانت العملية فيها الكثير من الانتقاء والتغييب القصدي لشخصيات وأحداث وتفاصيل قد تخدم طرفًا على حساب الآخر. وهكذا جانبت العديد من الكتابات الموضوعية وما تقتضيه من دقة في نقل الحقيقة التاريخية.
ومن الأحداث الهامة المتعلقة بالإسلام المبكّر والتي لم تحظ بالاهتمام في مرحلة التدوين وما بعدها وتم إغفالها قصدًا وتكاد تكون غيّبت من قبل الرواة الأوائل وما تلاهم من المؤرخين والمفسرين، هي حادثة في علاقة مباشرة بهجرة الرسول محمد من مكة إلى يثرب (المدينة) والاتفاق الذي خطّه مع أهل المدينة من عرب ويهود، وعُرف بـ"صحيفة المدينة".
الباحثة التونسية ناجية الوريمي أكدت أن الخطاب الإسلامي المعاصر، يولي صحيفة المدينة اهتمامًا خاصًا لأنه رأى فيها دلالات صالحة للاستثمار اليوم في اتجاهين
موضوع صحيفة المدينة ورغم التغييب والإقصاء الذي تعرضت له، احتفت به مدارس نقدية جامعية عديدة في الوطن العربي وفي العالم، وخاصة تلك التي تشتغل على التاريخ الإسلامي وتاريخ الأديان بشكل عام بما في ذلك المدرسة النقدية التونسية التي قادها الدكتور هشام جعيط، فقد صدر منذ أسابيع قليلة كتاب "صحيفة المدينة، إسلام مهمّش" للكاتبة الباحثة ناجية الوريمي، أستاذة الحضارة العربية الاسلامية بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بجامعة تونس المنار، وهي عضوة بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" وصدر لها:
"موسوعة التسامح في الثقافة العربية الإسلامية، دراسة نقدية" سنة 2018، "زعامة المرأة في الإسلام المبكر بين الخطاب العالم والخطاب الشعبي" سنة 2016، "الاختلاف وسياسة التسامح: بحث في الإشكاليات الثقافية والسياسية في سياسات الرشيد والبرامكة والمأمون" سنة 2015، ولها مساهمات عديدة في مؤلفات جماعية وفي مجلاّت علمية في العالم العربي وأوروبا وأمريكا..
كتاب "صحيفة المدينة، إسلام مهمش"، صدر بالشراكة بين "المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون" (بيت الحكمة) و"دار الجنوب" للنشر وهو من الحجم المتوسط وورد في 218 صفحة.
في توطئة الكتاب، توضح الكاتبة ناجية الوريمي أنّ الاهتمام بهذه الوثيقة "كان من المفروض أن تحتفي بها السرديات الإسلامية لأنها جزء من تاريخ الرسالة والرسول وهي صحيفة المدينة أو كتاب يثرب كما جاء في نصها والتي تعود إلى بدايات التجربة المدنية إبان الهجرة، وموضوعها معاهدة عقدت بين المجموعات الدينية والقبلية في يثرب بهدف إقرار السلم داخليًا والتعاون على دفع الاعتداءات الخارجية". وتضيف في السياق ذاته أنّ هذه الوثيقة "مقترنة بحدث مهم في السيرة النبوية ورغم عناية المؤرخين والمحدثين بجزئيات كثيرة من السنة القولية والفعلية كذلك رغم عنايتهم بوثائق عديدة قريبة منها في الزمن، لم نرهم يعتنون بخبرها ولا بتحقيق نصها رغم إقرارهم العام بصحتها. إذ لم يتجاوز تعاملهم معها إحدى الطريقتين: إما الإهمال والسكوت عنها وهذه حال معظم المصادر المعنية بها، أو إخضاعها لتحويرات مختلفة الغاية منها تطويعها لمقتضيات المنظومة التي استقرت لاحقًا".
تتابع: "وتتراءى لنا وراء هذا الإهمال دلالات عقدية وتشريعية وتنظيمية-قبلية نهضت بها الصحيفة ولم تعد تتماشى -في معظمها- مع معرفة دينية أصبحت ممأسسة، ومع انتظام سياسي يختلف كثيرًا عن الانتظام الذي الذي أقرته هذه الوثيقة. ومن المعلوم أنّ عمل المحدثين والفقهاء مشدود إلى غاية فقهية تقتضي منهم الانتباه إلى تبعات (الحجيّة) فيما يثبتونه من أفعال الرسول وأقواله".
وفي التوطئة ذاتها، تعرضت الكاتبة إلى الكتابات الأكاديمية المعاصرة الهامة التي تعرضت لموضوع الصحيفة على غرار دراسة يحيى بلحسن وعنوانها "صحيفة المدينة قراءة نقدية" وهي في الأصل أطروحة دكتوراه نوقشت في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس سنة 2017. وكتاب هشام جعيط "في السيرة النبوية: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام" وكتاب "الإسلام بين الرسالة والتاريخ" للأستاذ عبد المجيد الشرفي، وكتاب "نقد العقل العربي: العقل السياسي العربي" لمحمد صالح الجابري، وكتاب "الأمة والجماعة والسلطة: دراسات في الفكر السياسي العربي الإسلامي" لرضوان السيد، وكتاب "الجدل الاسلامي اليهودي باللغتين العربية والعبرية إلى حدود القرن العاشر للهجرة" للدكتور فوزي البدوي"..
وتوضح الكاتبة أن "الخطاب الإسلامي المعاصر الصادر في معظمه عن مؤسسات دينية رسمية، يولي الصحيفة اهتمامًا خاصًا لأنه رأى فيها دلالات صالحة للاستثمار اليوم في اتجاهين: أحدهما وعظي يختزل الصحيفة في التشريع للتعايش بين المختلفين في العقيدة والثاني سجالي هدفه الرد على على دعاوى اقتران الإسلام بالتعصب ورفض الآخر عبر إبراز ما رآه في هذه الوثيقة من قيم مدنية معاصرة، وفي كلا الاتجاهين غابت المقومات البنيوية والتاريخية التي تميز الصحيفة وغابت إشكالياتها وفي مقدمتها مسألة تهميشها من المصادر القديمة.." وذهبت الكاتبة إلى الدراسات والكتب الاستشراقية التي تناولت وثيقة "صحيفة المدينة" موضحة أنها عديدة جدًا وأرجعت ذلك إلى "حضور اليهود طرفًا فيها وشريكًا".
في القسم الأول من الكتاب، تعرضت الباحثة التونسية ناجية الوريمي إلى سياق تاريخ الأحلاف والعهود التي كانت منتشرة في ذلك الوقت "فهي ليست حدثًا فريدًا في تاريخ يثرب ولا في تاريخ شبه الجزيرة فقد كانت ظاهرة الأحلاف منتشرة بين القبائل وغايتها في الغالب ضمان الحد الضروري للتعايش في نفس الحيّز وضمان المصالح المشتركة" واستعرضت أشهر الأحلاف "ما عقده أصحاب الإيلاف من قريش مع الملوك وأشراف القبائل".. وبينت أن الصحيفة "هي جزء من شبكة الأحلاف التي عرفتها يثرب وكامل أجزاء الجزيرة العربية".
وأشارت الوريمي في هذا القسم من كتابها إلى أن فعل التدوين كان محكومًا بذاكرة انتقائية "فبقدر ما تسجل المواد المناسبة والمرغوب فيها، تترك أو تهمش تلك التي لم تعد تتماشى والسائد.." وهذا تقريبًا ما حصل للصحيفة حيث توضح "من المفروض أن تمثل الصحيفة -بما هي وثيقة وحدث مهمان في سيرة الرسول في المدينة-ـ أهمية خاصة في مادة الحديث لأنها ـ-وبإقرار المحدثين أنفسهم- المكتوب الوحيد الذي أثر عن الرسول إلى جانب القرآن. فإذا كان عمل المحدثين مركزًا في التحري في صحة ما ينقل شفويًا من أقوال الرسول وتوفير عوامل الاطمئنان لصحته فإن الصحيفة ــومن هذه الناحيةــ تغنيهم عن هذا الجهد لأنها من كتابة الرسول -كما يقولون- أي هي (حديث) مكتوب لكن وخلافًا للمتوقع وجدنا المحدثين يحترزون كثيرًا من ذكرها ويمتنعون من إيراد نصها ويعمدون في المقابل إلى تشظيتها وانتقاء شذرات نصية منها ولم تعد تثير إشكالًا في حاضرهم..".
عندما ذهبت الباحثة ناجية الوريمي إلى تقصي حضور صحيفة المدينة في الخطاب التاريخي، وجدت أن المؤرخ منزعج من هذه الوثيقة وذلك بالسكوت عنها وإسقاطها من تاريخ الفترة المدنية
وانتقدت الباحثة فقهاء زمن التدوين في تعاملهم مع هذه الوثيقة مشيرة إلى أنّ "فقيه عصر التدوين لن يقبل ببساطة هذه الوثيقة وإن كانت مما أقره الرسول في المدينة وسيعمد إلى تصرف كبير في نصها حتى تنسجم مع منظومته". وأرجعت ارتباك الفقهاء ومحاصرة دلالات الصحيفة إلى ثلاث قضايا هي: تغيير دلالات حضور اليهود في الصحيفة بربطها بأحكام أهل الذمة. والاكتفاء بالدلالات المبدئية والعامة لمسألة الجراحات والمعاقل. وتسييج مفهوم الإيمان وضبط شروطه".
وعندما ذهبت الباحثة ناجية الوريمي إلى تقصي حضور صحيفة المدينة في الخطاب التاريخي وجدت أن المؤرخ منزعج من هذه الوثيقة وذلك بالسكوت عنها وإسقاطها من تاريخ الفترة المدنية والاكتفاء بتلخيصها مع التصرف في بنودها -إضافة وحذفًا وتعليقًا- مع إدخال تحويرات دلالية عليها.
في القسم الثاني من الكتاب البحثي والذي جاء تحت عنوان "الصحيفة أسباب التهميش: دلالات محرجة يجب أن تغيب" طرحت الكاتبة مجموعة من التساؤلات الحارقة اعتبرتها سبيلًا ضروريًا لتبين الدلالات، بل وترى أنها أسئلة توجه مسار بحثها في أسباب ظاهرة التهميش الذي تعرضت له الصحيفة: "من هي الأطراف المتعاهدة في الصحيفة؟ ولماذا تم التمييز فيها بين المؤمنين والمسلمين؟ ولماذا لم يذكر اليهود الذين خصوا بمجموعة من البنود بصفتهم طرفًا موقعًا على المعاهدة؟ ولماذا ذكرت قبائل يهودية كثيرة وربما غير شهيرة، ولم تذكر أشهر القبائل اليهودية (قريظة والنضير وقينقاع)؟ وما هي حقيقة الدور الذي كان يتولاه الرسول عند كتابة الصحيفة وإلى ما قبل الفتح؟ ولماذا ذكر المشركون من أهل يثرب في بند واحد؟ هل كانوا معنيين أصلًا بهذه المعاهدة؟ ثم كيف عكست الصحيفة ظروف عصرها؟ وما هي أوجه خصوصيتها وفرادتها؟".
القسم الأخير جاء تحت عنوان: في المآل "السقيفة" ونقض "الصحيفة": الصراع على "إمارة المؤمنين". وضمنه خلصت الباحثة إلى أن "تحالف الصحيفة بين المؤمنين والمسلمين بفضل الحركية التي خلقها في مستوى تأمين يثرب وفي مستوى التوسع في نشر الدعوة التوحيدية، قد أحدث تغيرًا في طبيعة هذه الأمة الجديدة الناشئة وأنشأ الحاجة إلى إشراف مركزي (فردي أو جماعي) على حسن تطبيق هذه المعاهدة لأن الدعوة خلقت وضعًا جديدًا في الحجاز وفي الجزيرة جعل التنظيم القبلي وحده عاجزًا عن الاستجابة للصِلات التي أوجدها الإسلام بين الأفراد والمجموعات.. ولذا كان تحقيق نوع من المركزية في القرار أمرًا محتومًا..".
وترى الكاتبة ناجية الوريمي أنه "ولئن كان حلف الصحيفة -من حيث الشكل- من جنس الأحلاف المتعارفة في المجتمعات القبلية، فإنه من حيث المحتوى والأهداف يتميز بخصوصية الحركة الجماعية الساعية إلى نشر عقيدة التوحيد وبخصوصية الأمة التي تريد أن تفرض نفسها في ظروف كانت تساعدها على ذلك. وهذا ما تجلى في الانتصارات التي حققتها والتي توجتها بفتح مكة مركز الوثنية الممانع للتحول، غير أن هذه الحركة التي كان يتزعمها رمزيًا الرسول ويشارك فيها عمليًا زعماء الأنصار، كانت تحمل بذور الصراع بين طرفي الحلف: مؤمني يثرب ومسلمي قريش..".
في خاتمة الكتاب، حاولت الكاتبة الحصول على نص تقريبي لوثيقة صحيفة المدينة من خلال التقاطعات التي قامت بها وهي ترتحل بين الكتب التي أوردت مقاطع ونتفًا وجملًا وفقرات من نص الصحيفة.
يبقى كتاب "صحيفة المدينة، إسلام مهمش" الذي أعدته الباحثة التونسية ناجية الوريمي من البحوث الهامة التي اتسمت بالدقة العلمية والمقاربة الموضوعية والتمشي المنهجي السلس والمقنع في علاقة بمرحلة هامة من تاريخ الإسلام.
الكلمات المفتاحية

كروان الإذاعة التونسية عادل يوسف.. كنز صوتي وتراث جدير بالاعتناء والتوظيف
الذكاء الاصطناعي كفيل إذا وجد مدوّنة صوتية طويلة ممتدّة متنوعة للشحرور عادل يوسف، أمكن له جعل صوته أميل إلى الخلود

سرقة الكتب في معرض تونس الدولي للكتاب.. بين الأخلاق والإيديولوجيا
برزت ظاهرة غريبة منذ الدورات الأولى لمعرض تونس الدولي للكتاب تتمثل في "سرقة الكتب" من قبل طلبة وشباب محب للمطالعة حتى أنّ الأمر بات مقلقًا

معرض تونس الدولي للكتاب.. التحديات نفسها تجابه الزائرين والناشرين
معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الـ39.. التحديات نفسها تجابه الناشرين التونسيين والأجانب والقرّاء

جامعات أجنبية بدأت في إيقاف عقود بعض الأساتذة الجامعيين التونسيين.. ما القصة؟
ممثل عن الأساتذة الجامعيين الملحقين بالخليج: بعض الجامعات في العالم وخاصة الخليجية، بدأت في إيقاف عقودها مع بعض التونسيين هذه الفترة

محام: مثول عبير موسي أمام القضاء دون إعلام هيئة الدفاع
عضو هيئة الدفاع: رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي تشهد تدهورًا لحالتها الصحية نتيجة عدم احترام البروتوكول الصحي في سجن إيقافها

عودة شبية القيروان إلى الرابطة الأولى لكرة القدم
أنهى فريق شبيبة القيروان السباق في صدارة الترتيب برصيد 54 نقطة وتمكن بذلك من الصعود من جديد إلى الرابطة المحترفة الأولى لكرة القدم

الدكتور ماجد الزمني يحصد جائزة نيلسون مانديلا للصحة 2025
منظمة الصحة العالمية: قدّم الدكتور ماجد الزمني، أخصائي الطب الشرعي مساهماتٍ واسعة ومؤثرة في مجال تعزيز الصحة