ثقافة وفنون

كتاب "أجواد وأوغاد".. حفر بلاغي وعلمي في عتمات الهامش الاجتماعي التونسي

25 مايو 2025
كتاب أجواد وأوغاد.. حفر بلاغي وعلمي في عتمات الهامش الاجتماعي التونسي
كتاب "أجواد وأوغاد" للباحث هيكل الحزقي "قوّض الكتابات السابقة حول الباندي وأعاد ترتيب العناصر المتلبسة بهذه الظاهرة"
رمزي العياري
رمزي العياريصحفي من تونس

تصدير: "إن أي تشكيلة تاريخية ترى وتُرى كل ما بوسعها أن تراه وتريه تبعًا لشروطها للرؤية، كما أنها تقول كل ما بوسعها قوله تبعًا لشروط تعبيرها.."

"جيل دولوز" (فيلسوف فرنسي)


نحن إزاء تقديم كتاب نوعي يمتح جوهره من غابة الهامش الاجتماعي التي أمعنت الروايات الرسمية في دحرها وجعلها قصية وبعيدة عن الاهتمام الفكري وحضائر علوم الإناسة، هذا الكتاب حمل عنوانًا فوقيًا هو "أجواد وأوغاد" مع تتمة تحتية توضح معنى العنوان هي "قصة الباندي التونسي" لصاحبه الكاتب التونسي هيكل الحزقي، وهو ناقد في حقول الموسيقى وتقاطعاتها التاريخية مع السياقات السياسية والاقتصادية. وهو أيضًا باحث في الثقافة الشعبية المحلية في مداراتها المتعددة. وقد صدر المؤلف نهايات سنة 2024 عن "جمعية نشاز" والكتاب مدعوم من "الصندوق العربي للثقافة والفنون" (آفاق)، وقد صممه ووضّبه قيس الوسلاتي. أما الصورة الرمزية للغلاف فأعدها المصمم والنحات والفنان الباحث محمد أمين حمودة.

هذا الكتاب ورد في 232 صفحة، وقد قدمه تقديمًا رمزيًا الناشط الحقوقي والكاتب فتحي بن الحاج يحيى، صاحب السيرة الروائية السياسية "الحبس كذاب والحي يروّح".

هيكل الحزقي اختار مغامرة بحثية واضحة جوهرها تأصيلُ مفهوم اجتماعي قاعيّ ظل لعقود طويلة مهملًا ومنسيًا من البحث والباحثين وهو "الباندي" وما اشتق منه "التبنديد" و"البونديزم" وكل تلك المترادفات والتشبيهات المتداولة التي تحوم حول هذا المفهوم، وقد حاول الإحاطة به من زوايا عديدة لعل أهمها الزوايا الأنثروبولوجية والتاريخية والسرديات المروية التي تلفها الأساطير الشعبية لأزيد من قرن من الزمن التونسي.

اختار هيكل الحزقي خوض مغامرة بحثية واضحة جوهرها تأصيلُ مفهوم اجتماعي قاعيّ ظل لعقود طويلة مهملًا ومنسيًا من البحث والباحثين وهو "الباندي" وحاول الإحاطة به من زوايا عديدة

هيكل الحزقي في تمهيده للكتاب، أكد أنه يقيم جنوب الثقافة التونسية وينبش بإلحاح في العتمات وظلال المدينة كفضاء للعيش المشترك مستفيدًا من الأسئلة التي فجرتها الثورة التونسية في 2011 ومنها أسئلة الهوية والانتماء وخصوصًا "قصص الهوامش والسرديات غير الرسمية" فما كان من الباحث الحزقي إلا أن بادر بشجاعة مغامر فالتقط سؤالًا يمكن اعتباره الخيط الناظم للكتاب وهو: "كيف صار الباندي التونسي بانديًا كما تراه الذاكرة الجماعية؟".

في الفصل الأول من الكتاب الذي جاء تحت عنوان "هذا هو الباندي" نزّل الحزقي كلمة الباندي ضمن ما سمّاه بـ"الصيرورة التونسية" في ارتباطها بالعيش اليومي واستند في ذلك إلى حوار جمعه بأحد "باندية" مدينة بنزرت سنة 2022 "أيمن قازرنة" والذي صرّح لصاحب الكتاب قائلًا: "حد ما يتولد باندي، الباندي يتسمى".

واعتبر الكاتب في هذا الفصل أن ظاهرة الباندية "ظلت ميراثًا رمزيًا حمل سمات العدوى في عرف المدينة" مشيرًا إلى الدور الذي لعبه السجن في عملية التوريث تلك وخصوصًا ذاك الخلط بين الإجرام والباندية وهو ما أكسب تلك الظاهرة "هالة أيقونية حولتها إلى ضرب من الفروسية المدينية" لكنها ظلت ظاهرة تقيم وإلى الأبد في المنعطفات.

بحث الكاتب في هذا الفصل الأول ضمن عملية التقصي المفهومي عن نظير لفظي للباندي التونسي في اللهجات المشرقية كما تطرق إلى زخم المعجم العامي التونسي بكلمات تحوم حول مدارات الباندي التونسي مثل: "الفصالة" و"القطعي" و"الباربو" و"الكلوشار" و"الخليقة" و"العاتي" و"العزلوك".. لكن تأكد لديه أن كلمة باندي مرتبطة بالتواجد الإيطالي الصقلي والمالطي في تونس الذي سبق الاستعمار الفرنسي، "فقد مثل المالطيون العنصر الأكثر حضورًا في الإيالة التونسية إلى حدود 1871 ثم افتك الإيطاليون الريادة فتضخمت النواة الأولى من الأجانب في بداية النصف الأول من القرن التاسع عشر بسبب الهجرة الاختيارية لعدد من المالطيين والصقليين المطرودين من جزرهم المكتظة بالسكان والغارقة في الحرمان وكساد سوق الشغل فتطورت هجرة الصقليين بعد سنة 1860 وأصبحت تونس ملجأ للفارين من الخدمة العسكرية وقطاع الطرق الذين تلاحقهم الشرطة الإيطالية..". 

 

صدر كتب "أجواد وأوغاد" أواخر سنة 2024 عن "جمعية نشاز" والكتاب مدعوم من "الصندوق العربي للثقافة والفنون" (آفاق)

 

هذا التواجد الكثيف للإيطاليين الصقليين صبغ حياة سكان المدن التونسية وخصوصًا الساحلية منها فشكلوا "ثقافة البحر عند البحارة التونسيين والتي ارتبطت بعالم الفتوات والباندية"، فتعدد الاقتراض المعجمي من اللسان الصقلي لدى البحارة فسميت المؤونة على سبيل المثال "سبيسة" نسبة إلى تسميتها الصقلية و"القبادجي".. كما أدى التماهي السلوكي مع الصقليين إلى "اكتساب فعاليات جديدة لتحدي الفئات المهيمنة أهمها الفيشطة والعوالم الماخورية والخمرية.." فنشأت في الأوساط الشعبية المدينية اللغة الساخطة الجديدة وخاصة المتعلقة بالسباب فغذت المعجم المتداول فأصبحنا نستمع إلى كلمات من قبيل: "مالا إمّارك" و"ما أخيب ها الراتسة" و"بونيا".. وهي كلها مشتقة من كلمات إيطالية.

وفي فترة ما بين الحربين راج المزج اللغوي مع اللسان الفرنسي فأصبحنا نستمع إلى كلمات من قبيل "الكنبانية" و"الشميندفير" و"الفابريكة" و"زوفري".. ويرى الحزقي أنّ هذه الكلمات "حملت طابعًا شوارعيًا وارتبطت بالتقاليد الصناعية العمالية".

ومن خلال رصده لتسرب كلمة "زوفري" عبر الجرائد الفرنسية والتونسية الصادرة بتونس في فترة ما بين الحربين، يرى هيكل الحزقي أن "استعمال لفظ زوفري شاع للإشارة إلى ظاهرة الباندية كما نعرفها نظرًا لارتباطها بالعمال والدوكارات والتجمعات العمالية ولارتباط اللفظ ذاته لدى البلديّة والأعيان والفرنسيين بالنظرة الدونية للعامة وعالم القاع قبل أن يستقر لفظ باندي خلال الفترة الاستعمارية.." وعزز الكاتب خلاصة استنتاجاته الخاصة بصيرورة "البانديزم" التونسي بالتفاتة نصوح إلى الكتابات الشعرية الشعبية التي حملت استعارات ووصفًا من معجم الباندية على غرار أشعار "العربي النجار" (1839 ـ 1916 من جهة العالية ببنزرت)... والأعمال الدرامية التلفزيونية على غرار مسلسل "قمرة سيدي محروس" الذي بثته التلفزة التونسية في رمضان 2002. 

الحزقي يختلف مع عدة باحثين تونسيين تطرقوا إلى "الباندي" ضمن تناولاتهم للهامشي والمنسي في الثقافة الشعبية التونسية فهو يذكر في هذا الباب الأول من الكتاب بأن الهادي التيمومي وضمن كتابه "تاريخ تونس الاجتماعي" "تجنّب استعمال كلمة باندي عند تعرضه إلى الفئات الشعبية والهامشيين في المدن والقرى، إذ تناول فئة اللصوص والمنحرفين وضم معهم الباندية دون إشارة صريحة (...) واستعرض أسماء باندية معروفين مثل علي شورب الذي سطع نجمه في الحلفاوين نهاية الخمسينات وعمر حوافر وحمدة الوسلاتي وعبد الكريم البهيم والطاهر غانجو والمنصف ولد السبانيورية وستيلا..".

تطرق الكاتب إلى زخم المعجم العامي التونسي بكلمات تحوم حول مدارات الباندي التونسي مثل: "الفصالة" و"القطعي" و"الباربو" و"الكلوشار".. لكن تأكد لديه أن كلمة باندي مرتبطة بالتواجد الإيطالي الصقلي والمالطي في تونس الذي سبق الاستعمار الفرنسي

تتفق الباحثة زينب الماجري مع التيمومي أيضًا في تصنيفه للباندية فمن خلال أطروحتها "الهامشيون في مدينة تونس من 1930 إلى 1956" تقسم الهامشيين إلى أربعة أصناف: صنف أول يجمع المنحرفين والمجرمين والمدمنين على المخدرات ومروجيها والمقامرين ومساجين الحق العام والباندية. وصنف ثان يضم المومسات واللوطيون. فيما ضم الصنف الثالث الهامشيين المقصيين وبعض الكادحين المنبوذين مثل المتسولين والمشردين والباعة الجوالين، أما الصنف الرابع فقد جسمته جماعة تحت السور التي مثلت نموذجًا للهامشيين المبدعين. ويضيف صاحب الكتاب بـ"أن الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية لم تهتم كفاية بسير باندية المدينة بالرغم من تفجر الاهتمام بالهامشيين مع مؤرخين وباحثين مثل الهادي التيمومي وعبد الواحد المكني ودلندة وعبد الحميد الأرقش وفتحي ليسير ولطيفة لخضر ومحمد كرو وزينب الماجري وبالقاسم بن عبد النبي وعادل بالكحلة..".

وفي خواتيم هذا الفصل الأول من كتاب "أجواد وأوغاد" يذكر الباحث هيكل الحزقي "بأن حضور الباندي يلتحم في عالم القاع مع صور لشخصيات ملحمية أخرى تغرف من التراث الصوفي والقصصي التاريخي وتختلط ببطولاتهم إلى حد التماهي متشبعًا بالخصوصية الثقافية والاجتماعية التونسية، تتقاطع صورة الباندي مع فكرة الولي الحامي القادمة من الثقافة الصوفية الشعبية والأولياء الصالحين والعلامات الصوفية التي تحرس رمزيًا المدينة..".

الفصل الثاني من الكتاب جاء تحت عنوان "الشكل المبكر لباندي المدينة: لخضر بالوحشية نموذجًا" وحاول من خلاله هيكل الحزقي النزول إلى الواقع اليومي وتقديم شخصية الباندي كما عايشه البعض وذلك من خلال روايات وشهادات حية فكان أن التقى الحقوقي والمناضل اليساري محمد صالح فليس ببنزرت ليحدثه عن "أسماء أيقونية" سمع عنها عندما كان نزيلًا بسجن 9 أفريل مثل شورب وسالم شاقور والطاهر غانجو.. لكنه خصّ شهادة خاصة بأحد البنادية القدامى وهو "الطاهر الشيحاوي" معتبرًا إياه ضمن الجيل القديم وسبق الأسماء المعهودة والشهيرة وقد ذكر كثيرًا ضمن روايات وأساطير السجن، ويبدو أن تحويرًا طال لقبه لكن الثابت والمقصود هو "الأخضر بن الوحشية" وهو "صاحب ماض عنيف في الحاضرة خلال ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر الذي أشار إليه البشير الزراقي خلال بحثه في أرشيف وثائق الضبطية في الحاضرة (الجريمة زمن الأزمة ـ جهاز شرطة مدينة تونس وجرائم القتل 1860 ـ 1881) وصنفه ضمن المجرمين الخطيرين وصاحب سوابق عنف في مدينة تونس". وحسب التقارير الأمنية لتلك الفترة الزمنية فإن الأخضر بن الوحشية يعد الاسم الأكثر تداولًا بين المشتبه فيهم فقد "تسيّد الحياة الليلية في المدينة.. وأحكم قبضته على الحانات" وحسب ما ورد في أحد التقارير "يجول الطبارن ويسأل الناس إعطاءه دراهم ليشرب بها الخمر، وأنه كل يوم وهو مخمور ويفتعل في الخصام مع الناس.. ويلاكش كل من يلاقيه".

يرى الحزقي في هذا الفصل من الكتاب أن شهادة محمد صالح فليس وبحوث البشير رازقي حملته إلى تساؤلات عديدة حول الكيفية التي تحول بها لخضر بالوحشية إلى نموذج مبكر لباندي الحاضرة في خصوصيته التونسية بوجهه النذل، وأيضًا ما الذي جرّد الباندي الذي ورث صورة بالوحشية من عنفه النذل ومنحه الهالة المؤسطرة التي رصعتها الذاكرة الجماعية؟

استعرض الكتاب أسماء "باندية" معروفين مثل علي شورب الذي سطع نجمه في الحلفاوين نهاية الخمسينات وعمر حوافر وحمدة الوسلاتي وعبد الكريم البهيم والطاهر غانجو والمنصف ولد السبانيورية..

الفصل الثالث من كتاب "أجواد وأوغاد ـ قصة الباندي التونسي" حمل عنوان "الباندي والمدينة" وضمنه نزل الكاتب هيكل الحزقي الباندي المديني داخل الحالة العنفية التي راكمتها الحياة اليومية التونسية لعقود طويلة "بدءًا من الحرب الأهلية والصراع الحسيني الباشي مرورًا بموجات من الأوبئة وبانتفاضة 1864 التي غيرت وضع الأرياف وخلقت حالة من الفوضى امتدت إلى الحواضر وصولًا إلى الصدمة الاستعمارية التي مزقت أوصال المجتمع وغيرت من شكل المدينة وعمرانها وأفشت الظلم والحيف فيها".

في هذا الفصل يطلعنا الحزقي على الصلة الوطيدة بين الباندي والرياضة وخصوصًا رياضة الملاكمة حيث يعتبر حي الملاسين المتاخم للعاصمة من الجهة الغربية أحد الأحياء الشعبية التي انتعشت فيها العلاقة الانصهارية بين الملاكمة والتبنديد، مع الإشارة إلى الدور الذي لعبه الباندية في علاقة بالجماهير الرياضية الخاصة بكرة القدم مع ذكر تفاصيل عديدة لشهادات هامة منها حادثة اصطحاب جمهور الترجي الرياضي التونسي أواسط الستينات للباندي علي شورب ابن الحلفاوين ومشجع النادي إلى بنزرت لتشجيع فريقه في مقابلة رسمية ضد النادي الرياضي البنزرتي "حينها كانت الحملة الحزبية مغرضة ضد مدينة بنزرت نتيجة تداعيات حرب الجلاء واستفراد بورقيبة بالقرار السياسي في تلك المعركة وانتقاله إلى تأليب الرأي العام ضد أهالي مدينة بنزرت خاصة بعد المحاولة الانقلابية سنة 1962.. الشحن الذي حصل داخل الملعب كان كافيًا ليتحول إلى معركة في شوارع المدينة" شارك فيها شورب لكن باندية بنزرت تصدوا له وأشهرهم الهادي الهذلي المعروف بـ"تانبالا" ومحمد بن منصر البجاوي المعروف بـ"البالة".

الفصل الرابع من الكتاب عنوانه "المخزن: مقام الباندي" وقد أثثه الباحث هيكل الحزقي بسرديات ورمزيات تحيط بظاهرة الباندي منها دور "المخزن" في هذا المشهد الجمالي الاجتماعي المتحرك "ارتبط المخزن بأشكال الحياة اليومية داخل الحي من سوق وتجارة وحركة.. وتكثفت رمزية المخزن مع الباندي حيث اشتهر العديد منهم بمخازنهم التي جمعت المريدين والندماء والأصدقاء وأبناء الحي وكانت لها طقوسها الخاصة المستوحاة أساسًا من إرث الحياة داخل المدينة ومن أركان الفيشتة التي أسستها الفتوة الصقلية. يجمع المخزن بين أركان الفيشتة والقعدة التي يشترك فيها الباندي مع ندمائه كما يرتبط بالحياة الاقتصادية للحي فقد كان علي شورب يبيع السمك في مخزنه في نهج سوق بالخير صباحًا ويحوله ليلًا إلى مكان للسمر ويجمعه برفقته وقد يضم المخزن الجميع الباندي والطبيب والأستاذ والعامل اليومي فيذيب الفوارق الطبقية والاجتماعية.. يضبط المخزن إيقاع الحياة اليومية للباندي ومجموعته من خلال فعالية القعدة التي ترسخ أسلوب التضامن..".

 

هيكل الحزقي كاتب تونسي وناقد في حقول الموسيقى وتقاطعاتها التاريخية مع السياقات السياسية والاقتصادية

 

ويذهب الحزقي في هذا الفصل من كتابه إلى تفسير العلاقة بين "المقنين" و"كبش النطيح" مشيرًا إلى "أنه مثلما ارتبطت الصعلكة والفروسية القديمة بالخيل تلازمت صورة الباندي بالمدينة مع الأكباش والعصافير التي يعتني بها داخل المخزن، مركز سيادته بالحي، يتطبع الباندي بطباع حيواناته المروضة ويلبسها شخصيته.. ولا غرابة أن يطلق على الهالة التي تحيط بالباندي وكاريزماه في العامية التونسية بالريشة إذ يرتبط المجاز بشكل قوي بطائر المقنين الذي يربيه الباندي في أقفاص توشح حائط المخزن وتصاحبه في قعداته داخل الحي بجانب أصائص الحبق والنعناع ومشموم الياسمين.." وفيما تعلق بعلاقته بالكبش فيذهب الباحث إلى "أن الباندي يقيم نوعًا من الإسقاط الرمزي على الكبش ويضحى صورة له في خيال الأهالي.. فالباندي كبش نطيح كبش محارب" يستعمل (مجتمع الغرام) كما يطلق على رعاية وصراع الأكباش مصطلح (الرجلة) للإشارة إلى الكبش المناطح العتيد "كما يحضر مصطلح باندية أيضًا للإشارة إلى أكباش المصارعة القوية وذات البأس في الميدان، فالأكباش أيضًا "ميدان متاع غرام واستبانديد" وهذه الجملة ضمنها الكاتب بشحنتها العاطفية العامية هي لجمال القروي وهو مربي أكباش معروف وباندي قديم..".

الفصل الخامس من الكتاب والمعنون بـ"الجسد المؤسطر للباندي وعلاماته" ينطلق الباحث هيكل الحزقي من شهادة حية لرؤوف عبد ربه وهو سجان سابق وصديق مقرب للهادي الشنوفي أحد الباندية التارخيين لحي باب الخضراء بالعاصمة تونس الذي تحدث عن استعادة الجسد بعد الخروج من الربطية وذلك ببناء بنيته من جديد "ليستعيد بذلك ريشته ويعود لفرض هيبته في الحي، وتتشكل ريشة الباندي من علامات ثابتة بداية من الجسد المؤسطر الذي يجسد الخوارق والخيال المؤيقن لصورة الباندي كما تتصوره الذاكرة الشعبية مرورًا باللباس والمشية والوشم وطريقة الكلام وفحواها التي توشحه بهالة من الوقار وتؤثث حضوره داخل مجال الحياة اليومية في المدينة.

الفصل السادس من الكتاب جاء تحت عنوان "مثلث الزندالي والمزود والباندية" وقد حاول الحزقي في بداية هذا الفصل تقديم لمحة تاريخية عن مأتى المزود وحضوره في تونس معتمدًا على عدة مراجع أجمعت على أن هذه الآلة وفدت من فزان بليبيا، أما عن ارتباط أغاني الزندالي (أغاني مزود السجن والزندالة هي تسمية تركية للسجن) بعالم السجون في تونس وتماسها مع عوالم الباندية والصعاليك والمساجين السياسيين فيرى الحزقي وهو الباحث المختص في مدارات الموسيقى الشعبية "أن تلك الأغاني تلقفت سرديات المساجين وتميزت بإيقاعات بسيطة اكتنزت مضامينها بحمولة من الشجن والوجع وعكست واقع السجون التونسية على اختلاف فترات الحكم كما استوعبت الأحداث الكبيرة التي هزت تاريخ البلاد، وقد تكفلت أغاني الزندالي بحفظها لذاكرة السجن وخصوصًا الغنائية منها كما انتقلت هذه الأغاني إلى خارج السجن واستقرت في الهامش مستوعبة إياه مروجة له".

يشير الكاتب إلى أن "حضور المرأة كان ضروريًا في حياة الباندي لأنسنة صورته، وتحتل الأم المكانة الأبرز إذ تزاحم رمزيًا مرتبة العلامات الصوفية التي يتبرك بها ويستجديها طلبًا للسكينة والقوة وتغذي لغته التواصلية والتعبيرية بمفردات الامتنان"

الفصل السابع والأخير من الكتاب خصصه الباحث للفتوة النسائية وتتطرق من خلاله إلى تشقيق هام في شخصية الباندي "حيث خضع أغلب الباندية إلى سيطرة حضور نسائي يوجههم ويحميهم من الانكسار ويلين صورهم.." ويشير الكاتب إلى "أن حضور المرأة كان ضروريًا في حياة الباندي لأنسنة صورته، وتحتل الأم المكانة الأبرز إذ تزاحم رمزيًا مرتبة العلامات الصوفية التي يتبرك بها ويستجديها طلبًا للسكينة والقوة وتغذي لغته التواصلية والتعبيرية بمفردات الامتنان والتضرع التي نجدها حاضرة بقوة في أغاني المزود وعالمه الملتصق بحياة الباندي استجداءً لدرء الوجع والضيم وتقلبات الزمن، فقد ترى الباندي يتغنى بوجع فقدان الأم أو الحبيبة ليظهر في صورة المقهور لا القاهر فيتفجر الضعف الذي كابد لإخفائه". ويضيف الحزقي في هذا الفصل بأنه "لا تكفي بطولة الباندي لتشكيل سيرته المؤسطرة فهي تحتاج إلى مرجعية أخلاقية لتستكمل شرطها الميثولوجي وتجدها في صورة الأم التي تحميه من السقوط المطلق".

إن كتاب "أجواد وأوغاد" للباحث هيكل الحزقي يمكن اعتباره كتابًا متأنّيًا ومؤسسًا جادًا لفهوم مجتمعي تونسي ظل شريدًا في التاريخ الاجتماعي المديني تتقاذفه اختصاصات شتى في العلوم الإنسانية لكنها لم تنصفه الإنصاف المطلوب لتمسح عنه غبار الأيام، وظل موسومًا بالعنيف والرديء والقاعي لعقود طويلة ومهمشًا ومقصيًا.

الكتاب قوّض الكتابات السابقة حول الباندي وأعاد ترتيب العناصر المتلبسة بهذه الظاهرة لمحاولة فهمها فهمًا مغايرًا وعرضها من جديد لتكون مدخلًا رئيسيًا عندما نروم ولوج عوالم الهامش الاجتماعي التونسي.

هيكل الحزقي جنح في كتابه البحثي "أجواد وأوغاد" إلى اللغة العاطفية الريانة الندية التي تجمع بين روح العلم وروح الشعر من خلال التشقيقات الوصفية والبلاغية مع بهارات العامية النزقة المفعمة بالحياة، ليبقى هذا الكتاب إزاء التاريخ الاجتماعي الهامشي والمهمش، يشرع على كتابات أخرى تنتظر من يلتقطها.

الكلمات المفتاحية

غياب كلي للمهن المجاورة للفنون التشكيلية في تونس

المهن المجاورة للفنون التشكيلية في تونس.. إجماع على غيابها وضرورة إحيائها

فنانون تشكيليون تونسيون يجمعون على أهمية المهن المجاورة للفنون التشكيلية في دفع حركة الفن في اتجاه النهوض بدوره الجمالي والفكري والحضاري في المجتمع


سجاجيد النجمة الزهراء.. عن المجموعة النادرة للبارون ديرلنجي

سجاجيد النجمة الزهراء.. عن المجموعة النادرة للبارون ديرلنجي

مجموعة السجاجيد والزرابي المعروضة في قصر النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد، هي واحدة من مجموعات أخرى جمعها البارون ديرلنجي من أسفاره ورحلاته أو وصلت إليه عن طريق أصدقائه ويصل عددها إلى 2600 قطعة


كروان الإذاعة عادل يوسف

كروان الإذاعة التونسية عادل يوسف.. كنز صوتي وتراث جدير بالاعتناء والتوظيف

الذكاء الاصطناعي كفيل إذا وجد مدوّنة صوتية طويلة ممتدّة متنوعة للشحرور عادل يوسف، أمكن له جعل صوته أميل إلى الخلود


معرض تونس الدولي للكتاب

 سرقة الكتب في معرض تونس الدولي للكتاب.. بين الأخلاق والإيديولوجيا

برزت ظاهرة غريبة منذ الدورات الأولى لمعرض تونس الدولي للكتاب تتمثل في "سرقة الكتب" من قبل طلبة وشباب محب للمطالعة حتى أنّ الأمر بات مقلقًا

التفويت في أرض بالدينار الرمزي لفائدة مدينة الأغالبة
سیاسة

مدينة الأغالبة الطبية.. تفويت بالدينار الرمزي في أرض دولية لإنجازها

رخصت وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية في التفويت بالدينار الرمزي في قطعة أرض دولية لفائدة مؤسسة مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان

تأجيل إضراب الفلاحة
مجتمع

تأجيل الإضراب العام في قطاع الفلاحة إلى هذا التاريخ

أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل عن تأجيل الإضراب العام في قطاع الفلاحة إلى يوم الأربعاء 20 أوت 2025 وذلك بعد جلسة صلحية انعقدت يوم الأربعاء 16 جويلية 2025 بمقر وزارة الشؤون الاجتماعية


غسان بن خليفة (1).jpg
میدیا

حكم بسجن الصحفي غسان بن خليفة لمدة 6 أشهر استنادًا لمجلة الاتصالات

جمعية تقاطع: الدائرة الجناحية 17 بمحكمة الاستئناف بتونس، قضت بإقرار الحكم الابتدائي القاضي بسجن الصحفي غسان بن خليفة لمدة 6 أشهر، استنادًا إلى الفصل 86 من مجلة الاتصالات

برمجة مهرجان صفاقس
ثقافة وفنون

تفاصيل برنامج الدورة 45 من مهرجان صفاقس الدولي

تنطلق فعاليات الدورة الخامسة والأربعين من مهرجان صفاقس الدولي بالمسرح الصيفي، وذلك من 21 جويلية إلى 19 أوت 2025، وتتضمن هذه الدورة باقة من العروض الفنية المتنوّعة

الأكثر قراءة

1
مجتمع

32 منظمة تطالب بوقف العرقلة الإيطالية لجهود الإنقاذ في البحر المتوسط


2
سیاسة

دعوات متعددة في تونس للاحتجاج يوم 25 جويلية 2025


3
مجتمع

عقوبات سجنية لمرتكبي العنف بالملاعب.. مقترح قانون يثير تخوفات في تونس


4
سیاسة

عبير موسي تحذر من استهدافها داخل السجن


5
میدیا

هيئة الدفاع: سنية الدهماني تواجه 5 قضايا تفتقر لحد أدنى من مقومات المحاكمة العادلة