قوارب تحوّلت إلى "توابيت" في تونس.. حين تتحول الموانئ إلى ذاكرة لرحلات الهروب
21 مايو 2025
على امتداد الشريط الساحلي، تتكدّس قوارب خشبية مُتهالكة في عدّة شواطئ وموانئ. لا شيء فيها ينبض بالحياة كأنّها توابيت لفظها البحر قبل أن يبتلع ما تبقى من أحلام رُكابها. هناك، انهارت أحلام مئات الشباب، وذبلت الأمنيات قبل أن تعبر البحر.
قوارب هي ليست بالأساس لبحارة أو صيادين، ولكنّها شواهد على خيبة أمل مئات من شباب تونس وغيرهم ممن عبروا الحدود البرية نحو هذا البلد، للهجرة إلى ضفة أوصدت جميع منافذها، وجنّدت حراسًا لحدودها البحرية، حيث تموت الأحلام عند أول موجة.
بعضهم باع كلّ ما يملك ليهاجر، لكن أحبطت آمالهم قبل الوصول إلى الضفة الأخرى. وباتت القوارب المكدّسة التي احتجزتها السلطات في عدّة شواطئ وموانئ، لا تحتاج إلى تعليق. تكفي نظرة واحدة لتدرك حجم مأساة آلاف الشباب الطامح في الهجرة.
مشارك في عمليات هجرة غير نظامية لـ"الترا تونس": في كلّ مرة يُضبط فيها قاربنا لا أشعر بالنجاة بقدر ما أشعر بالخذلان.. لم نستطع الهجرة سواء بطرق نظامية أو غير نظامية
"كنا نحلم فقط بعمل، بأيّ شيء، فقط حلمنا أن نعيش"، يقول أحدهم وهو يذكر بعض تفاصيل محاولته الهجرة. "كان الحلم بسيطًا، وانتهت أحلامنا على أرصفة باتت مقابر لقوارب احتجزتها السلطات وبقت شواهد على خيبات آمالنا وذاكرة لرحلات الهروب التي أحبطت، فلم نستطع الهجرة سواء بطرق نظامية أو غير نظامية". يضيف عبد الرحمان (اسم مستعار) في العقد الثالث من عمره، أنّه شارك منذ قرابة 3 سنوات في إحدى عمليات الهجرة غير النظامية. لكن تم إحباط العملية بعد إبحار قاربهم الذي يُقلّ حوالي عشرين شخصًا. لم يتعرّض للغرق ولكن الحرس البحري أعادهم إلى نقطة البداية.

جرّب عبد الرحمان بعدها المحاولة لكنّ في كلّ مرّة تحبط العملية بعد إبحار قواربهم بوقت وجيز. يذكر أنّ أول تجربة له انطلقت من شاطئ بصفاقس بمشاركة البعض من أفارقة جنوب الصحراء، فيما انطلقت بقية رحلاتهم من المهدية. يضيف "في كلّ مرة نُضبط فيها لا أشعر بالنجاة بقدر ما أشعر بالخذلان" وفق قوله.
المستودعات لا تستوعب القوارب المحجوزة
لا تتوفر مستودعات حجز كبيرة قد تستوعب كلّ القوارب التي يتم حجزها في عرض البحر من قبل إدارة الحرس الوطني. فتجدها مكدسة في الشواطئ وخصوصًا في بعض الموانئ.
في أحد موانئ المنستير، لاحظنا عددًا كبيرًا من تلك القوارب الصغيرة، لا أرقام عليها أو أسماء ولا هوية. لأنّها على ما يبدو صُنعت بطرق غير قانونية في مستودعات عشوائية. ففي بعض الأحيان تُسّجل السفن من قبل مصالح الحرس البحري في كلّ منطقة من أجل ضبط عددها وتحديد قائمة بأصحابها من الصيادين ممن يحصلون عادة على تراخيص مسبقة من قبل وزارة الفلاحة.
وبحسب القانون، فإنّ تسجيل سفينة بصدد الصنع بالبلاد التونسية يخضع إلى "مصادقة اللجنة المركزية لضمان السلامة أو شهادة مطابقة الصنع أو ما يفيد إيداع الملف الفني لدى اللجنة المركزية ضمان السلامة. إلى جانب ترخيص في الصنع من قبل وزارة الفلاحة والموارد المائية بالنسبة لسفن الصيد التي يفوق حجمها 0.5 طن، ومعاينة انطلاق أشغال صنع السفينة من قبل السلطة البحرية، ووثيقة الاتفاق من الاشتراك في الملكية عند الاقتضاء، وتصريح بصنع سفينة يحمل إمضاء المعرّف".
ومن دون ذلك يُعتبر صاحب المركب أو القارب مخالفاً للقانون، وذلك من أجل التصدّي لظاهرة امتلاك المراكب والقوارب والاتّجار بها خارج الأطر القانونية، أو استعمالها في عمليات الهجرة السرّية، أو بيعها لمنظمي هذه الرحلات.
لكن كثيرًا ما تُعلن الإدارة العامة للحرس الوطني عن الكشف عن ورش عشوائية لصناعة قوارب مُعدّة للهجرة غير النظامية. وقد اكتشفت عدداً منها خلال السنوات الأخيرة، في غابات قريبة من البحر أو شواطئ بعيدة عن التجمعات السكانية. كما تم اكتشاف العديد من القوارب الحديدية وليس الخشبية، نظرًا لصعوبة الحصول على الخشب الكافي، إضافة إلى ارتفاع تكلفته مقارنة بتكلفة تلك التي لا يحتاج فيها المصنعون سوى بعض ألواح القصدير.
بحار بالمنستير لـ"الترا تونس": جميع الصيادين يملكون قوارب تحمل أرقامًا معينة وأسماء، وهي معلومة غالبًا لدى مصالح الحرس البحري كإجراء أمني
يقول أحد البحارة الذين التقيناهم في ذلك الميناء إنّ "جميع الصيادين يملكون قوارب تحمل أرقامًا معينة وأسماء، وهي معلومة غالبًا لدى مصالح الحرس البحري كإجراء أمني، وذلك للتصدي للقوارب التي تستعمل بطرق عشوائية أو تُباع خلسة لمنظمي رحلات الهجرة غير النظامية. والعديد من السفن التي ركنت هنا تم حجزها بعد إحباط عدّة عمليات هجرة غير نظامية. وهي مراقبة حتى لا يقع سرقتها مرّة أخرى لاستعمالها في عمليات هجرة سرية".
أرقام صادمة لمفقودين وغرقى حاولوا اجتياز الحدود خلسة
في ماي/أيار العام الماضي صرّح وزير الداخلية السابق كمال الفقي أنّ 52972 شخصا حاولوا منذ بداية عام 2024 اجتياز الحدود البحرية خلسة نحو الفضاء الأوروبي انطلاقًا من السواحل التونسية، بينهم 48765 أجنبيًا (92 بالمائة).
كما بلغ عدد العمليات التي تم إحباطها خلال نفس الفترة 3369 عملية وتعرض 103 مراكب للغرق ووقع انتشال 341 جثة، منها 336 تعود لأجانب.
وأضاف الفقي، في كلمته التي ألقاها بمناسبة افتتاح "الملتقى العربي للحدّ من تهريب المهاجرين وتعزيز مسار الهجرة الآمنة والنظامية"، الذي نظمته وزارة الداخلية بالتعاون مع جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية والمنظمة الدولية للهجرة، أنّ عدد المجتازين الذين تمّ انقاذهم في البحر بلغ 4336 شخصا، بينهم 4243 أجنبيا، أي بمعدل 98 بالمائة.
وتمكنت القوى الأمنية والعسكرية عبر الحدود البحرية من ضبط 595 وسيطا ومنظما لرحلات الهجرة غير النظامية، وحجز 429 مركبا وزورقا معدا للغرض، وفق ذات المصدر.
كما بلغ عدد العمليات التي تم إحباطها خلال نفس الفترة 3369 عملية وتعرض 103 مراكب للغرق ووقع انتشال 341 جثة، منها 336 تعود لأجانب.
وقال الفقي "إنّ ظاهرة الهجرة غير النظامية ترتبط ارتباطا وثيقا بجريمتي الاتجار بالأشخاص وتهريب المهاجرين، التي أصبحت تديرها شبكات دولية متخصصة"، مبينا أنه "تأكد للجميع تقاطعها مع جرائم أخرى على غرار الإرهاب وتهريب المخدرات وتجارة الأسلحة وتبييض الأموال وغيرها".
على صعيد آخر اعتبر أن ظاهرة الهجرة غير النظامية "غير طبيعية وغير انسانية، تتطلب التفكير في ضبط مقاربة واقعية شاملة متعددة الأبعاد تقوم بالأساس على القضاء على الأسباب لا على محاولة معالجة النتائج، بما يخدم مصلحة الشعوب ويضمن أمنها واستقرارها".

وكانت المنظمة الدولية للهجرة، قد أكدت بتاريخ 21 مارس/آذار 2025، أنّ ما لا يقل عن 8938 شخصًا لقوا حتفهم على طرق الهجرة في جميع أنحاء العالم في عام 2024، مما يجعله العام "الأكثر دموية على الإطلاق"، وفقًا لبيانات جديدة جمعتها المنظمة.
وقالت المنظمة، في بيانات عام 2024، إنّه "تم توثيق 2452 حالة وفاة في البحر الأبيض المتوسط خلال عام 2024"، معقّبة: "على الرغم من أن هذا الرقم ليس الأعلى على الإطلاق، إلا أنه يعكس الحاجة الماسة إلى أنظمة بحث وإنقاذ فعالة، بالإضافة إلى توفير طرق هجرة آمنة ومنتظمة كبديل لهذه الرحلات المحفوفة بالمخاطر"، حسب تقديرها.
هي مجرّد أرقام تعودناها سنويا، لكنّها أرقام تصوّر حجم تلك الرحلات التي بدأت طريقها في قوارب صغيرة، لكنّها باتت اليوم ذاكرة لعمليات الهروب في عدّة موانئ. وتحمل أسرار رحلات أحبطت خلال السنوات الأخيرة وأحبطت معها آمال تعلّقت بتلك القوارب التي كان المهاجرون يرون فيها النجاة إلى ضفة قد تحقق أحلامهم.
الكلمات المفتاحية

%90 من التونسيين لا يجرون فحص الزواج.. شهادات حيّة وأطباء يكشفون لـ"الترا تونس" العواقب
روت منال قصصًا عديدة لـ"الترا تونس" جعلت "حياتها جحيمًا"، وفق قولها، بعد أن اكتشفت صدفة أنها حاملة لهذا المرض الذي كان سببه عدوى من زوجها

"كارثة بيئية" في خليج المنستير.. دعوة لإعلان حالة طوارئ بيئية وتحذير من مخاطر صحية
مختص في الشأن البيئي والمناخي: هذه الظاهرة قبالة سواحل قصيبة المديوني تعدّ إنذارًا بيئيًا حقيقيًا والمقلق هو التأثيرات المحتملة على الكائنات البحرية والمخاطر الصحية الممكنة على الإنسان

"لا أعرف القراءة والكتابة".. الأمية تطارد نساء تونس
مئات النساء التونسيات يعانين من الأمية، تحدثت بعضهن لـ"الترا تونس" عن أسباب حرمانهن من التعلم، خاصة وأن معظمهن يعشن في ولايات تعاني من انتشار الفقر وغياب التنمية

جربة جرجيس.. الوجهة السياحية الأولى في تونس
المندوب الجهوي للسياحة: المنطقة السياحية سجلت ارتفاعًا في أعداد الوافدين بنسبة 19.7% والليالي المقضاة بنسبة 15.7%

رصد المد الأحمر في سواحل المنستير.. وزارة الفلاحة تحذّر البحارة والمتساكنين
سبق أن طالب الأهالي ومختصون في الشأن البيئي والمناخي السلطات المعنية بالتحرك سريعًا لتفادي أي مخاطر ممكنة على صحة المتساكنين

النادي الإفريقي.. فوز قائمة محسن الطرابلسي في انتخابات الهيئة المديرة
فوز قائمة محسن الطرابلسي وهي القائمة الوحيدة المترشحة لعضوية ورئاسة الهيئة المديرة للنادي الإفريقي بعد حصولها على نسبة 92.28%من الأصوات

النهضة: الحكم بالسجن ضدّ الصحبي عتيق جائر وهو حكم سياسي جاهز
حركة النهضة تعتبر أن الحكم بالسجن لمدة 15 سنة ضد الصحبي عتيق ومنصف العمدوني هو "حكم سياسي جاهز وجائر"