مجتمع

قصة ترامواي تونس

12 مايو 2025
ترامواي تونس
في تونس يمكن اعتبار عملية إزالة خطوط الترامواي في سنة 1961 وما تلاها اعتداءً على الذاكرة فلم يبقَ لنا منها سوى بعض الصور الفوتوغرافية القليلة (ويكيبيديا)
رمزي العياري
رمزي العياريصحفي من تونس

في لحظة تصفح لكتاب "العاصمة تونس، من مدينة إلى أخرى، كارتوغرافيا وتاريخ حضري من 1860 إلى 1933" لصاحبته الدكتورة ليلى عمار أستاذة الهندسة والتعمير بالجامعة التونسية والمؤرخة لتاريخ الهندسة المعمارية والتهيئة العمرانية في تونس، وأنا أنظر في كمية الخرائط  الرائعة المرفقة على حده بالكتاب والتي تبرز جليًا التوسع الحضري الذي شهدته مدينة تونس خارج أسوارها بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، لفت انتباهي طول وتعرّج الخطوط الحمراء التي ترمز في الخرائط إلى سكة "الترامواي" التي كانت تصل الحاضرة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها مؤمّنةً رحلات نقل مريحة للسكان في مشهد حداثي نادر تثبته الصور واللقطات الوثائقية المصورة المتداولة عن تلك المرحلة. 

الغلاف الخارجي لكتاب "العاصمة تونس، من مدينة إلى أخرى، كارتوغرافيا وتاريخ حضري من 1860 إلى 1933"

لكن، هل لا تزال خطوط الترامواي الكهربائية الحديدية قائمةً إلى اليوم في العاصمة تونس، كشاهد حي على ذاكرة اجتماعية غنية بالرموز والدلالات الأنثروبولوجية، وكتوثيق لتاريخ النقل الحضري فيها؟ الإجابة هنا بسيطة وواضحة، لقد اندثرت تمامًا وحملت معها كل القصص ولم يبقَ منها سوى بعض الذكريات. 

كانت خطوط "الترامواي" في تونس في النصف الأول من القرن 19 والنصف الأول من القرن 20 تصل الحاضرة من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها مؤمّنةً رحلات نقل مريحة للسكان في مشهد حداثي نادر 

"الترامواي" اخترعه الضابط الأميركي والمهندس السابق بالقوات البحرية الأميركية  "فرانك جوليان سبراغ" واعتُبرت تجربته تطويرًا لمحاولات المهندس البريطاني "جورج ستيفتسون" سنة 1815. وظهر الترامواي لأول مرة سنة 1883 في معرض شيكاغو الدولي كوسيلة نقل عمومي حضري تسير على سكة حديدية وبطاقة الكهرباء المعلقة بواسطة أعمدة، وكان الهدف منه التخلي عن المقطورات المجرورة بواسطة الخيول. 

خريطة خطوط التراماوي في تونس سنة 1885 (من كتاب"العاصمة تونس، من مدينة إلى أخرى، كارتوغرافيا وتاريخ حضري من 1860 إلى 1933")

ومع نهايات القرن التاسع عشر، انتشر "الترامواي" في كل أنحاء العالم كوسيلة نقل فخمة تدل على الرقي والتحضر. وحمل تسمية الترامواي في أكثر من بلد وخصوصًا البلدان الأوروبية، لكنه حمل أيضًا تسميات محلية في بعض الدول العربية التي كانت سباقة في استعماله مثل مصر، العراق، الجزائر، المغرب.. ونذكر من تلك التسميات التي لا تزال متداولة إلى اليوم  "الترام" و"الطرام" و"الترماي" و"التروماي"، وغيرها.

وتعتبر مدينة "ميلبورن" الأسترالية إحدى أقدم المدن في العالم التي وضعت شبكةً للترامواي لا تزال تعمل إلى اليوم وتمتد على 250 كلم على مسار مزدوج مع 1700 محطة وأكثر من 500 عربة قيد الاستخدام وتوفّر أكثر من 200 مليون رحلة سنويًا.

وفي تونس بدأت أنشطة القطارات ومد السكك الحديدية قبل الاستعمار الفرنسي، ففي 31 أوت/أغسطس 1872 أي في فترة حكم المشير محمد الصادق باي الحسيني الممتدة من 1859 إلى 1882 تم إحداث "الشركة التونسية للسكك الحديدية" والتي أنشأت خط السكة الحديدية بالضاحية الشمالية للعاصمة الرابط  في مرحلة أولى بين تونس وحلق الوادي سنة 1872، ثم خط تونس باردو في مرحلة ثانية سنة 1873، تلاه خط حلق الوادي المرسى في مرحلة ثالثة سنة 1874. 

 برز "الترامواي" كأهم وسيلة نقل للأفراد داخل المدن معوّضًا المقطورات المجرورة بالحيوانات، وأسوةً بالنُّقلة التي شهدتها أوروبا على مستوى النقل الحضري ونقل البضائع تم سنة 1882 بتونس بعث شركة "ترامواي تونس"

لم تعمّر "الشركة التونسية للسكك الحديدية" طويلًا إذ تمّ التخليّ عنها لصالح شركة فرنسية تنشط بالجزائر وهي "شركة السكك الحديدية بون قالمة" التي تولت سنة 1876 إنشاء واستغلال خط المرسى العوينة، وفي سنة 1880 عبرت ذات الشركة للسلطات التونسية عن استعدادها لإبرام عقد لزمة لاستغلال الخط الحديدي الرابط بين تونس العاصمة ورادس بالضاحية الجنوبية.

خريطة خطوط التراماوي في تونس سنة 1890 (من كتاب"العاصمة تونس، من مدينة إلى أخرى، كارتوغرافيا وتاريخ حضري من 1860 إلى 1933")

ومع الاستعمار الفرنسي لتونس سنة 1881، تغيرت العديد من المعطيات السياسية والاقتصادية داخل البلاد حيث شرعت فرنسا في التخطيط لمستقبل البلاد جنبًا إلى جنب مع التونسيين في انتظار التفرد بالقرارات السيادية بما في ذلك ملف السكة الحديدية والنقل الحضري ومخططات المدن، حيث ألغت القيادة الفرنسية بتونس بعد إمضائها مباشرة لمعاهدة باردو طلب عقد لزمة استغلال لشبكة نقل داخل العاصمة تونس مجرورة بالحيوانات كان تقدم به المستثمر الإيطالي فرانسيسكو غاريبالدي

وفي تلك اللحظة التاريخية برز "الترامواي" كأهم وسيلة نقل للأفراد داخل المدن في العالم معوّضًا المقطورات المجرورة بالحيوانات. وأسوةً بالنُّقلة التي شهدتها أهم المدن الأوروبية على مستوى النقل الحضري ونقل البضائع تم سنة 1882 بتونس بعث شركة خفية الاسم "ترامواي تونس" التي أرست شبكة متطورة بها خمسة خطوط: خط يربط باب الجديد بباب البحر مرورًا بباب الجزيرة، وخط يربط باب البحر بباب سويقة مرورًا بباب قرطاجنة، وخط يربط باب الجديد بباب سويقة مرورًا بالقصبة، وخط ممتد من باب البحر على طول شارع بورقيبة حاليًا، وخط يربط باب البحر بباب الخضراء.

أول خط ترامواي في باب البحر

 

وفي سنة 1885 دخلت "الشركة العامة الفرنسية للترامواي" على الخط وقد منحتها السلطات التونسية الفرنسية رخصة استغلال ثلاثة خطوط: الخط الأول يربط المسلخ البلدي بالوردية بجهة بلفدير، والخط الثاني مرتبط بالأول ويصل إلى محطة تونس البحرية، والخط الثالث مرتبط هو الآخر بالأول ويصل إلى ساحة باب سويقة (المدق) عبر شارع لندرة حاليًا.

وقدمت هذه الشركة خدمات تشبه الخدمات التي تقدمها بفرنسا الأمر الذي جعل "مدينة تونس" تشتري الشبكة العامة التابعة للشركة الخفية الاسم "ترامواي تونس" وتحيلها حسب اتفاقية مشتركة للشركة العامة الفرنسية للترامواي والتي أصبحت خلال الخمسين سنة الأولى من القرن العشرين أهم متدخل في قطاع النقل في مدينة تونس فقامت بتوسيع الشبكة وكهربة كل الخطوط. 

وقُبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى (بين 1905 و1913) تولت الشركة إحداث الخط الحديدي الرابط بين باب سعدون ومنوبة وهي المدينة التي تسكنها العائلة المالكة في ذلك الوقت، وبعث الخط الحديدي تونس جبل الجلود. 

خط ترامواي في باب البحر

وفيما بين الحربين بدأ عهد "الأوتوبيس" ثم "الترولي بيس" (وهي حافلات مكهربة) وكانت ساحة روما بالعاصمة المكان الرئيسي الذي تنطلق منها الحافلات الجديدة عبر الخطوط: ساحة روما ميتيال فيل، ساحة روما فرانس فيل، ساحة روما مونفلوري، ساحة روما ساحة باستور..

مع بداية خمسينيات القرن العشرين تغير وضع النقل الحضري في تونس نتيجة رواج السيارات الخاصة وتنافس الشركات المنتجة لوسائل النقل الفردية الجديدة

مع بداية خمسينيات القرن العشرين تغير وضع النقل الحضري في العاصمة تونس وباقي المدن التونسية الأخرى نتيجة رواج السيارات الخاصة وتنافس الشركات المنتجة لوسائل النقل الفردية الجديدة، فانسحبت الشركة الفرنسية للترامواي وتغيّر اسم شركة ترامواي تونس ليصبح "الشركة التونسية للكهرباء والنقل" وذلك سنة 1953. ونزولًا عند طلب بلدية تونس قامت الشركة الجديدة سنة 1955 بتعويض شبكة الترامواي كاملة بالأوتوبيس.

 

اختفاء الترامواي

وبدايةً من سنة 1960 اختفى الترامواي من تونس وبقيت ذكراه تلوح في الشوارع التي كان يقطعها على مدار اليوم حاملًا التونسيين إلى أماكن تنقلهم. 

بدايةً من سنة 1960 اختفى الترامواي من تونس وبقيت ذكراه تلوح في الشوارع التي كان يقطعها وفي سنة 1961 بقرار مفاجئ من قبل بلدية تونس تمت إزالة سكة الترامواي وردم جزء كبير منها تحت الإسفلت

وفي سنة 1961 وبقرار مفاجئ من قبل بلدية تونس بإعادة تهيئة شوارع العاصمة شمل توسيعات للطرقات وتنظيم الأرصفة على نحو أجمل وبعث حدائق عمومية، تمت إزالة سكة الترامواي وردم جزء كبير منها تحت الإسفلت الأسود الجديد الذي غطى الحجارة البيضاء التي كانت تبلط أغلب الشوارع، وسط استنكار كبير من أهالي العاصمة الذين رأوا في  خطوط  "الترامواي" جزءًا من ذاكرتهم وشاهدًا على قصصهم الاجتماعية التي عاشوها وهم يتنقلون إلى أماكن عملهم أو الأسواق..  واعتبروا ذلك انتهاكًا صارخًا لتاريخ النقل الحضري وللتاريخ الاجتماعي والسياسي  التونسي..

سكة ترامواي في باب الخضراء

 

حادثة الترامواي الشهيرة

 لا تزال ذكرى حادثة الترامواي الشهيرة التي حدثت في بداية فيفري/شباط 1912 عالقةً في أذهان التونسيين، وهي مدرجة في برامج التعليم في قسم  تاريخ تونس المعاصر. ويعتبر  التونسيون هذه الحادثة جزءًا من تاريخهم النضالي ضد الاستعمار الفرنسي والاستيطان الأوروبي بتونس لعقود طويلة قاموا فيها بالاعتداء على تونس وعلى أهلها ونهبوا مكتسباتها ومقدراتها.

وتمثلت حادثة الترامواي في دهس سائق إيطالي لطفل تونسي بكل غطرسة، فانتفض التونسيون بكل قوة كردٍّ وجيه على هذا السلوك واعتبروا عملية الدهس تلك حادثة أفاضت كأسًا امتلأ بممارسات الاحتقار التي كان يمارسها السواق الأجانب للترامواي على أبناء الأرض وأيضًا ضد ممارسات شركة الترامواي الفرنسية التي كانت تحتقر العملة التونسيين.

ارتبطت حادثة الترامواي في أذهان التونسيين بحدوث أول عملية مقاطعة يقوم بها التونسيون على مر تاريخهم النضالي ضد المستعمر قادها "علي باش حانبه" زعيم حركة الشباب التونسي

وارتبطت حادثة الترامواي في أذهان التونسيين بحدوث أول عملية مقاطعة يقوم بها التونسيون على مر تاريخهم النضالي ضد المستعمر قادها "علي باش حانبه" زعيم حركة الشباب التونسي، حيث قام شباب الحركة يوم 9 فيفري/شباط 1912  بتوزيع مناشير على الأهالي تدعوهم إلى مقاطعة خطوط الترامواي، كما ساندت الحركة هذا التحرك عن طريق صحيفتها "التونسي"، الأمر الذي حدا بالسلطات الفرنسية إلى الاستنفار وهي التي خرجت لتوها من أحداث الجلاز فكان أن دعت وزير القلم آنذاك الطيب الجلولي والزعيم علي باش حانبه للحوار والحد من تأجيج الوضع الشعبي.

يبقى "الترامواي" كوسيلة نقل للأفراد والبضائع علامة تحضر وتقدم مدينية ضمن مسارات تاريخية واضحة، لكنه في نفس الوقت ملمح اجتماعي وحمّال أوجه جمالية وثقافية وشعرية وتواصلية، قابل للدراسات الإناسية والتاريخية. وتقريبًا أغلب الشعوب أبقت على خطوط الترامواي أو جزء منها كشاهد على ذاكرة المدينة وتم استغلالها سياحيًا وثقافيًا، أمّا في تونس يمكن اعتبار عملية إزالة خطوط الترامواي في سنة 1961 وما تلاها اعتداءً على الذاكرة فلم يبقَ لنا منها سوى بعض الصور الفوتوغرافية القليلة.

المصادر: 

  • كتاب "العاصمة تونس، من مدينة إلى أخرى، كارتوغرافيا وتاريخ حضري من 1860 إلى 1933" للدكتورة ليلى عمار
  • برنامج "وثائق وحقائق" بالإذاعة الثقافية: "التوسع الحضري لمدينة تونس"
     

الكلمات المفتاحية

الإيدز السيدا في تونس.jpg

%90 من التونسيين لا يجرون فحص الزواج.. شهادات حيّة وأطباء يكشفون لـ"الترا تونس" العواقب

روت منال قصصًا عديدة لـ"الترا تونس" جعلت "حياتها جحيمًا"، وفق قولها، بعد أن اكتشفت صدفة أنها حاملة لهذا المرض الذي كان سببه عدوى من زوجها


قصيبة المديوني منتدى الحقوق

"كارثة بيئية" في خليج المنستير.. دعوة لإعلان حالة طوارئ بيئية وتحذير من مخاطر صحية

مختص في الشأن البيئي والمناخي: هذه الظاهرة قبالة سواحل قصيبة المديوني تعدّ إنذارًا بيئيًا حقيقيًا والمقلق هو التأثيرات المحتملة على الكائنات البحرية والمخاطر الصحية الممكنة على الإنسان


الأمية تطارد نساء تونس

"لا أعرف القراءة والكتابة".. الأمية تطارد نساء تونس

مئات النساء التونسيات يعانين من الأمية، تحدثت بعضهن لـ"الترا تونس" عن أسباب حرمانهن من التعلم، خاصة وأن معظمهن يعشن في ولايات تعاني من انتشار الفقر وغياب التنمية


حرائق الحماية المدنية.jpg

189 حريقًا في يوم واحد في تونس ومختص لـ"الترا تونس": 95% منها لأسباب بشرية

تدخلت وحدات الحماية المدنية لإطفاء 189 حريقاً في مناطق مختلفة من البلاد خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية من الساعة السادسة صباحًا يوم 17 جوان/يونيو إلى السادسة صباحًا يوم 18 جوان/يونيو 2025

جربة فتحي بلعيد أفب Getty
اقتصاد

جربة جرجيس.. الوجهة السياحية الأولى في تونس

المندوب الجهوي للسياحة: المنطقة السياحية سجلت ارتفاعًا في أعداد الوافدين بنسبة 19.7% والليالي المقضاة بنسبة 15.7%

قصيبة المديوني منتدى الحقوق
مجتمع

رصد المد الأحمر في سواحل المنستير.. وزارة الفلاحة تحذّر البحارة والمتساكنين

سبق أن طالب الأهالي ومختصون في الشأن البيئي والمناخي السلطات المعنية بالتحرك سريعًا لتفادي أي مخاطر ممكنة على صحة المتساكنين


النادي الإفريقي
منوعات

النادي الإفريقي.. فوز قائمة محسن الطرابلسي في انتخابات الهيئة المديرة

فوز قائمة محسن الطرابلسي وهي القائمة الوحيدة المترشحة لعضوية ورئاسة الهيئة المديرة للنادي الإفريقي بعد حصولها على نسبة 92.28%من الأصوات

حركة النهضة انتخابات المجالس المحلية في تونس القايدي.jpg
سیاسة

النهضة: الحكم بالسجن ضدّ الصحبي عتيق جائر وهو حكم سياسي جاهز

حركة النهضة تعتبر أن الحكم بالسجن لمدة 15 سنة ضد الصحبي عتيق ومنصف العمدوني هو "حكم سياسي جاهز وجائر"

الأكثر قراءة

1
سیاسة

أشاروا إلى "فراغ مؤسسي".. نواب يقترحون تنقيح قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين


2
مجتمع

"قافلة الصمود عادت بقوة السلاح".. وائل نوار يكشف وقائع ما حدث في شرق ليبيا


3
مجتمع

%90 من التونسيين لا يجرون فحص الزواج.. شهادات حيّة وأطباء يكشفون لـ"الترا تونس" العواقب


4
منوعات

حليب الإبل.. دواء واستثمار وثروة تونسية متعددة الاستخدامات


5
مجتمع

"كارثة بيئية" في خليج المنستير.. دعوة لإعلان حالة طوارئ بيئية وتحذير من مخاطر صحية