24-سبتمبر-2024
ظاهرة التاكسي موتو في تونس.. أو الهامش الذي يسابق الريح

سائق "تاكسي موتو" لـ"الترا تونس": من بين زملائي أصحاب شهائد جامعية، ومنهم المتزوج وربّ أسرة

 

لا فرق في تونس بين النقل العمومي الحضري والنقل العمومي الخاص.. كلاهما تحت سماء فوضى سوريالية الملامح: أساطيل مهترئة ومتقادمة ومتسخة تملأ الطرقات وِحشة وقبحًا، وخدمات سيئة إلى المنتهى، والقوانين المنظمة لهذا القطاع الحيوي طيّ الرفوف لا يبالي بها أحد. وتحت هذه السماء، يقف المواطن في العراء وفي يده يقين واحد وحقيقة صارخة واضحة تتجلى في الانتظارات المقيتة والوقت المهدور والزحمة القاتلة المبيدة للروح والمنهكة للجسد.. تحت هذه السماء، لا أحد يصل إلى عمله في الوقت المحدد: التأخير ثم التأخير ولا شيء غير التأخير.

في إطار فوضى النقل في تونس، برز "التاكسي موتو"، أو النقل الفردي بواسطة الدراجات النارية، الذين ينتشرون في نقاط بعينها، تحت القناطر وبالساحات العمومية وقرب محطات المترو والحافلات

في زحمة هذه الفوضى التي تعمّ قطاع النقل الحضري في العاصمة (تونس الكبرى) وأيضًا في المدن الرئيسية الأخرى على غرار صفاقس ونابل وقابس وسوسة وبنزرت والقيروان.. ينشط سماسرة ووسطاء النقل في الأحواز والضواحي ذات الكثافة السكانية واستحوذوا على جزء هام من جغرافيا النقل سواء من قبل أفراد أو مجموعات في ظل غياب ولا مبالاة الدولة. فانتشرت المحطات والمواقف العشوائية التي تنقل المواطنين الذين سئموا الانتظار في محطات المترو والقطارات والحافلات.

وقد شهدت العاصمة تونس وضواحيها في السنوات الأخيرة هجمة مباغتة لـ"التاكسي الجماعي" والذي تم تقنين وجوده بعد التأكد الواضح من إسهامه في تذليل مآسي تردّي خدمات النقل الحضري، لكنه بقي إلى حدّ اليوم من غير محطات محميّة تحفظ سلامة الجميع، حيث نجدهم منتشرين بسياراتهم المستطيلة ذات اللون الأصفر القاني كقطع الدومينو تحت القناطر وفي منعطفات الشوارع الرئيسية ويستغلون أجزاء من الأرصفة والساحات العمومية والحدائق والمناطق الخضراء.

 

سليم سائق "التاكسي موتو"
سليم سائق "تاكسي موتو": أنا خرّيج إحدى مؤسسات التكوين المهني العالي وأحمل شهادة "تقني سامي" لكني بقيت في حالة بطالة

 

لكن الظاهرة الجديدة تحت سماء فوضى النقل في تونس هي "التاكسي موتو" أو "التاكسي سكوتر" أو النقل الفردي بواسطة الدراجات النارية، ينتشرون في نقاط بعينها: تحت قنطرة شارل نيكول وبساحة الباساج وبساحة برشلونة، أما النقطة الأهم فتوجد قرب حديقة باب الخضراء ليس بعيدًا عن محطتي المترو والحافلات.

"الترا تونس" تنقّل في إحدى الصباحات إلى نقطة "التاكسي موتو" هذه بباب الخضراء، فوجد أكثر من عشر دراجات نارية من "ماركة" آسيوية معروفة راكنة فوق رصيف صغير في تقاطع السكة مع الطريق المؤدية إلى قوس باب الخضراء.

أغلب سائقي الدراجات التاكسي هم من الشباب، الذين يتصيّدون من يبحث عن "توصيلة" سريعة بعد يأس من قدوم الحافلة أو المترو فسرعان ما يتم التفاوض ويمتطي الزبون خلف السائق ويطيرا معًا

أغلب سائقي هذه الدراجات التاكسي هم من الشباب، يقفون طيلة اليوم تحت الشمس في انتظار الزبائن، تراهم يضعون حقائب صغيرة في جنباتهم كعلامة على امتهانهم هذه المهنة الجديدة ويتحدثون بأصوات صاخبة لافتة للانتباه، إنهم يصنعون نوعًا من الزحمة المرورية خصوصًا عندما يندفعون بدراجاتهم النارية في الاتجاهات المعاكسة.. يأتي شباب مثلهم يبحث عن "توصيلة" سريعة بعد يأس من قدوم الحافلة أو المترو فسرعان ما يتم التفاوض ويمتطي الزبون خلف السائق ويطيرا معًا في اتجاه الريح.

وفي لحظة فارقة، وبعد تردد دام للحظات قصيرة، قرّرت امتطاء "تاكسي موتو" من باب الخضراء في اتجاه مدينة منوبة، تواصلت مع "سليم" وهو أحد الشباب المشتغل بهذه المهنة الجديدة، سرعان ما قدم العرض المالي لهذه الرحلة فوافقت مباشرة ووجدتني محمولًا على بساط الريح، طلبت من "سليم" التريّث أثناء السياقة وعدم المجاوزة واحترام إشارات المرور.

سليم (سائق "تاكسي موتو") لـ"الترا تونس": لأسباب مجهولة، تلاشت شركة استحدثت فكرة التاكسي سكوتر في تونس، لكن بعض العاطلين طاردوا هذه الفكرة شريدة وبدأوا في العمل من دون تراخيص قانونية

طيلة الطريق تجاذبنا أطراف الحديث، فعلمتُ من سليم أن "التاكسي موتو" انطلق في تونس رسميًا منذ ثلاث سنوات خلت، عن طريق شركة كان وجودها قانونيًا واستحسن الجميع فكرة هذه الخدمة التي كان هدفها تخفيف وطأة رداءة النقل العمومي فكان لونها البرتقالي مميزًا في طرقات العاصمة وضواحيها.. لكن ولأسباب مجهولة تلاشت الشركة وبقيت الفكرة شريدة فطاردها العديد من الشباب العاطل وبدأوا في العمل من دون تراخيص قانونية تذكر.

 

1
نقطة "تاكسي موتو" بباب الخضراء، تضمّ عددًا من الدراجات النارية تركن فوق رصيف صغير في تقاطع السكة مع الطريق المؤدية إلى قوس باب الخضراء

 

وأكد سليم أنّ أغلب زملائه من سواق "التاكسي موتو" يبحثون عن "الرزق الحلال، بكدّ اليمين وعرق الجبين"، موضحًا أن من بينهم أصحاب شهائد جامعية، ومنهم من هو متزوج و"يجري على عايلة" على حد قوله.

وأشار الشاب سليم إلى أن شباب "التاكسي موتو" يحاولون التنظم من خلال تقديم مطالب رسمية للسلطات الرسمية حتى تمنحهم التراخيص اللازمة ولونًا مميزًا وتسهيلات في اقتناء الدراجات النارية من الماركات المعروفة التي تليق بهذه المهنة.

سليم (سائق "تاكسي موتو") لـ"الترا تونس": نحاول التنظم من خلال تقديم مطالب للسلطات الرسمية حتى تمنحنا التراخيص اللازمة ولونًا مميزًا وتسهيلات في اقتناء الدراجات النارية

تحدث سليم أيضًا عمّا سمّاها بـ"الهمجية" التي يقوم بها بعض ممتهني "التاكسي الموتو" سواء في تواصلهم مع الزبائن أو أثناء السياقة وتوخيهم السرعة القصوى أثناء التوصيل وهو ما تسبّب في العديد من الحوادث المرورية منها ما كان خطيرًا ومروّعًا، وهو في اعتقاده ما شوّه صورة هذه المهنة الجديدة التي تسند النقل العمومي وتقدم الخدمة للمواطن.

وعن اختياره هذه المهنة أكد محدثنا أنّه تخرّج منذ سنوات من إحدى مؤسسات التكوين المهني العالي ويحمل شهادة "تقني سامي" لكنه بقي في حالة بطالة وبما أنه يملك دراجة نارية فقد اختار هذه المهنة وبات متعلقًا بها، وأضاف أنه يتعامل مع الجميع باحترام شديد وأصبح له زبائن يتواصلون معه فيحجزون رحلاتهم بشكل يومي.

سائق "تاكسي موتو" لـ"الترا تونس": البعض شوّه صورة هذه المهنة الجديدة من خلال الهمجية سواء في تواصلهم مع الزبائن أو أثناء السياقة وتوخيهم السرعة القصوى

طيلة الطريق إلى مدينة منوبة كان سليم يتحدث بحب عن هذه المهنة ويأمل في أن تتنظم فيصبح لها قانون خاص بها تمامًا مثل التاكسي الفردي أو التاكسي الجماعي أو النقل عبر سيارات "اللواج" خاصة وأنّ خدماتها مطلوبة من قبل المواطنين من الجنسين، موضحًا أن بعض زبائن "التاكسي موتو" هم من الفتيات سواء طالبات بالجامعة أو عاملات المصانع أو بعض المهن الأخرى.

دامت الرحلة من باب الخضراء إلى منوبة حوالي عشرين دقيقة وهي مدة كافية ليطلعني خلالها سليم على بعض أسرار هذه الظاهرة الجديدة المتصلة بالنقل العمومي والتي باتت معروفة لدى سكان العاصمة التونسية وضواحيها وينظرون إليها بعين الريبة والتوجّس في حين أنها مصدر رزق للعديد من ممتهنيها من الشباب العاطل عن العمل أو من أصحاب العائلات.  

يأمل سليم، سائق "تاكسي موتو" في تنظيم هذا القطاع فيصبح له قانون خاص تمامًا مثل التاكسي الفردي أو التاكسي الجماعي.. خاصة وأنّ خدماته مطلوبة من قبل المواطنين من الجنسين

سليم هو عينة من سائقي "التاكسي موتو" الذين يعدّون بضع مئات بالعاصمة وبالمدن التونسية الكبرى والذين فرضهم الواقع المتردي والفوضوي الذي يعيشه النقل العمومي بشقّيه العام والخاص، وهم على وعي بأن نشاطهم مغامر وخارج الأطر القانونية للنقل بما يجعلهم عرضة للمعالجة الأمنية في أغلب الأوقات، وهم ما انفكوا يطالبون الدولة بالانتباه إليهم ومساعدتهم بأن تجعلهم في منظومة النقل الحضري بشكل واضح وشروط واضحة ولون واضح، وبعث محطات خاصة بهم، ولمَ لا إنشاء تطبيقة إلكترونية خاصة بهم؟

إنّ النقل في تونس وخصوصًا الحضري منه لم يطوّر نفسه بما يتناسب مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي طرأت على تونس في العشرية الأخيرة، كما أن الذين تداولوا على السلطة لم يجلسوا حول مشاكل ومشاغل النقل ولم يسعوا إلى تطويره وتجويده بشكل جدّي، ولم يضعوا خططًا إستراتيجية تستشرف المتغيرات في الأفق.. وهو ما يخلق حوله ظواهر غريبة قد تتسبب في الأذى للفرد والمجتمع منها "التاكسي موتو" و"سيارات الكلانديستينو".