ثقافة وفنون

سجاجيد النجمة الزهراء.. عن المجموعة النادرة للبارون ديرلنجي

30 مايو 2025
سجاجيد النجمة الزهراء.. عن المجموعة النادرة للبارون ديرلنجي
سجاجيد وزرابي البارون ديرلنجي بالنجمة الزهراء، رصيد تراثي ينتظر الباحثين والمصورين والرسامين للاهتمام به (رمزي العياري/الترا تونس)
رمزي العياري
رمزي العياريصحفي من تونس

عندما حل البارون "رودولف ديرلنجي" الإنجليزي ذي الأصول الألمانية بالمملكة التونسية نهايات القرن التاسع عشر، كان ضيفًا مبجلًا لدى "محمد الناصر باي" الذي تجمعه صداقة عمل بوالده الصيرفي الشهير بأوروبا في ذلك الوقت "فريدريك إيميل" صاحب بنك "إيرلنغر"، فمكّنه من أحد قصوره بضاحية المرسى في مرحلة أولى قبل أن يمنحه "فالازا" (سفحًا صخريًا وغابيًا) بجبل المنار بقرية "سيدي بوسعيد" المطلة ببهاء خفي ونادر على بحيرة مدينة تونس، حيث يتراءى بشموخ جبل بوقرنين بالجهة الشرقية ليشيّد قصرًا فريدًا للإقامة الدائمة هو "قصر النجمة الزهراء" الذي يلمع كبرق في ظلام المكان.

وقد انطلقت أشغال بناء هذا القصر، سنة 1912 لتنتهي سنة 1922، هي عشر سنوات كاملة كانت كافية لتمنح سيدي بوسعيد والضاحية الشمالية للعاصمة تونس، غنائية معمارية فريدة، لقد كان البارون ديرلنجي يبحث عن امتلاء ما، لم يجده في بيئته الأوروبية، فاستنبت نفسه من جديد في ثقافة الشرق وكانت تونس جسرًا لتلك الأسفار الساحرة التي حلم بها. 

قصر "النجمة الزهراء" الذي أصبح فضاءً ثقافيًا متعدد الأدوار، يحتوي على مجموعة نادرة من السجاجيد (الزرابي) التي قام البارون ديرلنجي باقتنائها طيلة حياته من البلدان التي زارها وتنقل إليها

لم يكن البارون مستشرقًا نمطيًا يرى الأشياء من منظار المستشرقين الأوروبيين، بل كان صاحب أسلوب خاص به، فاقترب من الطبقة المثقفة التونسية من شعراء وكتاب ومؤرخين وانشغل انشغالًا لافتًا بإحدى القطاعات الفنية الهامة وهو الموسيقى وما جاورها، فكان يجالس العازفين والملحنين وشعراء الأغنية في قصره. 

كما كان البارون ديرلنجي سندًا لهم في فنهم، وكتب حولهم ووثق مسيراتهم ورسمهم بفرشاته في لوحات نادرة قبل ذيوع الفوتوغرافيا، كما قاد الوفد التونسي في أول مؤتمر للموسيقى العربية بالقاهرة سنة 1932، وكان له التأثير الواضح على نهج الموسيقى الذي اختارته تونس فيما بعد من ذلك تأسيس الراشيدية.

 

عالم آسر من السجاجيد تركه البارون في قصره، يذكره في لوحات الرسامين المستشرقين الذين رسموا أسواق الزرابي بأصفهان ودمشق وبغداد وإسطنبول (رمزي العياري/الترا تونس)

 

البارون ديرلنجي، الأرستقراطي الذي خيّر الاستقرار بتونس وأوصى بأن يدفن بها وكان له ذلك (نهاية سنة 1932)، كان شخصية ثقافية تحمل ووضوحها وغموضها في الآن نفسه، وكان مبدعًا متعددًا: فهو الرسام والموسيقي والرحالة وجامع تحف من شتى بقاع العالم.. وقد ترك كل هذا الرصيد من التحف الفنية النادرة في قصره النجمة الزهراء الذي اقتنته الدولة التونسية سنة 1989 بعد أن عرضه ورثة البارون للبيع وقد حولته وزارة الشؤون الثقافية التونسية سنة 1991 إلى "مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء" بتقديمه لأنشطة علمية وفنية تهم الموسيقى وعلومها وتاريخها، وبعث "المكتبة الوطنية السمعية" بإحدى أجنحته والمشفوعة بمخابر ترميم للآلات الموسيقية والأشرطة السمعية القديمة.. وفي الوقت نفسه، حافظ المعلم الفاخر الذي صنفته تونس كمعلم أثري منذ تاريخ الاقتناء، ويجمع محافظي التراث والباحثين المعماريين على أن قصر "النجمة الزهراء" هو توليفة للعمارة العربية من دمشق إلى الأندلس مرورًا بالمغرب العربي.

"النجمة الزهراء" الذي أصبح فضاءً ثقافيًا متعدد الأدوار يحتوي على مجموعة نادرة من السجاجيد (الزرابي) التي قام البارون ديرلنجي باقتنائها طيلة حياته من البلدان التي زارها وتنقل إليها منبهرًا بروح الشرق التي كانت تسكنه ونراها طاغية على معمار قصره والديكورات والتزويقات ونقوش الخشب والجص.. التي تملأ القاعات والبيوت والردهات والشرفات.. عالم آسر من السجاجيد تركه البارون في قصره، يذكره في لوحات الرسامين المستشرقين الذين رسموا أسواق الزرابي بأصفهان ودمشق وبغداد وإسطنبول.

 

تضم هذه المجموعة عينات نادرة من سجاجيد الصلاة التركية المنشأ والتي يمثل تصميمها الرئيسي محرابًا وعادة ما يعلق في وسط عقده فانوس (رمزي العياري/الترا تونس)

 

هذه الزرابي التي يغمرك جمالها وأنت في حضرة القصر المهيب المنغرس كماسة مضيئة ووهاجة في خاصرة الجبل المنار المطل على البحر الأبيض المتوسط، أغلبها من الصنف الذي ينسج بواسطة العقد، أما البقية فهي من الصنف المنسوج على النول الأفقي (السداية) وتعرف في تونس بـ"الكليم" و"المرقوم" وهو من عادات النسيج البيتي لدى الأمازيغ والنوميديين بشمال إفريقيا حيث تختلف التواشيح ومزج الألوان والرموز من بلد إلى آخر وحتى من قرية إلى أخرى.

سجاجيد البارون ديرلنجي جُلبت من بلدان آسيا الصغرى وآسيا الوسطى وبلاد فارس ومن تركيا ومن بعض بلدان أوروبا الشرقية (من جبال الكاربات برومانيا..) ومن مدن تونسية معروفة بحرف السجاجيد والزرابي مثل القيروان وقفصة والكاف وقابس.. وغيرها.

الأعمال التي اقتناها البارون من الشرق، صُنعت بالاعتماد على صنفين من العقد النسيجية وهي العقدة التركية المعروفة بعقدة "بورداس" نسبة إلى مدينة تركية تحمل الاسم نفسه، والعقدة الفارسية المعروفة بـ"عقدة سنّة" والتي تتيح لصاحبها إنجاز تصاميم معقدة.

 

على غرار أغلب الزرابي والسجاجيد الشرقية فإن مجموعة البارون ديرلنجي التونسية هي مستطيلة الشكل باستثناء قطعة أو قطعتين جاءت على شكل سجاد سرج (رمزي العياري/الترا تونس)

 

هذه الزرابي النادرة صُنع معظمها من صوف الأغنام (السداة واللحمة وأحيانًا تكون السداة من القطن)، وهي تحمل زخارف هندسية نباتية ولعل الاستثناء الوحيد هو سجادة الصلاة الفارسية التي تحتوي على زخرفة تشخيصية تتمثل في مجموعة من الحيوانات (الأبقار والماعز والأسود) إلى جانب شجرة الحياة التي تحيل إلى الفردوس.

تشمل زخارف هذه الزرابي على جملة النقوش والرموز، ولعل الأكثر شيوعًا هي "نقشة أفشان" وهي عبارة عن وريدات تتناوب مع سعيفات النخيل، و"نقشة بوتة" وهي تحاكي الدمعة أو غلة الكمثري، و"نقشة الغول" وهي عبارة عن ميدالية صغيرة إما مثمنة الشكل أو سداسية أو في شكل معيّن، و"نقشة نارنج" التي تحاكي زهرة شجرة النارنج.

وعلى غرار أغلب الزرابي والسجاجيد الشرقية فإن مجموعة البارون ديرلنجي التونسية هي مستطيلة الشكل باستثناء قطعة أو قطعتين جاءت على شكل سجاد سرج، وتتراوح المقاسات بين الكبيرة الحجم وسجاد الصلاة.

تشمل زخارف هذه الزرابي على جملة النقوش والرموز، ولعل الأكثر شيوعًا هي "نقشة أفشان" (رمزي العياري/الترا تونس)

تضم هذه المجموعة عينات نادرة من سجاجيد الصلاة التركية المنشأ والتي يمثل تصميمها الرئيسي محرابًا وعادة ما يعلق في وسط عقده فانوس.

ويستدل من التصاميم التي تميز مجموعة زرابي البارون ديرلنجي أن الزرابي التركية هي من صنع ورشات "أوشاك" (عشاق) التي تعد من المراكز الرائدة في مجال النسيج في الإمبراطورية العثمانية وورشات "غيورداس" و"كولا" ولكن أيضًا من المناطق القبلية التي يسكنها الرحّل من التركمان (يُموت، تكّة، سالور).

وتضمنت المجموعة النادرة من سجاجيد وزرابي البارون ديرلنجي عينات من السجادات الجميلة من منطقة القوقاز والتي يمكن التعرف عليها بسهولة من تصاميمها الهندسية المبسطة التي عادة ما تكون على خلفية حمراء، وكذلك الزرابي المتأتية من "تركستان" التي من اليسير التعرف عليها من خلال لونها السائد وهو الأحمر والذي يضاف إليه أحيانًا البني أو الأزرق وتصاميمها التي تستند إلى مثمنات الأضلع.

سجاجيد البارون ديرلنجي جُلبت من بلدان آسيا الصغرى وآسيا الوسطى وبلاد فارس ومن تركيا ومن بعض بلدان أوروبا الشرقية ومن مدن تونسية

أما قطع السجاد "الفارسي" أو "العجمي" فقد استجلبها البارون ديرلنجي من ورشات "بيجار" بمقاطعة كردستان ومن أردبيل وشيراز وهمذان وملاير وكاشان من بلاد فارس.

مجموعة السجاجيد والزرابي المعروضة في قصر النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد بالضاحية الشمالية للعاصمة تونس، هي واحدة من مجموعات أخرى جمعها البارون من أسفاره ورحلاته أو وصلت إليه عن طريق أصدقائه ويصل عددها إلى 2600 قطعة بين لوحات زيتية وخزفيات ومحفورات يابانية وحلي تقليدية تونسية وتحف فضية وزجاجية ومنحوتات رخامية ومخطوطات عربية يعود أقدمها إلى القرن الثاني عشر(وقد تم نقل هذه المجموعة إلى المكتبة الوطنية التونسية في سنة 2008).

الزائر لقصر النجمة الزهراء فبقدر انبهاره بهذه المجموعة الفريدة من السجاجيد والزرابي التي صنعت يدويًا في مجتمعات بعيدة ومنذ عقود طويلة، وتعبر في الوقت نفسه،عن الذوق البشري في تلك الحقب وفلسفة الجمال التي تنظم الحياة وقضى البارون ديرلنجي سنوات في جمعها وبذل من أجلها المال الوفير.. فإنها غير محفوظة في الظروف المتحفية التي يجب أن تُحفظ داخلها فهي معرضة للرطوبة والغبار الذي يؤثر على بقائها.. كما تغيب اللوحات الدالة تحت كل سجاد.

إنّ مجموعة سجاجيد وزرابي البارون ديرلنجي بالنجمة الزهراء، رصيد تراثي ينتظر الباحثين والمصورين والرسامين للاهتمام به وتثمينه والتعريف به.  

 

 مراجع:

الموقع الرسمي لمؤسسة مركز الموسيقى العربية والمتوسطية - النجمة الزهراء (تابع لوزارة الشؤون الثقافية التونسية) 

الكلمات المفتاحية

غياب كلي للمهن المجاورة للفنون التشكيلية في تونس

المهن المجاورة للفنون التشكيلية في تونس.. إجماع على غيابها وضرورة إحيائها

فنانون تشكيليون تونسيون يجمعون على أهمية المهن المجاورة للفنون التشكيلية في دفع حركة الفن في اتجاه النهوض بدوره الجمالي والفكري والحضاري في المجتمع


كتاب أجواد وأوغاد.. حفر بلاغي وعلمي في عتمات الهامش الاجتماعي التونسي

كتاب "أجواد وأوغاد".. حفر بلاغي وعلمي في عتمات الهامش الاجتماعي التونسي

كتاب "أجواد وأوغاد" للباحث هيكل الحزقي يمكن اعتباره كتابًا متأنّيًا ومؤسسًا جادًا لفهوم مجتمعي تونسي ظل شريدًا في التاريخ الاجتماعي المديني


كروان الإذاعة عادل يوسف

كروان الإذاعة التونسية عادل يوسف.. كنز صوتي وتراث جدير بالاعتناء والتوظيف

الذكاء الاصطناعي كفيل إذا وجد مدوّنة صوتية طويلة ممتدّة متنوعة للشحرور عادل يوسف، أمكن له جعل صوته أميل إلى الخلود


معرض تونس الدولي للكتاب

 سرقة الكتب في معرض تونس الدولي للكتاب.. بين الأخلاق والإيديولوجيا

برزت ظاهرة غريبة منذ الدورات الأولى لمعرض تونس الدولي للكتاب تتمثل في "سرقة الكتب" من قبل طلبة وشباب محب للمطالعة حتى أنّ الأمر بات مقلقًا

التفويت في أرض بالدينار الرمزي لفائدة مدينة الأغالبة
سیاسة

مدينة الأغالبة الطبية.. تفويت بالدينار الرمزي في أرض دولية لإنجازها

رخصت وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية في التفويت بالدينار الرمزي في قطعة أرض دولية لفائدة مؤسسة مدينة الأغالبة الطبية بالقيروان

تأجيل إضراب الفلاحة
مجتمع

تأجيل الإضراب العام في قطاع الفلاحة إلى هذا التاريخ

أعلن الاتحاد العام التونسي للشغل عن تأجيل الإضراب العام في قطاع الفلاحة إلى يوم الأربعاء 20 أوت 2025 وذلك بعد جلسة صلحية انعقدت يوم الأربعاء 16 جويلية 2025 بمقر وزارة الشؤون الاجتماعية


غسان بن خليفة (1).jpg
میدیا

حكم بسجن الصحفي غسان بن خليفة لمدة 6 أشهر استنادًا لمجلة الاتصالات

جمعية تقاطع: الدائرة الجناحية 17 بمحكمة الاستئناف بتونس، قضت بإقرار الحكم الابتدائي القاضي بسجن الصحفي غسان بن خليفة لمدة 6 أشهر، استنادًا إلى الفصل 86 من مجلة الاتصالات

برمجة مهرجان صفاقس
ثقافة وفنون

تفاصيل برنامج الدورة 45 من مهرجان صفاقس الدولي

تنطلق فعاليات الدورة الخامسة والأربعين من مهرجان صفاقس الدولي بالمسرح الصيفي، وذلك من 21 جويلية إلى 19 أوت 2025، وتتضمن هذه الدورة باقة من العروض الفنية المتنوّعة

الأكثر قراءة

1
مجتمع

32 منظمة تطالب بوقف العرقلة الإيطالية لجهود الإنقاذ في البحر المتوسط


2
سیاسة

دعوات متعددة في تونس للاحتجاج يوم 25 جويلية 2025


3
مجتمع

عقوبات سجنية لمرتكبي العنف بالملاعب.. مقترح قانون يثير تخوفات في تونس


4
سیاسة

عبير موسي تحذر من استهدافها داخل السجن


5
میدیا

هيئة الدفاع: سنية الدهماني تواجه 5 قضايا تفتقر لحد أدنى من مقومات المحاكمة العادلة