حليب الإبل.. دواء واستثمار وثروة تونسية متعددة الاستخدامات

في قلب جزيرة جربة، تتوارث عائلة نور الدين بن الحاج زكري مهنة تربية الإبل أبًا عن جدّ منذ أكثر من 30 عامًا، محافظةً على قطيع يتجاوز الأربعين رأسًا من الفحول والنياق والقعود.

لقد أصبحت هذه العائلة وجهةً للعديد من التونسيين ومن خارج البلاد، الذين يقصدونها بحثًا عن حليب الناقة وبولها، اللذين يعتبران كنزًا علاجيًا قديمًا.

يؤكد نور الدين بن الحاج زكري لـ"الترا تونس" أنّ حليب الناقة مطلوب جدًا كعلاج لعدة أمراض. ويقول: "يقصدنا الناس من مختلف جهات البلاد وحتى من خارجها للحصول عليه، فهو علاج يعرفه الأجداد منذ القديم لأنه مفيد لمرضى السكري ولتحسين الخصوبة عند الرجال، وهو دواء لعدة أورام سرطانية خاصة عندما نقوم بخلطه ببول الناقة".

ويضيف نور الدين أن حليب الناقة مفيد أيضًا للنمو والأمراض الصدرية والتنفسية، وهم يوفرونه لكل من يقصدهم.

نور الدين بن الحاج زكري (راعي إبل) لـ"الترا تونس": يقصدنا الناس من مختلف جهات البلاد وحتى من خارجها للحصول على حليب الإبل، فهو علاج يعرفه الأجداد منذ القديم لأنه مفيد لمرضى السكري ولتحسين الخصوبة عند الرجال

يبيّن محدثنا أن قطيع الإبل لديهم يحظى بعناية خاصة، ويتم تنظيم عملية ولادة الناقة لضمان توفر الحليب على مدار السنة، مع الإشارة إلى أن الكمية تقل بين شهري نوفمبر/تشرين الثاني ومارس/آذار.

ويؤكد نور الدين بن الحاج زكري أن حليب الناقة هو الوحيد الذي لا يفسد ويُشرب دائمًا. ويشير إلى أنه لا يوضع في شكوة (قربة) ولا يتم مخضه، فهو يتحول إلى لبن إذا بقي 10 أيام خارج الثلاجة دون أي إضافات أخرى، مما يدل على خصائصه الفريدة.

توفر الناقة التونسية، دون أن ترضع، 6 لترات من الحليب في اليوم الكامل. ولضمان إنتاج كميات أكبر من الحليب بجودة أعلى، تقدم عائلة بن زكري للإبل تغذية غنية ومتنوعة تشمل التمر، الذرة، الفول، والصوجا، وغيرها ويبلغ ثمن اللتر 12 دينارًا.

الباحثة آمال السبوعي: فوائد حليب الإبل لا تكمن في الكمية المتناولة، بل في الاستمرارية

من جانبها أكدت الدكتورة آمال السبوعي، الباحثة بمختبر تربية الماشية والحياة البرية بمعهد المناطق القاحلة بمدنين، أن تركيبة حليب الإبل تتميز باحتوائها على نسبة من فيتامين "سي" تفوق تلك الموجودة في حليب الأبقار بـ 3 إلى 5 مرات. يُعد هذا الفيتامين من أقوى مضادات الأكسدة، مما يفسر تمتع رعاة الإبل بصحة ونشاط ملحوظين، وفقها.

كما يحتوي حليب الإبل أيضًا على نسبة كبيرة من الحديد. وأوضحت الدكتورة السبوعي أن فوائد حليب الإبل لا تكمن في الكمية المتناولة، بل في الاستمرارية على شربه لمدة ثلاثة أشهر أو أكثر.

وكشفت محدثتنا أن حليب الإبل يتميز بغياب بروتين "بيتا لاكتو غلوبولين"، وهو بروتين موجود في حليب الأبقار ويتسبب في حساسية لبعض الرضع. هذا الغياب يشكل قاسمًا مشتركًا بين حليب الإبل وحليب الأم المرضعة، مما يجعل حليب الإبل بديلاً محتملاً وآمنًا للرضع الذين يعانون من هذه الحساسية، بالرغم من الحاجة لإجراء المزيد من الأبحاث السريرية لدعم هذا الاستخدام، وفقها.

وقد انطلقت الأبحاث في المختبر من معلومات متوارثة عن الأجداد حول فوائد حليب الإبل. وقد هدفت أطروحة الدكتورة إلى إثبات هذه الفوائد علميًا. تم إثبات أن حليب الإبل مفيد وفعال لمرضى السكري، لكنه لا يحل محل دواء السكري. وقد نُشرت هذه النتائج في مجلات علمية مرموقة بحسب الباحثة آمال السبوعي.

الدكتورة آمال السبوعي: حليب الإبل يتميز بغياب بروتين موجود في حليب الأبقار ويتسبب في حساسية لبعض الرضع، ما يجعله بديلاً محتملاً وآمنًا للرضع الذين يعانون من هذه الحساسية

أما فيما يتعلق بخلط حليب الإبل ببولها، أوضحت الدكتورة السبوعي أن الأبحاث السريرية لم تُجرَ بهذا الخصوص. ومع ذلك، تمت دراسة بول الإبل في بيئات مختلفة:

• النظام الانتشاري (الرعي في الصحراء): لوحظ أن بول الإبل التي تتغذى على أوراق النباتات الصحراوية يحتوي على خلاصة عالية جدًا من مضادات الأكسدة.

• النظام شبه الانتشاري (بين المرعى والزرائب): تمتد الملاحظات لتشمل هذا النظام أيضًا.

أكدت الدكتورة أن خلط الحليب بالبول لم يتم بحثه بعد، وهناك خطط للقيام بذلك مستقبلاً.

ومن خصائص حليب الإبل أنه لا يمكن غليه لأنه يفقد كل فوائده. ومع ذلك، يمكن بسترته للحفاظ على تركيبته وفوائده. في هذا الصدد، تم إنشاء أول وحدة لبسترة حليب الإبل في المعهد ويتم تسويقه بهذه الطريقة، حسب تعبير الباحثة بمختبر تربية الماشية والحياة البرية بمعهد المناطق القاحلة بمدنين.

كما بيّنت الدكتورة آمال السبوعي أن حليب الإبل لا يمكن تحويله إلى جبن أو زبادي (ياغورت) بالطرق التقليدية المستخدمة لحليب الأبقار والماعز. لكن في السنوات الأخيرة، تمكنت رفقة زملائها من تحويله إلى هذه المنتجات باستخدام خلاصات من مواد نباتية وحيوانية تم تسجيلها كبراءة اختراع. لا تزال هذه المنتجات (الجبن والزبادي) قيد الدراسة في المختبر.

الباحثة آمال السبوعي: حليب الإبل يمكن استخدامه في المنتجات التجميلية نظرًا لفاعليته وخصائصه الفريدة، إذ يحتوي على رغوة بكميات كبيرة، مما يجعله مناسبًا للاستخدام في مواد العناية بالبشرة وتنظيفها

كما أوضحت الباحثة أن حليب الإبل يمكن استخدامه في المنتجات التجميلية نظرًا لفاعليته وخصائصه الفريدة. ويحتوي حليب الإبل على رغوة بكميات كبيرة، مما يجعله مناسبًا للاستخدام في مواد العناية بالبشرة وتنظيفها.

ولم تخف محدثتنا الصعوبات التي اعترضتها في بداية مشوارها لأن رعاة الإبل لم يتقبلوا فكرة بيع حليب الناقة إذ إن آباءهم وأجدادهم كانوا يمنحونه على "رحمة الوالدين" (هبة) لكن خلال هذه السنوات تغيرت "العقلية" وأصبح رعاة الإبل يشاركون في الأيام التكوينية والدراسية وبات العمل مشتركًا بينهم وبين الباحثين وشيئًا فشيئًا تقبلوا فكرة بيع حليبهم لوحدة البسترة التابعة للمخبر.

استنادًا إلى أبحاث الدكتورة آمال السبوعي حول حليب الإبل، أطلقت الشابة لطيفة فريفيطة، الحاصلة على شهادة الماجستير في صناعة الأغذية، مشروعها "شامليه" المتخصص في تسويق حليب الإبل. تُعرب فريفيطة عن قناعتها بأهمية هذا المنتج وخصائصه الفريدة، خاصةً في بيئتها التي تنتمي إليها وتحبها.

تسعى فريفيطة من خلال مشروعها إلى تثمين حليب الإبل عبر بيعه بطريقة منظمة وصحية، مؤكدة لـ"الترا تونس" على فوائده الغذائية والعلاجية. في خطوة مهمة، سيتم طرح حليب الإبل المبستر بحجم نصف لتر في المساحات التجارية الكبرى خلال الأيام القادمة، ليصبح متاحًا للجميع، وفقها.

وأشارت فريفيطة إلى تزايد الطلب على حليب الإبل، إذ تقوم بتوزيعه على جميع الراغبين فيه، مع توفير كافة الظروف الصحية اللازمة للحفاظ عليه، خاصةً مع التحديات اللوجستية لنقله من مدنين إلى مدن بعيدة مثل بنزرت أو تونس العاصمة.

وتطمح لطيفة فريفيطة إلى تطوير مشروعها بتحويل حليب الإبل إلى حليب بودرة. يُعد هذا المنتج مطلوبًا بشكل كبير، لا سيما لاستخدامه للأطفال أو في تصنيع مواد التجميل.