بألبوم جديد.. أنور براهم يصل إلى ما بعد السماء الأخيرة
23 أبريل 2025
عندما يُسأل أنور براهم عن مسيرته الفنية المتفرّدة، يعِنُّ له أن يشبّه موسيقاه بالشجرة التي تنمو بطريقة فريدة، ففي الوقت الذي تمتد أغصانها وتنتشر فوق الأرض، تتمدد جذورها وتغوص في التربة بشكل أعمق.
يذكرني هذا بمقولة تنسب لأحد المفكرين الذي قال: "للوصول للعالمية علينا التأصل في المحلية"، وكذا فعل نجيب محفوظ على سبيل الذكر.
يعود أنور براهم بعد ثماني سنوات عن آخر أعماله، سنوات فيها من الأحداث ما فيها، ليس أقلها جائحة كورونا، وأفظعها ربما، بل الأوكد، ما يحصل الآن في غزة، يعود بألبوم عنوانه "بعد السماء الأخيرة".
يعود أنور براهم بعد ثماني سنوات عن آخر أعماله، سنوات فيها من الأحداث ما فيها، أفظعها ربما ما يحصل الآن في غزة، بألبوم عنوانه "بعد السماء الأخيرة"
هل كان هناك؟ كيف وصل ولماذا عاد؟ هل للموسيقى بُراق بأجنحة أم أنّ أوتار عوده صارت قوسًا رمت به إلى ذاك المكان؟
"الموسيقى تتذكرنا، تعكس الأشخاص والمجتمعات التي تبدعها، وتلتقط شيئًا أساسيًا يعيدها إلى زمن ولادتها، فالذاكرة مسكونة بإيقاعات الموسيقى وإيحاءاتها وغموضها وشفافيتها ورثائها المأساوي".
هكذا كتب الناقد الموسيقي الأميركي جيريمي إيشلر في كتابه "صدى الزمن"، وهي دراسة عن الموسيقى التي تم تأليفها في أعقاب المحرقة، ولأن الشيء بالشيء يذكر فيبدو أن موسيقى براهم عامة وألبومه الأخير خاصة يعكس جليًا مجتمعه الواسع أي ما قبل سايكس بيكو، وتكتب نوتاته بشكل آخر فصولاً من تاريخ وجغرافيا من كان الشقاء عليهم حتمًا مقضيًّا، أو هكذا يبدو الأمر.
هِندٌ الفاضحة
يفتتح أنور براهم ألبومه الجديد بمقطوعة عنوانها "تذكّر هند"، ومن منا لم يعرف هندًا التي أنجزت في عمر الستة أعوام ما تعد، وفضحت كمحمد الدرة مثلاً، وجهًا آخر من وجوه الاحتلال باستهدافه لا فقط حاضر الفلسطينيين، بل غدهم أيضًا.
"أنا الناجية الوحيدة يا أبي"… أو كان هذا ما اعتقدته، قبل أن يُجهز عليها مصّاصو الحياة.قد يكون هذا آخر ما قالته هند رجب، ربما أعجزها الخوف عن النطق وتجمدت شفتاها من الرعب.
نخاف نحن حين تحيط بنا كلاب سائبة، حتى لو لم تنبح، فكيف بنا إذ تحاوطنا المدرعات والدبابات وتحلق فوق رؤوسنا طائرات بلا طيار؟
اسم هند في اللغة العربية ذو معان كثيرة، غير أنه في الفارسية يعبر أكثر عن الحال، إذ يأتي بمعنى الفتاة القوية ;الصبورة ذات التأثير والجاذبية، وقد كان لها ذلك دون إرادة منها، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
يقال اشتقاقًا من هذا الاسم، هنّدت المرأة الرجل أي أورثته عشقًا بالملاطفة وهنّدت المرأة بقلبه أي ذهبت به، وهو ما فعلته هند رجب بمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

يفترض بطفلة لم تتجاوز ربيعها السادس، إن كان لأطفال غزة ربيع، أن تلعب وهي محاطة بالأزهار، وهي ملكتها، وأن تحلق فوق رأسها الفراشات، وهي أجملها، ولكن يأبى العرب قبل العجم ذلك ويمدونهم في غيّهم عبر تواطؤهم وقولهم في أنفسهم ما قاله عدوهم لموسى: "فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ".
المعزوفة التي انطلقت بعزف ضعيف بأنامل الموسيقي "دجانغو باتس" على آلة البيانو بدت كأنها شخصية الطفلة التي لا يمكن لأحد غيرها أن يعرف ما الذي حدث هناك بالضبط وما كانت أحلامها لو تركها الاحتلال لتعيش؟
لا أحد يعرف عدد أحلامها وخاصة محتواها مقارنة بكوابيسها، إذ تشير دراسة أجريت آخر السنة الماضية أن 79 بالمئة من الأطفال يعانون من الكوابيس وفقًا لدراسة أعدها مركز التدريب المجتمعي لإدارة الأزمات وشملت مقابلات مع 504 أسرة تضم أطفالاً ذوي إعاقة أو مصابين أو منفصلين عن عائلاتهم نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية.
ماذا يرون في منامهم يا ترى؟ منامهم الذي لا يتعدى ساعات قليلة بسبب القصف المتتالي من جهة، وبسبب فضاءات النوم غير المهيئة جراء النزوح المستمر بعد استهداف منازلهم والمناطق التي يسكنونها. حاول أن تتخيل أن ساعات النوم على قلتها تكون مليئة بالكوابيس.
يُعد ألبوم "بعد السماء الأخيرة" أول تجربة لأنور براهم في إدراج آلة التشيلو ضمن أعماله، ويفتتح الألبوم الجديد بمقطوعة عنوانها "تذكّر هند"
96 بالمئة من الأطفال يشعرون بأن الموت وشيك ونصفهم تقريبًا أصبح يتمنى الموت. إلى أين يذهب الأطفال حين يموتون؟ إلى أين ذهبت هند، وكل الأطفال هند، بعد استهدافهم؟، "إلى الجنة" سيقول أغلبنا؟ هل تتسع الجنة إلى حوالي 16 ألفًا منهم استشهدوا لأنهم فلسطينيون؟ سيقولون إن "عرضها السماوات والأرض".
سيضيف آخرون وهم الأعقل ربما، أن من استشهد قد نجا، فلا يزال على الأرض التي "يوجد عليها ما يستحق الحياة" حوالي 35 ألف طفل جريح.
ألم الجراح لا يُرى، ألم الجراح لا يندمل، طوبى لمن مات فبكاه أهله أيامًا ثم أصبح ذكرى، أما الجريح فيَبكي ويُبكى كل حين، يبكي وهو يفر من القصف والقنص والحرق. هل تعلم معنى أن تكون جريحًا في مكان تعوزه الأدوية؟ هل رأيت على الشاشات بعضًا منهم وقد انقلب حاله إلى سوء؟ هل رأيت أولئك الذين بُترت أطرافهم أو بعضها؟ أو قطّعت أوصالهم؟
ربما يجيب الشهداء محمود درويش حين يلقونه في "البرزخ"، وهو عنوان أحد ألبومات أنور براهم السابقة عن سؤاله:
"إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟
أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟
أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟"
ربما يجيبونه من سمائهم العَلِيّة عن هذه الأسئلة، وربما ينصرفون إلى ما وجدوا في الجنة، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ليست المرة الأولى التي يلهم فيها درويش براهم، فقد كان للأخير مقطوعة شهيرة عنوانها "عيون ريتا المذهلة"، تيمنا بقصيدة "ريتا والبندقية" وتحية لذكرى الشاعر الراحل آنذاك.
"بعد السماء الأخيرة" هو عنوان المقطوعة الثانية وهو أيضًا عنوان الألبوم ووشاحه الذي يتصدر معانيه، يُكثّفها ويختصرها، وليس أفضل من آلة العود مدخلاً للتعبير عن المعنى وعن الجغرافيا أيضًا، فهو يمثل ثقافة شرقية احتفت بالموسيقى عمومًا لدرجة أن المصريين القدامى كانت لهم آلهة للموسيقى تدعى "حتحور"، وهي أيضًا آلهة السماء، والحب، والجمال، والأم والسعادة والخصوبة.
يحاور أنور براهم عازف البيانو "دجنغو باتس" عما نحن فيه، فتجيبهم "أنيا لاشنر" على آلة التشيلو بعددقيقة ونصف، كأنها تواسيهم قائلة: "أنا معكم، فكلنا في الهم سواء، ومتى استوطن الحزن قلبًا فقد حل بكل القلوب"، أليس البشر إخوانًا أو هكذا لا يزال بعضهم يعتقد؟
يُعد هذا الألبوم أول تجربة لبراهم في إدراج آلة التشيلو ضمن أعماله، حيث لعبت "أنيا" دورًا محوريًا في هذا المشروع، فهي على دراية عميقة بمؤلفاته وتجاربه السابقة.
طرحت القطع الموسيقية الرقيقة من العود إلى التشيلو والبيانو والكونترباص هذا السؤال الميتافيزيقي الذي اختاره براهم كعنوان، وتتردد أصداء السؤال في هذه الأوقات العصيبة التي نمر بها كصرخة بواد غير ذي زرع.
قد لا نجد إجابة له، ولكن، أليس السؤال أهم من الإجابة أحيانًا؟ أليس السؤال بابًا للعلم، ومفتاحًا للمعرفة، وزناد الفهم والإدراك؟
لا أحد يمكنه إيجاد تفسير للمقطوعة الثالثة "ترحال بلا نهاية"، كأنه بطاقة هوية للفلسطيني الذي كُتب عليه التهجير منذ عقود، إلى درجة أن الكثير منهم أصبحوا مهجرين داخل التهجير ذاته، فمن أهل غزة من أتاها نازحًا بعد سنوات الاحتلال الأولى، ليعيد ذات الاحتلال الكرّة مع العدوان الأخير.
لا يستقر أنور براهم على مرجع موسيقي واحد، رغم اعتماده على الموسيقى الشرقية كعمود فقري، حيث يجد الإلهام في العديد من الثقافات المختلفة، كالجاز والموسيقى الكلاسيكية الغربية وغيرها
الصحفي رامي أبو جاموس هو أحد الأمثلة على ذلك، فقد تم تهجيره وعائلته قسرًا مرتين منذ بداية الحرب، أولاً من حيهم في شمال غزة الذي دمره جيش الاحتلال الإسرائيلي بالكامل خلال ساعات من نزوحهم، ثم من ملجئهم المؤقت في رفح جنوب قطاع غزة.
ينشر رامي كل صباح رسالتين على مجموعته على واتساب "غزة الحياة" كإشارة على بقائه حيًا: "مرحبًا أيها الأصدقاء" و"ما زلت على قيد الحياة".
تعيد هذه المعزوفة إلى الأذهان أغنية أحمد قعبور التي يقول فيها:
"لاجئ سموني لاجئ
طالع نازل عالملاجئ
عالخريطة بلادي رسمة ما بعرفها
بقرا عليها أحرف اسمي"
ويضيف لاحقًا حالمًا:
"بحلم بالعودة عبلادي
اكتب اسمي عالبيارات
بحلم عالعودة عبلادي
بحلم أفلت خيطان الطيارات"
كل الأنماط تؤدي إلى هناك
لا يستقر أنور براهم على مرجع موسيقي واحد، رغم اعتماده على الموسيقى الشرقية كعمود فقري، كأن تحته الريح يستعملها في ترحاله بين أصناف موسيقية متنوعة، متفاعلاً مع العالم الخارجي، حيث يجد الإلهام في العديد من الثقافات المختلفة، كالجاز والموسيقى الكلاسيكية الغربية وغيرها، تتباعد بينها الجغرافيا، ولكنها عنوان هدف واحد: التحرر والمقاومة، فيكوّن هذا الفنان عالمًا خاصًا به، وقد اختار في هذا الألبوم فلسطين دون مواربة.
المتأمل في عناوين المعزوفات سيلاحظ ذلك جليًا: "شجرة الزيتون الخالدة"، "برتقال يافا الحلو"، "تأملات ادوارد سعيد" وغيرها، تعطينا حقيقة الأمور وتموقع الفنان، معسكره وفُسطاطه.

"العالم يحتاج إلى الفن باعتباره الكتابة اللاواعية لتاريخه" يقول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، الذي يرى أن الفن يعكس الواقع الاجتماعي والتاريخي بطرق غير مباشرة، ويُعتبر وسيلة لفهم التوترات والظروف التي قد لا تكون واضحة في السرديات التاريخية التقليدية.
وقد نجح أنور براهم في أن يؤلف موسيقى تؤرخ لفترة تاريخية لا يُعرف من سينتصر فيها ويكتبها، وهي استباق لكل تشويه وتحريف يمكن أن يصيبها. استباق لمستقبل غير واضح تعبر عنه آخر المقطوعات بعنوان "غموض".
يطير براهم بمستمعيه وبنفسه بأجنحة ثلاث، حيث يشكل عازف القيتار "دايف هولاند" وعازف البيانو "جانغو بيتس" مرة أخرى جزءًا من الرباعي العالمي لأستاذ العود التونسي، تنضم إليهما الآن عازفة التشيلو "أنيا ليشنر"، ليصبحوا بمثابة طائر برأس وجسد وجناحين.
يقول أنور عن شراكته الطويلة مع "دايف هولاند": "يمنحني عزف "دايف" أجنحة، وهو شعور يتكرر ويغمرني خلال التسجيل".
يجتمع هؤلاء الذين آمنوا أن الموسيقى هي طريقة أخرى لرد الأذى ودفع الوعي لأقصى مدى ممكن، ليقولوا ربما إنه علينا ألاّ تغمض أعيننا عما يحدث في غزة، وإن الفن قادر على تحريك الأفكار والأحاسيس، وإن من لا يمتلك إحداها على الأقل فاسد المزاج ليس له علاج.
الكلمات المفتاحية

كروان الإذاعة التونسية عادل يوسف.. كنز صوتي وتراث جدير بالاعتناء والتوظيف
الذكاء الاصطناعي كفيل إذا وجد مدوّنة صوتية طويلة ممتدّة متنوعة للشحرور عادل يوسف، أمكن له جعل صوته أميل إلى الخلود

سرقة الكتب في معرض تونس الدولي للكتاب.. بين الأخلاق والإيديولوجيا
برزت ظاهرة غريبة منذ الدورات الأولى لمعرض تونس الدولي للكتاب تتمثل في "سرقة الكتب" من قبل طلبة وشباب محب للمطالعة حتى أنّ الأمر بات مقلقًا

معرض تونس الدولي للكتاب.. التحديات نفسها تجابه الزائرين والناشرين
معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الـ39.. التحديات نفسها تجابه الناشرين التونسيين والأجانب والقرّاء

محام: مثول عبير موسي أمام القضاء دون إعلام هيئة الدفاع
عضو هيئة الدفاع: رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي تشهد تدهورًا لحالتها الصحية نتيجة عدم احترام البروتوكول الصحي في سجن إيقافها

عودة شبية القيروان إلى الرابطة الأولى لكرة القدم
أنهى فريق شبيبة القيروان السباق في صدارة الترتيب برصيد 54 نقطة وتمكن بذلك من الصعود من جديد إلى الرابطة المحترفة الأولى لكرة القدم

الدكتور ماجد الزمني يحصد جائزة نيلسون مانديلا للصحة 2025
منظمة الصحة العالمية: قدّم الدكتور ماجد الزمني، أخصائي الطب الشرعي مساهماتٍ واسعة ومؤثرة في مجال تعزيز الصحة

الترجي التونسي يجدّد عقدي خليل القنيشي وأشرف الجبري
الترجي الرياضي التونسي: إتمام تجديد عقدي اللاعبين خليل القنيشي وأشرف الجبري لموسمين إضافيين، ليمتدّا بذلك إلى غاية جوان 2028