سیاسة

"الووكيزم".. عندما تتحول اليقظة الصوابية إلى هوس نخبوي

5 يناير 2025
اليقظة الصوابية.. أو عندما يتحول الووكيزم إلى هوس نخبوي.jpg
اليقظة الصوابية هي تعبيرة عن حساسية تجاه كل ما يمكن تفسيره كفعل أو نظام إقصاء عنصري أو هيمنة (صورة توضيحية/media24)
هيثم المدوري
هيثم المدوري

 

يوم 25 فيفري/شباط 2013، بثت القناة الرابعة في المملكة المتحدة الحلقة الثانية من الموسم الثاني من سلسلة "المرآة السوداء Black Mirror" بعنوان "لحظة والدو The Waldo Moment". تدور قصة الحلقة حول شخصية كرتونية عبارة عن دب أزرق يقوم بمقاطع كوميدية ضمن برنامج يومي تلفزي ساخر. 

يؤدي دور "والدو" كوميدي باسم جيمس سالتر، الذي يعاني كأغلب شباب جيله من صعوبات مادية ومعنوية.. فيقوم بتوجيه سخطه عبر السخرية من السياسيين والنخب التي يرى -كغيره من الكثيرين- أنها السبب وراء الأزمة التي يعيشها، حيث يقوم بتبني خطاب معادٍ للسياسة، خال من الصوابية السياسية، مهين يشجع على الكراهية ومعادٍ للنخب. فيلقى البرنامج رواجًا ونجاحًا إعلاميًا، ليتحول الدب الكرتوني إلى أيقونة وفاعل سياسي، إلى حد أنه ترشح في الانتخابات البرلمانية، ضمن حبكة الحلقة.

من الملاحظ، تنامي ظاهرة الخطاب المعادي للسياسة، وما يصحبه من التوليفة الضدية لكل ما هو نخبوي، وكيف صار هذا الخطاب يلقى رواجًا لدى جماهير واسعة عريضة، حتى صار الأمر أقرب إلى ظاهرة عالمية متصاعدة

يُلقي مخرجو الحلقة الضوء على ظاهرة تنامي الخطاب المعادي للسياسة "Anti-Politics"، وما يصحبه من التوليفة الضدية لكل ما هو نخبوي، وكيف صار هذا الخطاب يلقى رواجًا لدى جماهير واسعة عريضة، حتى صار الأمر أقرب إلى ظاهرة عالمية متصاعدة تمتد من أحياء مدينة "مادوراي" في إقليم "تاميل نادو" في الهند إلى ضواحي "بروكلين" و"ميشيغان" في الولايات المتحدة، مرورًا بـ"بارباس" في باريس، شوارع 105 و106 في حي التضامن في تونس وفيلا "ميموزا" في "ريو دي جينيرو" في البرازيل، ما صار يصطلح بالموجة الشعبوية العالمية. 

موجة قوامها خطاب قومي معادٍ للهجرة ورهاب الأقليات يُحمّل المسؤولية للنخب، سواء كانت إعلامية أو اقتصادية أو علمية.. مسؤولية الصعوبات التي تعانيها الطبقات المتوسطة والدنيا. ولئن اختلفت درجات هذا التدني ومطالب هذا الجمهور: من الحد الأدنى كتوفر مياه الشرب مثلًا في دول الجنوب أو مطالب تخفيض الضرائب أو إجراءات اقتصادية حمائية في بلدان الشمال، فإنّ هذه الخطابات الشعبوية تلتقي بصفة عامة، حول جملة من المكونات، كما سبق وأشرنا، من بينها معاداة "الووكيزم" أو اليقظة الصوابية.

  • تفكيك "التفكيك"

تكثَف استعمال مصطلح اليقظة الصوابية أو "الووكيزم" بعد الحركات الاحتجاجية خصوصًا "حياة السود مهمة Black Lives Matter" التي اندلعت سنة 2013 كتنديد بالعنصرية الممنهجة ضد السود في الولايات المتحدة والحركة النسوية "أنا أيضًا" ضد التحرش والعنف ضد النساء. حركات انطلقت في الولايات المتحدة ثم تحولت إلى حركات احتجاجية عالمية، خاصة في بلدان النادي الديموقراطي، ما أظهرها وكأنها ضرب من التصدير أو الغزو الثقافي الأميركي، كما جاء على لسان الرئيس الفرنسي ماكرون، أو ضرب من "النيو ستالينية" في تداول منسوب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. "الووكيزم" أو اليقظة الصوابية هي تعريب لكلمة "Woke"، أو "Awake"، بمعنى يقظ، أي أن يكون الفرد يقظًا وواعيًا بكل أنواع الإقصاء والعنصرية في معانيها الشمولية التي تمتد من العنصرية على أساس الجنس، الجندر، اللون، الدين، إلى جانب كافة أنواع الهيمنة والتهميش.

تنامي ظاهرة الخطاب المعادي للسياسة، هي موجة قوامها خطاب قومي معادٍ للهجرة ورهاب الأقليات، يُحمّل مسؤولية الصعوبات التي تعانيها الطبقات المتوسطة والدنيا للنخب

"هي تعبيرة[1] عن حساسية تجاه كل ما يمكن تفسيره كفعل أو نظام إقصاء عنصري أو هيمنة. على عكس ما هو ما رائج كون الفكرة أو المصطلح حديث، إلا أن الفكرة، أو الكلمة، ظلت مستعملة لسنوات طويلة بين الأميركيين من أصول إفريقية، للتعبير عن ضرورة الانتباه والتصدي للعنصرية، كما جاء في خطاب مارتن لوثر كينغ في جامعة أوبرلين في جوان/يونيو 1965. فيما ينسب آخرون، من الناقدين للتيار الديكولونيالي على غرار أستاذة علم الاجتماع الفرنسية ناتالي هاينيش Nathalie Heinich، أصول الفكرة إلى ما يعرف في الأوساط الأكاديمية بـ "النظرية الفرنسية "The French theroy"، وأن اليقظة الصوابية وثقافة الإلغاء[2] (Cancel Culture) هي وليدة النظرية التفكيكية في ستينات وسبعينات القرن الـ20 وما تلاها وجماعة ماي[3] 68 وما صاحبها من أطروحات علم الاجتماع.

  • نحو الإيديولوجيا

قالت العرب قديمًا: "الشيء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضده"، وكم من دواء تحول إلى داء نتيجة الإسراف. تماهيًا مع ضرورات عصر "الترند"، العولمة والسوشال ميديا، عرف العالم، خاصة في نصفه الغربي وضواحيه، انتشارًا واسعًا لثقافة "الووكيزم" والصوابية، تمظهرت من خلال تعمّم ثقافة الإلغاء خاصة لدى المجموعات النضالية مهما كانت قضيتها التي تدافع عنها، فقد توسعت ساحات النضال حتى تشابكت بفعل التقاطعية "Intersectionality" والكونية فجمعت كل القضايا العادلة بدرجاتها من النسوية إلى الإيكولوجية.

تكثَف استعمال مصطلح اليقظة الصوابية أو "الووكيزم" بعد الحركات الاحتجاجية للسود وللنساء ضد العنصرية والتحرش في الولايات المتحدة ثم تحولت إلى حركات احتجاجية عالمية، ما أظهرها وكأنها ضرب من التصدير أو الغزو الثقافي الأميركي

فنشأت وتكثفت مجموعات الضغط و"اللوبيينغ" الحقوقية خاصة في المجموعات الافتراضية في ما يعرف بالـ"النضال الرقمي"، وتكثفت معها حملات التشهير، أو ما يعرف بـ "الاسم والعار Name and shame"، تجاه كل من اشتبه/ثبت كونه متحرشًا أو له أفكار عنصرية.. والتي ليس هذا مقام تقييمها أو تقييم مدى صحتها أو جدواها. لكن المراد هنا هو التدليل على تحول اليقظة الصوابية/"الووكيزم" إلى ضرب من الإيديولوجيا أو الماكارثية اليسارية أو محاكم تفتيش للضمائر والنوايا كما يتهمها المحافظون الجدد منذ أوائل التسعينات، من ريغن وتاتشر وصولًا إلى أوربان، مودي، لوبان، بوتين، سعيّد، ميلوني، بولصونارو وترامب. تحولت إلى ما يشبه الملة، أو "Secte"، أو "الدوغما" تجمع لا فقط محافظين من المحسوبين على اليمين الديني أو القومي، بل أيضًا قدماء الماركسيين أو الستالينيين، كما جاء في كتاب جاك رانسيار "وجع الديموقراطية La haine de la Démocratie".

أدت توليفة المثاليات والأفكار التقدمية التي تبنّتها النخب، تقدمية كانت أو وسطية، إلى تبلور حلم أشبه منه بسراب لعالم مثالي أفضل، لدى الوعي الجمعي لمتوسط الناخبين خصوصًا، أو ما يعبر عنه بـ"العامة" عمومًا، عالم بتمثلات حقوقية للضعيف وللمستضعف فيه نصيب. في المقابل، وكما تحدَث جيليانو دامبولي Guiliano da Empoli في كتابه بعنوان مهندسو الفوضى، تشكلت كتلة "طبيعية" ضدية من مناهضي "الووكيزم" والصوابية السياسية، جمعت ألوانًا مختلفة من المتسيسين، توجه أصابع الاتهام نحو النخب، خاصة المتبنية منها لمنطق الصوابية/الووكيزم، وتحملها مسؤولية تراجع المقدرة الشرائية أو ارتفاع الضرائب، متبنية خطابًا شعبويًاا عاطفيًا ضمن ما يعرف الموجة الشعبوية، في ظل تقلص مساحة الفعل الديموقراطية وتراجع حدود الممكن السياسي.

تكثف استعمال الصوابية السياسية و"الووكيزم" طوال العقد الديمقراطي في تونس، بنمط متسارع خاصة من قبل نشطاء المجتمع المدني حتى تحول ربما إلى ما يشبه "الهوس"

عرف مطلع القرن العشرين انتشارًا واسعًا لعادة التدخين. ومع ظهور أمراض ربطها الأطباء والعلماء بالتدخين، بدأت تظهر أصوات معادية له، ما أدى تراجع مبيعات شركات التبغ. من المفارقات التاريخية، أنّ كلًا من هتلر وموسوليني، والفكر النازي بصفة خاصة، كانا ضد التدخين لاعتبارات إيديولوجية منها مثلًا أنّ التدخين يؤثر على الصحة ما يعني عقبة في الطريق نحو الإنسان الأعلى "Übermensch"، أطروحة نيتشه التي شوهتها ماكينة الدعاية النازية. طبعًا في المعسكر المقابل، استغلت شركات تبغ فكرة أن الفاشية تعادي التدخين، لتسويق دعاية ميكانيكية ممجوجة مفادها أنّ "معاداة التدخين من الفاشية"، وتحولت معها السجائر إلى رمز مقاومة ضد النازية إبان الحرب العالمية الثانية. عُرفت هذه العملية لاحقًا باسم[4] "Reductio Ad Hitlerum"، أي ربط الدعاية لفكرة أو منتج ما، عبر ربط عدم تبنيه أو اقتنائه لفكرة أو طرح مقابل قد يحمل صفة أو طابعًا متدنيًا، وبالتالي البحث عن انتماء أو اعتراف ما، عبر تبني فكرة ما أو اقتناء منتج ما.

طوال العقد الديمقراطي في تونس، تكثف استعمال الصوابية السياسية و"الووكيزم" بنمط متسارع خاصة من قبل نشطاء المجتمع المدني حتى تحول ربما إلى ما يشبه "الهوس"، إلى درجة ربما تجاوزت التحديث الاجتماعي والاقتصادي للبلاد وسكانها، حتى صارت أقرب إلى الترف الحقوقي الجمعياتي منها إلى النضال. ومع تدني مؤشرات النمو الاقتصادي إلى الصفر أو درجات سالبة، واستجابة لضرورة البحث عن متهم وتحميله المسؤولية، فقد نُسّبت الخطيئة الكبرى لكل النخب التي كانت في المشهد آنذاك، وهو ما يفسر ربما تواصل شعبية الخطاب المعادي للسياسة والنخب حتى الآن.

 


[1] Nicolas Truon. Le « wokisme », déconstruction d’une obsession française. Le monde, نشر في 23 جوان 2023. الرابط : Le « wokisme », déconstruction d’une obsession française

[2]  ثقافة "التشهير" بكل من "يثبت" ارتكابهم أفعال عنصرية قصد إقصائهم من الفضاء العمومي.

[3] مجموعة من الأساتذة والأكاديميين عرفوا بدعمهم لانتفاضة ماي 1968 في فرنسا التي أدت إلى استقالة شارل ديغول، ومنهم: ميشال فوكو، جيل دولوز، فيليكس غاتاري، جاك دريدا..

[4] يعرف المصطلح أيضًا بـ "لعب ورقة هتلر Playing Hitelr card"، أي دحض أي فكرة أو قرينة عبر نسبها إلى هتلر. الرابط: Reductio ad Hitlerum

 

الكلمات المفتاحية

ارتفاع لافت لعدد المساجين في تونس.. صناعة الأزمة والحلول المتروكة.jpg

ارتفاع لافت لعدد المساجين في تونس.. صناعة الأزمة والحلول المتروكة

عدد المساجين في تونس ارتفع بشكل لافت إلى 32 ألفًا عام 2024، أي بزيادة بلغت 50% في ظرف 3 سنوات


المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب.jpg

استعادة المجلس الأعلى للقضاء في تونس.. حكم للمحكمة الإفريقية يُراوح مكانه

الأحكام والقرارات الاستعجالية للمحكمة الإفريقية تبقى -واقعًا- حبرًا على ورق بعدم تنفيذها


المحكمة الإدارية.jpg

رفض هيئة الانتخابات تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية.. ملامح أزمة شرعية؟

هي أزمة متصاعدة بين نزاع ظاهره قانونيّ محض، وعمقه سياسيّ


محامون محاماة يوم غضب وقفة.jpg

عام قضائي جديد.. لا حركة قضائية والمحاماة غاضبة والسلطة تسود المحاكم

يحلّ عام قضائي جديد (2025/2024) في مناخ استمرار تراجع مقومات استقلالية القضاء إن لم يكن نسفها

الضمان الاجتماعي الصناديق الاجتماعية.jpg
مجتمع

العفو الاجتماعي في تونس.. 31 مارس 2025 آخر أجل للانتفاع

ذكّر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بأن يوم الاثنين 31 مارس/آذار 2025 سيكون آخر أجل للانتفاع بالعفو الاجتماعي المتعلق بطرح خطايا التأخير بعنوان اشتراكات أنظمة الضمان الاجتماعي.

عطلة الربيع في تونس مدينة العلوم برنامج
منوعات

عطلة الربيع في تونس.. ورشات تثقيفية وأنشطة علمية للتلاميذ في مدينة العلوم

برنامج علمي وتنشيطي ثري لمدينة العلوم من 25 مارس إلى 6 أفريل بمناسبة عطلة الربيع


حوار أستاذ القانون البنكي محمد النخيلي تفاصيل الشيك الجديد ومزاياه وتحدياته.png
اقتصاد

حوار| أستاذ القانون البنكي محمد النخيلي: تفاصيل "الشيك الجديد" ومزاياه وتحدياته

أستاذ القانون البنكي محمد النخيلي لـ"الترا تونس": المتعاملون في السوق سيجدون الحلول البديلة عن "الشيك" وسنحتاج بعض الوقت حتى يتعود الجميع على هذه الآليات الجديدة

GettyImages-669476160_0.jpg
مجتمع

سوسيولوجيا "النّصبة"... أو الفقر الدّابغ في وطن لا يبالي

تغرق كلّ الأنهج المحاذية للسوق المركزيّة بالعاصمة أو "المارشي سنترال" كما يحلو للعاصميين تسميته، والأخرى القريبة في أمواج لا متناهية من "النّصب" المتحرّكة على عجلتين أو طاولات أو"البسطات". تعرّف على هذا العالم.