الهيئات المستقلة زمن قيس سعيّد.. تقويض واستهداف ممنهج
29 أغسطس 2025
لم يكن مفاجئًا قرار السلطة التنفيذية إغلاق مقرّ هيئة النفاذ إلى المعلومة وتحويل موظفيها إلى رئاسة الحكومة مؤخرًا، وذلك بعد أن سبق عدم تعويض رئيسها عام 2020 ولاحقًا إنهاء إلحاق نائب رئيسها عام 2024، بما جعل الهيئة تواجه، من حينها، شغورًا يحول دون قدرتها على إصدار قرارات ملزمة للإدارة في تونس للنفاذ إلى المعلومة.
ويأتي تغييب الهيئة في سياق نهجٍ واضح تتبعه السلطة السياسية منذ 25 جويلية/يوليو 2021، يقوم على تقويض الهيئات المستقلة، وصولًا إلى إقصاء معظمها من المشهد المؤسساتي، إما بحلّها مباشرة أو بشلّ عملها عبر الإخلال بتركيبتها القانونية.
تغييب هيئة النفاذ إلى المعلومة، جاء في سياق نهجٍ واضح تتبعه السلطة السياسية في تونس منذ 25 جويلية 2021، يقوم على تقويض الهيئات المستقلة، وصولًا إلى إقصاء معظمها من المشهد المؤسساتي
وقد تعزّز هذا التوجه مع دستور 2022 الذي همّش بشكل ملحوظ الهيئات الدستورية مقارنة بدستور 2014، ما أسهم في تراجع فعلي لآليات حماية الحقوق والحريات، مقابل تعاظم نفوذ السلطة التنفيذية واستعادتها مجالات لطالما خضعت سابقًا لسيطرتها زمن الاستبداد. وهو توجّه يعمّق راهنًا اختلال الضمانات الديمقراطية ويحدّ من فاعلية إنفاذ الحقوق والحريات، بما يعزّز واقع الاستفراد بالسلطة.
مسلسل مستمرّ لاستهداف الهيئات
تبيّن خيار السلطة السياسية في تقويض الهيئات منذ قرار وزير الداخلية في أوت/أغسطس 2021 بغلق مقرّي الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد استنادًا على قانون الطوارئ دون تبيان موضع تهديد الهيئة للأمن العام، وقد تم تنفيذ عملية الإغلاق بحضور أمني عبر إخراج الموظفين من المقرّين وإحالة محتوياتهما إلى وزارة الداخلية. أدى هذا الغلق المستمرّ منذ 4 سنوات إلى توقّف صدور قرارات حماية المبلغين عن الفساد وتعطّل التصريح بالمصالح والمكتسبات، إضافة إلى تعطّل مهمة الهيئة الرئيسية وهي التقصّي في شبهات الفساد. غلق يتعارض مع رفع السلطة لشعار مكافحة الفساد.
اقرأ/ي أيضًا: اعتبرته "انتكاسة خطيرة".. منظمات تونسية تدين إغلاق هيئة النفاذ إلى المعلومة
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تصدّرت سلسلة الهيئات المستهدفة أيضًا عندما أصدر رئيس الدولة قيس سعيّد مرسومًا رئاسيًا، في أفريل/نيسان 2022، تضمّن تعديلًا لقانونها بتقليص عدد أعضائها من 9 ينتخبهم البرلمان إلى 7 يختارهم رئيس الجمهورية، فيما يعكس خيارًا واضحًا للسلطة السياسية بوضع اليد على الهيئة بما ينزع عنها ضمانات استقلاليتها الهيكلية طبق المعايير الدولية للهيئات الانتخابية.
في جانب متصل، اعتمدت السلطة السياسية سياسة الموت البطيء لهيئات أخرى، في مقدمتها الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري إذ قامت الحكومة، في مرحلة أولى، بتحديد استثناء العمل في القطاع العمومي السابق منحه لرئيس الهيئة نوري اللجمي الذي توصّل، في فيفري/شباط 2023، بقرار إحالته على التقاعد وبالتبعية إنهاء مهامه كرئيس للهيئة، بما أنتج شغورًا رفضت السلطة السياسية سدّه.
السلطة السياسية اعتمدت سياسة الموت البطيء لهيئات عدة، في مقدمتها هيئة الاتصال السمعي والبصري.. كما لم تسلم هيئة حماية المعطيات الشخصية بدورها من الاستهداف البطيء، أما هيئة الوقاية من التعذيب فهي لا تزال تُكابد للحفاظ على وجودها
وكانت الهيئة قد أدانت وقتها المرسوم 54 المقيّد لحرية التعبير والنشر، كما رفضت الإمضاء على قواعد تغطية الحملة الانتخابية في تشريعيات 2022 مع هيئة الانتخابات "الجديدة". وتواصل استهداف "الهايكا" إلى غاية إعلام أعضائها نهاية عام 2023 بإيقاف رواتبهم. تجميد مجلس الهيئة أدى بالتبعية لتعطيل إنفاذ المرسوم 116 فيما يتعلق بصلاحيات الهيئة وبالتالي غياب أي سلطة تعديلية على المشهد السمعي والبصري إلى اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: المرسوم 54 ووضع حرية التعبير في تونس.. دائرة الحريات تضيق أكثر
لم تسلم الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية بدورها من الاستهداف البطيء، إذ انتهت مهام رئيسها شوقي قداس في جويلية/يوليو 2023 لبلوغه سن التقاعد، ثم أصدر رئيس الدولة في جويلية/يوليو 2024 قرارًا بإنهاء إلحاق القاضية حفصية العرضاوي التي كانت تتولى رئاسة الهيئة، وضع أدى لشلّ الهيئة بالإخلال بتركيبتها وهو ما جعل قانون حماية المعطيات الشخصية دون رافعة للرقابة على تنفيذ التزاماته.
أما الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب فهي لا تزال تكابد للحفاظ على وجودها، فقانونها يقتضي أنه يتم تجديد تركيبتها بالنصف كل ثلاث سنوات، وقد رفض البرلمان التجديد رغم المراسلات الموجّهة إليه، ولكن لم تستطع السلطة السياسية، إلى الآن، شلّ أعمال الهيئة بحكم أن الفصل 10 من قانونها ينصّ أنه يواصل الأعضاء المنتهية مدة عضويتهم مهامهم إلى حين تسلّم الأعضاء الجدد. وهو الفصل الذي "أنقذ" الهيئة من مصير مثيلاتها عندما استغلّت السلطة السياسية فراغات القانون لتمويتها.
كلفة ثقيلة على سيادة القانون والحريات
يعكس دستور 2022، في الأثناء، خيارًا سياسيًا واضحًا في تهميش الهيئات الدستورية المستقلة إلى درجة الإلغاء من النسيج المؤسساتي الجديد مقارنة بدستور 2014 الذي خصّها، في المقابل، بباب مستقلّ. إذ أكد أول دستور بعد الثورة أن "الهيئات الدستورية المستقلة تعمل على دعم الديمقراطية وعلى كافة مؤسسات الدولة تيسير عملها". ونصّ على دسترة خمس هيئات وهي هيئة الانتخابات، وهيئة الاتصال السمعي البصري، وهيئة حقوق الإنسان، وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد. في المقابل، ألغى دستور 2022 جميع هذه الهيئات ولم يبق إلا على هيئة الانتخابات فقط مع استحداث مجلس أعلى للتربية والتعليم.
اقرأ/ي أيضًا: عضوان من "الهايكا" يؤكدان قرار الحكومة إيقاف أجور جميع أعضاء مجلسها
دستور 2022 يعكس خيارًا سياسيًا واضحًا في تهميش الهيئات الدستورية المستقلة إلى درجة الإلغاء مقارنة بدستور 2014 الذي خصّها، في المقابل، بباب مستقلّ.. وبالنهاية، فإن إلغاء الهيئات الدستورية قد أدى إلى إضعاف القدرات المؤسساتية في إنفاذ قوانين عديدة
أدى، بالنهاية، إلغاء الهيئات الدستورية من جهة، مقابل استهداف الهيئات المستقلة الموجودة، إلى إضعاف القدرات المؤسساتية في إنفاذ قوانين عديدة بالخصوص منها قانون الإبلاغ عن الفساد، والمرسوم 116 المتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري، وقانون حماية المعطيات الشخصية وقانون النفاذ إلى المعلومة وقانون التصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع. وهو ما يعني المساس من حقوق وحريات أساسية على غرار الحق في الخصوصية والحق في النفاذ إلى المعلومة والحق في الشفافية، وكذلك الحق في إعلام ينضبط للقواعد النزيهة وغيرها.
والمعضلة أن تمويت الهيئات المستقلة تزامن مع غياب تصوّرات بديلة للسلطة السياسية وبالخصوص فيما يتعلق بالإعلام إذ أدى غياب سلطة تعديل ذاتي إلى غياب أي رقابة على التزام وسائل الإعلام السمعية والبصرية بمقتضيات المرسوم 116 مع تصاعد التضييقات الممنهجة على حرية الصحافة والنشر بأدوات متعددة منها الملاحقات القضائية عبر المرسوم 54 على سبيل المثال.
مشهد، في نهاية المطاف، يؤكد توجّهًا سلطويًا حثيثًا يدفع نحو تغييب مقوّمات الديمقراطية وحماية الحقوق والحريات لحساب مزيد تغوّل السلطة التنفيذية وتعزيز سطوتها.

الكلمات المفتاحية

قضية فساد "كبير قضاة تونس" سابقًا.. استحقاق المحاسبة زمن قضاء معطوب
تعامل السلطة السياسية التي ترفع شعار "تطهير القضاء" ومن ذلك التصدّي للفساد القضائي كان متعارضًا مع ما رفعه قضاة حراك "نحن الموقعون" الذين وإن تمسكوا بدورهم بالمحاسبة فإن ذلك كان مشروطًا بضمانات المحاكمة العادلة وعدم تدخل السلطة السياسية

تعطيل حرية العمل.. تهمة جاهزة للتعسّف ضد المهمّشين أيضًا
منظمة العفو الدولية: السلطات لم تقدم أي أدلة تشير إلى وجود شبهات معقولة عن ضلوع الملاحقين في أي سلوك عنيف أو أي سلوك آخر يمكن أن يشكّل إحدى الجرائم المتعارف عليها دوليًا

مقترحات قوانين مهنية في تونس.. صراع قطاعي بلا بوصلة جامعة
جدل أخذ منحى تنافس قطاعي محض طيلة الأسابيع الأخيرة ومن المنتظر أن يحتدّ مع تقديم نواب، في خطوة جديدة، لمقترح قانون لتعديل مرسوم المحاماة

60 شركة دخلت طور النشاط الفعلي.. إطلاق منصة رقمية خاصة بالشركات الأهلية
وزارة التشغيل والتكوين المهني، أطلقت السجل الوطني للشركات الأهلية، وقدّمته على أنه فضاء رقمي جديد خاص بإحداث هذا الصنف من الشركات، يتيح تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليص آجال التسجيل

نقابي لـ"الترا تونس": أعوان شركة البيئة بتطاوين يحتجون للمطالبة بصرف الأجور وتفعيل الاتفاقيات
نفذ أعوان وإطارات شركة البيئة والغراسة والبستنة بتطاوين اليوم، الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 وقفة احتجاجية انطلقت من مقر الاتحاد الجهوي للشغل بتطاوين باتجاه مركز الولاية، للمطالبة بصرف الأجور في آجالها وتفعيل جميع الاتفاقات السابقة، حسب ما أفاد به الكاتب العام المساعد للنقابة الأساسية للشركة، مبارك السياري

هيئة السجون: لا صحة لقيام بعض المساجين بإضراب عن الطعام
الهيئة العامة للسجون والإصلاح: الوضعيات الصحية لكل المساجين ولكل من ادّعى إضرابه عن الطعام هي وضعيات محل متابعة صحية مستمرة وفقًا للتراتيب والبروتوكول الصحي الجاري به العمل

حقوقي لـ"الترا تونس": "التحقيق مع مشجعين للنادي البنزرتي بسبب لافتة مساندة لأهالي قابس"
أفاد الكاتب العام لفرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ببنزرت، حسام الدين خليفة، يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025، بأنّ الوحدات الأمنية استدعت مساء السبت نحو خمسة من جماهير النادي الرياضي البنزرتي للتحقيق، وذلك على خلفية رفعهم لافتات خلال المباراة الأخيرة لفريقهم، عبّرت عن مساندتهم لأهالي قابس في تحركاتهم ضدّ التلوث البيئي

