النزل المهجورة في الساحل التونسي.. عائق للتنمية وتهديد لجمالية المدن

 

لا تزال شرفة الشقة عدد 366 تستقبل نسائم البحر التي تعطّر فناءها الداخلي ولكن من خلال بلّور مكسور وأبواب مخلوعة وجدران نديّة وبقايا أثاث بال، إنها شقّة استقبلت منذ الثمانينيات الوفود السياحية الأولى في هذا النزل المهجور، نزل كانت الحركة تدبّ في كافّة أرجائه ويعجّ بالحركة على مدار الساعة، أحد الزائرين من السياح الفرنسيين لهذا النزل منذ أكثر من 40 سنة سنحت له الفرصة للصعود إلى هذه الشقة التي تذكره بالأيام الأولى لزواجه، يوم حلّ بمدينة سوسة واستمتع بنسائم شواطئها وأطل على شاطئ بوجعفر من هذه الشرفة النصف دائريّة، حين كان عملة النزل مزهوون بإيرادات السياحة السخيّة.

تكاثر عدد النزل المهجورة في المدن السياحية الساحلية خلال العقد الأخير فصارت الشقق كالتجاويف الخاوية في الجبال وأصبحت تشوه الجمالية التي تكسو هذه المدن

لم تكن زيارة "جوليان" للشقة عدد 366 من قبيل الصدفة وإنما بسبب عمل فني قام به ثلة من الفنانين، فبعثوا الحياة في عدد من الشقق برسومات وإبداعات تجسد فكرة البحر والحياة على أنقاض نزل مهجور يشرف على شاطئ بوجعفر في مدينة سوسة الساحلية، كانت النيّة تتجه إلى التحفيز على بعث روح في جسد ميّت، لعل هذه النزل تحيا من جديد ويعاد إليها بريقها الذي كانت عليه أواسط السبعينيات.

 

 

كان جوليان يتذكر أيامه الخوالي عندما أتى سائحًا لأول مرة مع زوجته ليقضّي شهر العسل، فكانت الحركة تدب على مدار الساعة على أنغام الموسيقى في كافة الأرجاء وصدى الأمواج المتوسطية يتسلّل من الشرفة البحرية.

تكاثر عدد النزل المهجورة في المدن السياحية الساحلية، خلال العقد الأخير فصارت الشقق كالتجاويف الخاوية في الجبال وأصبحت تشوه الجمالية التي تكسو هذه المدن وأصبغت عليها مسحة من الحزن والكآبة، فقد أحصينا بين ولايات سوسة والمنستير والمهدية قرابة 25 نزلاً مهجورًا استأثرت سوسة بستة عشرة نزلاً منها.

المندوب الجهوي للسياحة بسوسة لـ"الترا تونس": مصالح الديوان الوطني للسياحة أحصت 41 مؤسسة سياحية من بين 480 مؤسسة سياحية قائمة تشهد غلقًا طويل المدى

فقد كشف المندوب الجهوي للسياحة بسوسة محمد بوجدارية في تصريح لـ"الترا تونس" أن مصالح الديوان الوطني للسياحة أحصت 41 مؤسسة سياحية من بين 480 مؤسسة سياحية قائمة تشهد غلقًا طويل المدى من بينها 16 نزلاً شهد غلقًا نهائيًا بسبب صعوبات مالية أو قضائية.

وأشار بوجدارية إلى أن هذه النزل أصبحت تشكّل تهديدًا أمنيًا على كامل المنطقة السياحية كما تشوه جمالية المدينة فأصبحت نقاطًا سوداء تستوجب التدخل لإيجاد حلول لها.

 

 

تحوّل "الترا تونس" إلى كورنيش مدينة سوسة حيث تتواجد عدد من النزل المهجورة التي أغلقت في السنوات الأخير نتيجة أزمة ماليّة ولا تزال ملفاتها القضائية العالقة تجوب أروقة المحاكم، جلّ هذه النزل تشرف على البحر وتطلّ على شاطئ بوجعفر الذي يعتبر قبلة سياحية وأيقونة "جوهرة الساحل" حيث كشف فتحي ( 58 سنة) وهو أحد السكان القاطنين بالجهة والذي كان شاهدًا على العصر المزهر للسياحة بهذا الشارع بعضًا من أسرار هذه الأمكنة التي غدر بها الزمن.

اشتركت جلّ هذه النزل في كونها تعرّضت إلى حجم كبير من المديونية مما أدى إلى إفلاسها وانهيارها السريع فلم تصمد أمام القدرة على تسديد القروض البنكية ولا استطاعت خلاص المدينين لها ولا الإيفاء بخلاص منتسبيها من موظفين وعملة، كما انهار العديد منها بسبب خلاف بين الورثة وهي التي تمثل جزءًا من الشركات العائلية، أما بعضها الآخر فلا يزال يبحث عن مستثمر جديد لضخ أموال تبعث فيها الحياة من جديد.

المندوب الجهوي للسياحة بسوسة لـ"الترا تونس": النزل المهجورة صارت تشكّل تهديدًا أمنيًا على كامل المنطقة السياحية وأصبحت نقاطًا سوداء تستوجب التدخل وإيجاد حلول لها

تحمل النزل المهجورة سواء في سوسة أو المنستير أسماء علامات تجارية تحيل على مجامع سياحية أو ألقابًا عائلية، -لذلك خيرنا عدم ذكرها-، وتعكس هذه العلامات منوالاً تنمويًا في قطاع السياحة بدأ منذ أواخر الستينيات واشتد عوده خلال السبعينيات والثمانينيات ثم بدأ في الانكسار منذ بداية التسعينيات لينحدر وينهار خلال العشر سنوات الأخيرة.

يقوم هذا المنوال التنموي على الشركات العائلية التي استغلت سخاء الدولة في منحها عقارات هائلة وامتيازات جبائية وإمدادات ماليّة عمومية وخاصة كما تمتعت بتسهيلات إدارية قد ترتقي في كثير من الأحيان إلى شبهات الفساد والمحسوبية وانعدام الشفافية.

 

 

ومثال ذلك قضية أحد النزل المهجورة في منطقة الدخيلة من ولاية المنستير فيما يسمى بالمقاسم السياحية الدخيلة وكيفية إسنادها والتعطيلات التي وقعت والحكم الذي صدر بتغريم الوكالة العقارية السياحية بـ30 مليون دينار، ويذكر أن القضية تعود إلى فترة التسعينيات، وخلال جميع مراحل التقاضي خلصت إلى إصدار حكم تعقيبي نهائي تلزم فيه الوكالة العقارية للسياحة بدفع 30 مليون دينار للخصم.

وعند قيام الوكالة بإعلان طلب عروض لبيع هذا النزل المهجور فإن مبلغ البيع لم يتجاوز 5 ملايين دينار، باعتبار أن المستثمر الجديد لن يقبل بهذا النزل الفوضوي الذي لم يخضع لرخصة بناء ولم يخضع لشهادة إيداع تصريح بالاستثمار من اللجنة الفنية للديوان الوطني التونسي للسياحة ولا يستجيب إلى شروط السلامة والاستغلال الفندقي طبقًا للمواصفات المعمول بها في هذا المجال وفق تصريح سابق للناطق الرسمي فريد بن جحا لمراسل "الترا تونس".

طول الزمن القضائي لملفات النزل المهجورة زاد المسألة تعقيدًا وأسهم في حالة الإهمال مما بات يشكّل تهديدًا للمنطقة السياحية ككلّ

وقد تحصل أحد رجال الأعمال على قروض دون ضمانات وقام بخرق التراخيص الإدارية لبناء النزل ثم قام برفع قضية لاسترجاع الأموال من الدولة ممثلة في الوكالة العقارية السياحية مما دعا إلى رفع الدعوى وفق المصدر ذاته.

لم يصمد هؤلاء المستثمرون أمام التحولات الهيكلية الجذرية ولم يصمدوا أمام الأزمات الخانقة خاصّة أمام تغول مجمعات سياحية دولية عملاقة وباتت دفاترها المحاسبية غارقة في المديونية وعاجزة على المنافسة ومواكبة التحولات المالية والاستثمارية، واستنادًا إلى دراسة نشرها المعهد الوطني للإحصاء تكشف تراجع مساهمة السياحة في الناتج المحلي من 7.5% سنة 1996 إلى 3.2% سنة 2022، كما تراجعت نسبة صادرات السياحة من إجمالي صادرات الخدمات من 19% سنة 1996 إلى 8.1% سنة 2022.

 

 

زاد طول الزمن القضائي لملفات النزل المهجورة، المسألة تعقيدًا وأسهم في حالة الإهمال مما بات يشكّل تهديدًا للمنطقة السياحية ككلّ، وهذا ما دفع الجميع على حدّ السواء إلى إطلاق نداء عاجل لإجبار المالكين للنزل المهجورة على تنظيفها وغلق المسالك المؤدية لها والتنسيق مع وزارة العدل والمتصرفين القضائيين لفض الإشكاليات والبت النهائي في القضايا المنشورة، وكذلك النظر في الوضعيات الإدارية والقانونية وإعادة فتحها أو تغيير صبغتها بما يتماشى والعرض السياحي في الجهة.

رئيس الاتحاد الجهوي للصناعة بسوسة لـ"الترا تونس": النزل المهجورة تضرّ بالسياحة والاقتصاد ككلّ وتعرقل التنمية الجهوية والوطنية ولابد من خارطة إنقاذ لهذه المؤسسات

وفي لقاء "الترا تونس" برئيس الاتحاد الجهوي للصناعة والتجارة بسوسة علي بن يحي، شدّد على أن "النزل المهجورة تضرّ بالسياحة والاقتصاد ككلّ وتعرقل التنمية الجهوية والوطنية ولابد من خارطة إنقاذ لهذه المؤسسات التي تساهم في التشغيلية وتوظف حولها قطاعات خدماتية واسعة".

وأشار علي بن يحي في تصريح لـ"الترا تونس" إلى دور البنوك والمؤسسات المالية في دوران العجلة الاقتصادية بمزيد من المرونة وتنويع طرق التمويل وتسديد الدين حتى يتعدى المستثمرون مرحلة الخطر ويعيدون تأهيل مشاريعهم من جديد.

 

 

كما شدد على أهمية التشاركية في حلحلة أزمة النزل المهجورة بين كافة الهياكل المتداخلة من سلطة الإشراف وهياكل مهنية مثل جامعة النزل وممثلي وكالات الأسفار والخبراء في المجال السياحي لإيجاد الطرق المثلى والقانونية للخروج من الأزمة.

إن أزمة المديونية للفنادق والمؤسسات السياحية بصفة عامة لا تقتصر على تلك النزل المهجورة التي تناولناها في هذا التقرير بل هي أزمة هيكلية لحقت القطاع ككلّ منذ سنة 2002 وإلى حدود اليوم وذلك بعد الهزات العنيفة التي لحقت السياحة فأثبتت مدى هشاشتها، هذه الهزات ابتدأت من عملية جربة الإرهابية إلى ثورة 2011 وصولًا إلى العمليات الإرهابية التي لحقت نزل سوسة ومتحف باردو ثم الأزمة الصحية أثناء جائحة كورونا، كلها عوامل ساهمت في تدهور القطاع بالرغم من مقاومته وصموده وذلك باستقطاب السياح ولو بأسعار منخفضة مقارنة بالأسواق المجاورة.