المنصف باي وواجب الاعتذار الفرنسيّ

مقال رأي 

"حبيب الشّعب الأوّل" كما لُقّب. هو ذاك المنصف باي. أحد أهمّ بايات الدّولة الحسينيّة. ومن فرط التفاف الشّعب حوله، سنجد جيلًا بأكمله سُمّي باسمه. في الثّالث عشر من ماي/أيار 1943، خلعت فرنسا الرّجل، بعد أيّام قليلة من تحرير قوّات الحلفاء البلاد التّونسيّة من النّازيّين. 

كانت التّهمة الّتي استندت إليها القوّات الاستعماريّة في خطوتها تلك ميل المنصف باي إلى قوّات المحور، دون أن تُثبت ذلك. بل بالعكس، ثمّة شواهد عديدة تؤكّد أنّ الزّعيم الوطنيّ بذل ما بوسعه لحماية اليهود التّونسيّين، وقد أجبر الآلاف منهم على العمل القسريّ، بينما رُحّل عدد كبير آخر منهم إلى معسكرات الاعتقال في أوروبّا، بما في ذلك معسكر أوشفيتس. 

مطالبة فرنسا باعتذار رسميّ من شأنه أن يردّ الاعتبار للمنصف الباي الذي أحبه التونسيون حبًا جارفًا ولعلّه الحاكم الوحيد الّذي حظي بإجماع لم تُغيّره السّنوات، رغم تغييب الباي عن الذّاكرة الوطنيّة

ووقّع سلفُه، أحمد باي الثّاني، الملقّب بـ"باي الفرنسيّين"، عددًا من القرارات البغيضة الّتي فرضتها حكومة فيشي على تونس، من بينها فرض حمل النّجمة الصّفراء على ما لا يقلّ عن ثلاثة آلاف يهوديّ. لكنّ المنصف باي أوقف بما أوتي من قوّة سيل القرارات العنصريّة تلك.

اللّافت في أمر خلع المنصف باي أنّه صدر عن المقيم العامّ، ألفونس جوان، الّذي انتهت لجنة خاصّة بالتّحقيق في دخول القوّات النّازيّة إلى تونس، في خريف عام 1942، إلى أنّه "المسؤول الأوّل بصفته القائد الأعلى للقوّات الفرنسيّة عن تمكّن قوّات المحور من اختراق تونس دون مواجهة أدنى مقاومة". 

وأثبت الأرشيف الفرنسيّ أنّ جوان كان بالفعل في تماهٍ تامّ مع حكومة فيشي بل وكانت له صلات مباشرة مع مسؤولين نازيّين، قبل أن ينقلب مناصرًا لقوّات فرنسا الحرّة، مع بروز مؤشّرات تؤكّد قرب انهيار الألمان في شمال أفريقيا. 

ولم يتّخذ جوان قرار عزل المنصف باي بشكل منفرد، إذ ضغط الجنرال هنري جيرو عليه بضرورة اغتنام فرصة انتصار الحلفاء في المنطقة وتحرير تونس لسحب البساط من تحت أقدام الباي لشعبيّته الجارفة. ولا يختلف مسار جيرو عن مسار جوان. فقد كان هو الآخر ميّالًا لحكومة فيشي، بالرّغم من فراره من فرنسا. وتعهّد، في رسالة شهيرة وجّهها إلى الماريشال بيتان في ماي/أيار 1942، بأنّه "لن يُقدِم على أيّ عمل من شأنه أن يُسيء إلى العلاقات مع الحكومة الألمانيّة".

ولم يكن أمام المنصف باي سوى الرّضوخ أمام قرار عزله. وتوفّي المنصف باي في منفاه في مدينة "بو"، جنوب غربي فرنسا، في الأوّل من سبتمبر/أيلول عام 1948. 

لم تعتذر فرنسا عن أيٍّ من جرائمها المُرتكبة في تونس ولم تُطالب أيّ حكومة تونسيّة بذلك

لم تعتذر فرنسا عن أيٍّ من جرائمها المُرتكبة في تونس ولم تُطالب أيّ حكومة تونسيّة بذلك. وأذكر أنّي سألتُ وزير الخارجيّة السّابق، الحبيب بن يحيى، في مؤتمر صحفيّ، عام 2002، غداة إفراج باريس عن جزء من الأرشيف المتعلّق باغتيال الزّعيم الوطنيّ، فرحات حشّاد، عن التحرّك الّذي تنوي السّلطات التّونسيّة القيام به، فتهرّب من الإجابة، مكتفيًا بالقول إنّ عائلة الشّهيد "تتولّى زمام المبادرة". 

أحبّ التّونسيّون المنصف باي حبًّا جارفًا. ولعلّه الحاكم الوحيد الّذي حظي بإجماع لم تُغيّره السّنوات، رغم تغييب الباي عن الذّاكرة الوطنيّة. ومن نافلة القول إنّ مطالبة فرنسا باعتذار رسميّ من شأنه أن يردّ الاعتبار لمن قال لألفونس جوان، ساعة تنحيته عن السّلطة: "القوّة توجد الآن إلى جانبكم وليس لديّ سوى حقّي ولا يخفى عليّ أنّ القوّة لها السّلطة المطلقة فافعلوا بها ما شئتم (...) لقد أظهرنا من آيات الوفاء لتعهّداتنا ما يسمح لنا بانتظار حكم التّاريخ باطمئنان".

وكما تصفه فتحيّة خيري، في أغنيتها "بابورينو": "نصـرة وبشـرى للمظلـوم *** ديـمـا شـعبـو مـعـاه"، ولعلّ ذلك من أهمّ الدّروس الّتي يجب أن نستخلصها، الآن وهنا. 

• المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"