ارتفاع لافت لعدد المساجين في تونس.. صناعة الأزمة والحلول المتروكة
17 فبراير 2025
ارتفع عدد المساجين في تونس بشكل لافت من 22 ألف سجين عام 2021 إلى 32 ألفًا عام 2024، بحسب ما كشف عنه مؤخرًا رئيس الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب فتحي الجراي. زيادة مفزعة بلغت 50% في ظرف 3 سنوات، لا تعكس تنامي الجريمة في تونس بقدر ما تعكس توجهات قضائية وأخرى تشريعية حديثة في اعتماد العقوبة السجنية أو التشدد في تطبيقها خاصة في بعض الجرائم، بما فيها جرائم الرأي، رغم خيار تقييد مجال إعمالها في جريمة الشيك دون رصيد مثلًا. وهو ارتفاع تتعدّد عوامله فيما تتفاقم آثاره أهمها الضغط على القدرة الاستيعابية للمؤسسات السجنية.
إسهال قرارات الإيقاف التحفظي.. المعضلة المستدامة
آخر الأرقام الصادرة عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، تفيّد أن 60% من المودعين في السجن هم في حالة إيقاف تحفظي ولم تصدر بعد ضدّهم أحكام سجنية باتّة، وهو رقم يؤشر على واقع إسهال قرارات الإيقاف خاصة في فترة التحقيق، في ظلّ ضعف المضي في تطبيق التدابير الاحترازية. يعدّ قرار الإيقاف استثناء لمبدأ قرينة البراءة وإبقاء المظنون فيه أو المتهم في حالة سراح، بيد أنه تتوجّه انتقادات ليسر المضيّ في إقرارها.
أحد أسباب اكتظاظ السجون في تونس، يُفسّر بهيمنة العقوبة السجنية في النصوص الزجرية وأيضًا محدودية اعتماد العقوبات البديلة
في مشروع تنقيح مجلة الإجراءات الجزائية الذي مازال على الرفوف منذ سنوات، تم نزع صلاحية سلطة إقرار الإيقاف من قاضي التحقيق لتصبح من نظر دائرة الحقوق والحريات التي تعوّض دائرة الاتهام في التنظيم القضائي الحالي. المشروع المقترح نصّ أيضًا على تقليص المدة القصوى للإيقاف في الجنايات بـ6 أشهر مع التمديد مرة واحدة لنفس المدة (حاليًا 6 أشهر مع التمديد مرتين لا تزيد مدة كل واحدة عن 4 أشهر) ما يعني تخفيض المدة القصوى للإيقاف في الجناية من 14 شهرًا إلى 12 شهرًا، مع منع التمديد في الجنح (حاليًا يحوز التمديد مرة واحد لمدة أقصاها 4 أشهر) وهو ما يعني أيضًا تخفيض المدى القصوى للإيقاف في الجنحة من 10 أشهر إلى 6 أشهر. نظام لو يتمّ اعتماده سيؤدي واقعًا للتقليص في عدد الموقوفين.
مراجعة نظام العقوبات
يُفسّر اكتظاظ السجون أيضًا بهيمنة العقوبة السجنية في النصوص الزجرية وأيضًا محدودية اعتماد العقوبات البديلة. مشروع تنقيح المجلة الجزائية الغائب بدوره من طاولة وزارة العدل، يتضمّن مراجعة للسياسة الجزائية في مجال التجريم وأيضًا باعتماد التوجهات الحديثة للعقوبات بغاية تحقيق غايتها هي الزجر والإصلاح والردع دون لزوم إقرار العقوبة البدنية مع توسيع مجال العقوبات البديلة.
النظام الجزائي الحالي ينصّ على عقوبات بديلة آخرها المراقبة الإلكترونية التي تمت إضافتها بمقتضى مرسوم عام 2020، بيد أن تطبيقها شهد بطئًا كبيرًا بعنوان ضعف الإمكانيات اللوجيستية لإرساء نظام مراقبة عبر السوار الإلكتروني. وعقوبة العمل لفائدة المصلحة العامة المنصوص عليها منذ عام 1999 في المدونة التونسية لازال بدورها نسق اعتمادها محدودًا، رغم المحاولات لإعادة إنعاشها في السنوات الأخيرة. وهي عقوبة ذات منافع متعدّدة اقتصادية واجتماعية خاصة وأن المستفيد هو الصالح العام عبر العمل دون مقابل لفائدة مؤسسات الدولة بدل تكبّد الدولة كلفة إيواء وإعاشة سجين جديد في مؤسساتها.
تمثل العقوبات البديلة، ثورة في نظام تنفيذ العقوبات خاصة عبر إقحام نظام نصف الحرية وهو الخروج من السجن لأسباب متعددة كالتعليم أو التكوين.. وهو نظام سيؤدي في صورة تطبيقه لتخفيف العبء على المؤسسات السجنية
وتبدو الحاجة للعقوبة البديلة عن السجن حيوية جدًا خاصة مع تسجيل رقم أفاد به رئيس هيئة الوقاية من التعذيب أن أكثر من 60% من المودعين في السّجون لديهم أحكام لا تتجاوز في أقصى الحالات السّنة الواحدة أو بضعة أشهر، ما يعني أنهم ليسوا مودعين من أجل جرائم خطيرة، وهو ما يدفع من باب أولى لاعتماد العقوبة البديلة في حقهم.
تشريعات جديدة بعقوبات سجنية مشدّدة
شهدت السنوات الأخيرة، خاصّة في فترة ممارسة رئيس الدولة لسلطة التشريع، إصدار نصوص جزائية في شكل مراسيم تتضمّن عقوبات سجنية مشدّدة من بينها المرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة جرائم الاتصالات وتحديدًا الفصل 24 الذي يتضمن تجريمًا لـ" إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة" باستعمال ألفاظ غير دقيقة على نحو يستهدف حرية التعبير. وقد أدى إسهال تطبيقه ضد الشخصيات العامة وأيضًا الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي لإسهال في إصدار أحكام سجنية، خاصة وأن الفصل يعاقب بالسجن لمدة 5 سنوات وتُضاعف العقوبة إن كان المستهدف موظف عمومي.
المعضلة أنّ التنصيص على عقوبة سجنية مشدّدة تقييدًا لحرية التعبير يتعارض مع النظام الدستوري لتقييد الحريات، دون عن التعارض مع التوجهات الحقوقية الحديثة بنزع العقاب البدني في هكذا جرائم، على نحو ما تمّ تبنّيه في المرسوم 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر الذي اعتمد مبدأ العقوبة المالية.
تبدو الحاجة للعقوبة البديلة عن السجن ملحّة للغاية خاصة مع تأكيد رئيس هيئة الوقاية من التعذيب أن أكثر من 60% من المودعين في السّجون لديهم أحكام لا تتجاوز في أقصى الحالات السّنة الواحدة أو بضعة أشهر
مرسوم آخر بمجال تطبيق واسع تضمّن عقوبة سجنية مشدّدة هو المرسوم المتعلق بمقاومة المضاربة غير المشروعة (صادر في 20 مارس 2022) الذي يعاقب بالسجن عشر سنوات وبخطية مالية قدرها مائة ألف دينار كل من قام بأحد الأفعال المجرّمة بموجب هذا المرسوم، وتضاعف العقوبة لعشرين سنة إن تعلقت بمواد مدعمة وتصل أقصاها للسجن المؤبد. وقائمة الأفعال جاءت موسعة تشمل على سبيل الذكر ترويج أخبار لدفع المستهلك للعزوف عن الشراء أو طرح عروض في السوق لإحداث إضراب في التزويد بنية الترفيع في الأسعار. تشريع أدى لسلسلة إيقافات ضد عديد التجار ممّن يواجهون تهمة المضاربة غير المشروعة. والمعضلة أن هكذا تشريع لا يأتي على خلفية فراغ تشريعي بقدر ما يأتي في إطار التشدد في فرض العقوبة السجنية تنفيذًا لخيار سياسي زجري.
تعديل العقوبة السجنية
مشروع مجلة الإجراءات الجزائية، الذي لازال مجددًا على رفوف الوزارة، خصّص بابًا كاملًا لتنفيذ العقوبة السجنية بنظام جديد يتضمّن توسيع صلاحيات قاضي تنفيذ العقوبات الذي بات يُسمى "قاضي تطبيق العقوبات" عبر توسيع صلاحياته، ومنها بالخصوص تعديل العقوبة السجنية. وتشمل البدائل نظام العمل لفائدة المصلحة العامة والمراقبة الإلكترونية ونظام نصف الحرية والتعويض الجزائي والغرامة اليومية، وذلك مع إمكانية الحط من العقوبة السجنية وفق ضوابط (3 أشهر عن كل سنة للمبتدئ وشهران عن كل سنة للعائد) بعد توفر 3 شروط وهي السلوك الإيجابي والانضباط وقابلية الاندماج.
البيئة السجنية ليست مهيئة بالشكل المطلوب، خاصة في ظلّ واقع الاكتظاظ غير الطبيعي، لتحقيق الغاية من العقوبة بل بتحوّلها أحيانًا لبيئة دافعة للعود وتنامي الشخصية الإجرامية خاصة في صفوف الشباب
بذلك تمثل هذه العقوبات البديلة، ثورة في نظام تنفيذ العقوبات خاصة عبر إقحام نظام نصف الحرية وهو الخروج من السجن لفترة أقصاها من السابعة صباحًا إلى السابعة مساءً لأسباب متعددة منها مزاولة التعليم أو التكوين مع إمكانية فرض شروط كعدم الاتصال بالمتضرر أو ارتياد بعض الأماكن أو مخالطة بعض الأشخاص. وهو نظام سيؤدي في صورة تطبيقه لتخفيف العبء على المؤسسات السجنية.
تفريغ السجون أولوية
في نهاية المطاف، تسجيل زيادة بنسبة 50% في عدد المساجين في تونس هو رقم مفزع يعكس، في العمق، أزمة مركّبة وليس مؤشرًا على قوة إنفاذ القانون، خاصة وأن البيئة السجنية ليست مهيئة بالشكل المطلوب، خاصة في ظلّ واقع الاكتظاظ غير الطبيعي، لتحقيق الغاية من العقوبة بل بتحوّلها أحيانًا لبيئة دافعة للعود وتنامي الشخصية الإجرامية خاصة في صفوف الشباب.
بذلك، يعدّ مراجعة السياسات التشريعية وتطويرها من جهة، وتشجيع الخيارات القضائية في تفادي قرار الإيقاف أو العقوبة السجنية واعتماد العقوبات البديلة، أولوية في المدى المنظور لتقليص عدد المودعين. ويبقى، في الأثناء، إطلاق سراح سجناء الرأي أولوية مطلقة لأن الخلل في الأصل هو تتبّعهم على خلفية آرائهم ومواقفهم.
الكلمات المفتاحية

قضية فساد "كبير قضاة تونس" سابقًا.. استحقاق المحاسبة زمن قضاء معطوب
تعامل السلطة السياسية التي ترفع شعار "تطهير القضاء" ومن ذلك التصدّي للفساد القضائي كان متعارضًا مع ما رفعه قضاة حراك "نحن الموقعون" الذين وإن تمسكوا بدورهم بالمحاسبة فإن ذلك كان مشروطًا بضمانات المحاكمة العادلة وعدم تدخل السلطة السياسية

الهيئات المستقلة زمن قيس سعيّد.. تقويض واستهداف ممنهج
دستور 2022 يعكس خيارًا سياسيًا واضحًا في تهميش الهيئات الدستورية المستقلة إلى درجة الإلغاء مقارنة بدستور 2014 الذي خصّها، في المقابل، بباب مستقلّ..

تعطيل حرية العمل.. تهمة جاهزة للتعسّف ضد المهمّشين أيضًا
منظمة العفو الدولية: السلطات لم تقدم أي أدلة تشير إلى وجود شبهات معقولة عن ضلوع الملاحقين في أي سلوك عنيف أو أي سلوك آخر يمكن أن يشكّل إحدى الجرائم المتعارف عليها دوليًا

60 شركة دخلت طور النشاط الفعلي.. إطلاق منصة رقمية خاصة بالشركات الأهلية
وزارة التشغيل والتكوين المهني، أطلقت السجل الوطني للشركات الأهلية، وقدّمته على أنه فضاء رقمي جديد خاص بإحداث هذا الصنف من الشركات، يتيح تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليص آجال التسجيل

نقابي لـ"الترا تونس": أعوان شركة البيئة بتطاوين يحتجون للمطالبة بصرف الأجور وتفعيل الاتفاقيات
نفذ أعوان وإطارات شركة البيئة والغراسة والبستنة بتطاوين اليوم، الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 وقفة احتجاجية انطلقت من مقر الاتحاد الجهوي للشغل بتطاوين باتجاه مركز الولاية، للمطالبة بصرف الأجور في آجالها وتفعيل جميع الاتفاقات السابقة، حسب ما أفاد به الكاتب العام المساعد للنقابة الأساسية للشركة، مبارك السياري

هيئة السجون: لا صحة لقيام بعض المساجين بإضراب عن الطعام
الهيئة العامة للسجون والإصلاح: الوضعيات الصحية لكل المساجين ولكل من ادّعى إضرابه عن الطعام هي وضعيات محل متابعة صحية مستمرة وفقًا للتراتيب والبروتوكول الصحي الجاري به العمل

حقوقي لـ"الترا تونس": "التحقيق مع مشجعين للنادي البنزرتي بسبب لافتة مساندة لأهالي قابس"
أفاد الكاتب العام لفرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ببنزرت، حسام الدين خليفة، يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025، بأنّ الوحدات الأمنية استدعت مساء السبت نحو خمسة من جماهير النادي الرياضي البنزرتي للتحقيق، وذلك على خلفية رفعهم لافتات خلال المباراة الأخيرة لفريقهم، عبّرت عن مساندتهم لأهالي قابس في تحركاتهم ضدّ التلوث البيئي

