ثقافة وفنون

أشهر المخطوطات الإسلامية في تونس.. "مصحف الحاضنة" المُضاء منذ ألف سنة

19 مارس 2025
أشهر المخطوطات الإسلامية في تونس.. مصحف الحاضنة المُضاء منذ ألف سنة
يتميز مصحف الحاضنة بكتابته من أوله إلى آخره بخط كوفي جديد مبتكر لم يعرف له نظير
رمزي العياري
رمزي العياري صحفي من تونس

في القرون الوسطى كانت القيروان عاصمة إفريقية (تونس)، حاضرة إسلامية لامعة ومشعة على كامل شمال إفريقيا والمجال الجغرافي جنوب الصحراء الكبرى، زمن حكم الصنهاجيين، فهي محجة للعلم يأتيها الطلاب من مشارق الأرض ومغاربها للإقامة بجامعها الكبير الذي يحمل اسم فاتح المغرب "عقبة بن نافع" وهو مؤسسة دينية واجتماعية وسياسية عدّ منارة سامقة للتعليم ونشر قيم الدين الإسلامي وطلب المعرفة، تصل أنواره ومناهله آفاق بغداد عاصمة الخلافة العباسية في ذلك الوقت. 

وكان بنو زيري مؤسسي الدولة الصنهاجية من بناة القيروان وصنّاع مجدها وتاريخها الكبير وخاصة زمن المعز بن باديس رابع أمراء دولة بني زيري -عاش بين 1008 و1062 ميلادي- ففي تلك الفترة ازدهرت الحياة الحضرية في القيروان ومن مظاهر ذلك انتشار الوراقة والخطاطة التي أصبحت اختصاصًا رائجًا وصناعة لها حرفيوها وأقطابها وجعلت من القيروان عاصمة للخطاطة وتسفير الكتب ونشرها وهو ما خلف لنا اليوم كنوزًا من المخطوطات المتفردة والتي لا نجد لها مثيلاً في العالم وتحولت إلى رصيد  متحفي نادر تملكه تونس دون غيرها من البلدان.

حاضنة المعز بن باديس هي صاحبة مشروع المصحف

وعلى رأس هذه المخطوطات النادرة نجد ما يعرف "بمصحف الحاضنة" وهو من المصاحف القديمة القليلة المكتوبة على ورق الرق -يصنع من جلود الماعز والغزال بوجه لحمي وقفا وبري- وقد سعت إلى كتابته فاطمة عمة الأمير المعز بن باديس الصنهاجي وحاضنته (أي مربيته) والمكناة "بأم ملال"، فجندت فريقًا بأكمله أشرف عليه الوراق القيرواني المعروف في ذلك الوقت "علي بن أحمد الوراق" الذي جمع خيرة صناع ورق الرق وأهم الخطاطين والمزوقين والمجلدين والمسفّرين، فقضوا أشهرًا طويلة في إعداد هذا المصحف مستعملين الحبر الأسود وأنواعًا من الأصباغ المحلية وماء الذهب الذي استخدم في تأطير عناوين السور.

وكلفت فاطمة الحاضنة "درة الكاتبة" وهي كاتبتها الخاصة وأمينة سرها ومشتغلة أيضًا في بلاط المعز، بمراجعة خط هذا العمل الفريد والوقوف على بعض التفاصيل والجزئيات الجمالية.

المصحف حبّس على جامع عقبة بالقيروان سنة 1010 م 

المصحف وبعد إنجازه حبّسته حاضنة المعز فاطمة على جامع عقبة بن نافع بالقيروان في شهر رمضان سنة 1020 ميلادي، أي منذ ألف سنة تقريبًا وأودعته في صندوق خشبي خاص حفظًا له من التلف والضياع، ونقش عليه نص التحبيس وثبت عليه التاريخ المذكور وشهد هذا العقد القاضي القيرواني "عبد الله بن هاشم" كما هو مذكور في نص التحبيس المودع أيضًا في آخر صفحة من المخطوط، وهو ما أعطى للمصحف صفة قانونية تجعله غرضًا محميًا يتبع مكتبة الجامع ولا يمكن تغيير مكانه.  

بعد استقلال تونس عاد مصحف الحاضنة إلى القيروان.. لكن الأوراق العائدة هي 1300 صفحة فقط، بقية الأوراق منها ما أهدي وما سرق وما نهب وما هرّب وما بيع في مزادات عالمية

وضع المصحف في مقصورة المعز بن باديس في جامع عقبة بن نافع وهي غرفة خشبية تقع داخل قاعة الصلاة بجوار القبلة وقد استخدمت لسنوات طويلة لتخزين الكتب والمصاحف وفيها ظل المصحف محفوظًا مع مجموعة أخرى لا تقل قيمة وتميزًا عنه، وعرفت لدى الباحثين وخبراء المخطوطات بمجموعة القيروان، ورغم هذا الاهتمام فإن المصحف تعرض إلى التخريب والإتلاف زمن زحف بني هلال على إفريقية سنة 1050 ميلادي، بأمر من العبيديين فضاعت العديد من أوراقه. وسكت عنه إلى حين سنة 1897 ميلادي حين أتى ذكر مقصورة المعز وما حوته في محاضرة ألقاها على بيرم التونسي باللغة الفرنسية في جمعية الجغرافيين المصريين ونشرت بجريدة المقتطف المصرية تحت عنوان "مدينة القيروان"، إثر نشر المحاضرة تم تسجيل شكوى بخصوص وضعية مخطوطات المقصورة لدى وزارة الأوقاف التونسية.

اكتشاف مجموعة مخطوطات مكتبة جامع القيروان

بعد اكتشاف مجموعة مخطوطات القيروان تناولها بالدراسة والبحث العديد من العلماء وكان أشهرهم عالم الآثار الفرنسي "لويس بوينسوت" ضمن دراسة بالتعاون مع مجموعة جورج مارسيل سنة 1948 حيث قاموا بتفصيل هذه المخطوطات وتقسيمها وفقًا للحجم وحالة الأوراق وأرسلوا أغلفتها إلى متحف باردو في حين ظلت صفحات المصحف بالقيروان بمقصورة الجامع، ثم اتخذ قرار بإيداع مصحف الحاضنة في المكتبة الوطنية التونسية.

كما قامت الباحثة التونسية سهام الأمين جانوني بتجميع دراسات "لويس بوينسوت وجورج مارسيل" وإصدارها في كتاب عنوانه "أغراض قيروانية"، ثم الباحث إبراهيم شبوح الذي وصف مخطوطات مجموعة القيروان ضمن إصدار "سجل قديم لمكتبة جامع القيروان"، وتأكد رسميًا لدى جميع الباحثين الأجانب والتونسيين أن مصحف الحاضنة يضم 2900 صفحة. 

بعد استقلال البلاد التونسية عن فرنسا سنة 1956، عاد المصحف الحاضنة إلى القيروان ليستقر نهائيًا في "المتحف الوطني للفن الاسلامي برقادة"، لكن الأوراق العائدة هي 1300 صفحة فقط.

 

بعد اكتشاف مجموعة مخطوطات القيروان تناولها بالدراسة والبحث العديد من العلماء (المعهد الوطني للتراث بتونس)

 

ظهور أوراق من مصحف الحاضنة في متاحف عالمية 

بقية الأوراق منها ما أهدي وما سرق وما نهب وما هرّب وما بيع في مزادات عالمية، فباستثناء الأوراق المحفوظة والمعروضة بالمتحف الوطني بباردو -عدد الأوراق غير محدد- ظهرت أوراق مصحف الحاضنة لدى مجموعة ديفيد بكوبنهاجن بالدنمارك -صفحتان متقابلتان- وفي متحف الميتروبوليتان بنيويورك -ورقتان- وموقع سوزي للمزادات العلنية -ورقتان- وآخر ظهور فجئي لورقات هذا المصحف النادر كان بمتحف الفن الاسلامي بقطر -ورقتان- أما عدد الأوراق التي لا يعرف لها مصير فيصل عددها إلى 1590 ورقة. 

المصحف مكتوب بالخط الكوفي القيرواني 

ويتميز مصحف الحاضنة بكتابته من أوله إلى آخره بخط كوفي جديد مبتكر لم يعرف له نظير من قبل، خال من الأعجام ومشكول بحركات على طريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي واضع علم العروض العربي، وهو ما عرف فيما بعد بالخط الكوفي القيرواني. 

وقد استخدم في كتابة المصحف الفريد القصب والحبر البني بالأساس وأحبار أخرى ملونة لعلامات الضبط واستخدم ماء الذهب والأصباغ الملونة في الوحدات الزخرفية التي ازدانت بها صفحات المصحف المخطوط.

يتميز مصحف الحاضنة بكتابته من أوله إلى آخره بخط كوفي جديد مبتكر لم يعرف له نظير واستخدم لكتابته الحبر البني بالأساس وماء الذهب 

وأكد الباحث التونسي إبراهيم شبوح أن مصحف الحاضنة "نجده مكونًا من ستين جزءًا وكل حزب أو جزء من هذه الستين مكونًا من عدة كراسات حيث يتم تجميع رقوق ذات حجم موحد عرضه ضعف عرض الصفحة الواحدة من المصحف وتجمع كل خمس ورقات منها على الأغلب ويتم خياطتها من المنتصف مكونة بذلك لكراس". 

ويضيف: "يختلف متوسط عدد الكلمات في السطر الواحد بين صفحة وأخرى وأرجع ذلك لتعدد الكتاب وتعدد أحجام الأقلام. أما زخرفة المصحف وتذهيبه فقد تنوعت بين التعبير عن فواتح السور وعلامات التخميس وفواصل الأجزاء، فجاءت الزخارف فروعًا نباتية مذهبة وتاجية تناظرية تأخذ شكل تماثل المرآة أعلى وأسفل وهي مذهبة ومؤطرة باللون الأزرق".

يعد مصحف الحاضنة في مقدمة الموروث الحضاري والثقافي التونسي ورصيدًا من أرصدته الهامة، فهو علامة قابلة للقراءة حول الحياة السياسية والفنية والدينية في القرون الوسطى في تونس وخاصة في القيروان عاصمة إفريقية، ومن ناحية جمالية يتميز هذا المصحف بفرادة خطه المولد من الكوفي العراقي والتزويق الخاص والألوان البديعة مما يقدم لوحات تشكيلية تبهج الروح أثناء تلاوتها للنص الديني. 

مصحف الحاضنة الذي فاق عمره الألف سنة لابد من حماية ما تبقى منه أكثر فأكثر من قبل وزارة الشؤون الثقافية ومؤسساتها المختصة، ولا بد للدولة التونسية أيضًا أن تتبع أوراق المصحف التي تم تهربيها وبيعها للمتاحف الشهيرة والسعي لاسترجاعها. 


المراجع المعتمدة 

  • مجلة علوم المخطوط (الصادرة عن مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية ـ مقال الأستاذة شيماء فحام ـ العدد الثالث ـ سنة 2020).
  • كتاب "سجل قديم بمكتبة الجامع الكبير بالقيروان" ـ الأستاذ إبراهيم شبوح.
  • موقع المتحف الوطني بباردو.
  • موقع المعهد الوطني للتراث بتونس.                 

الكلمات المفتاحية

كروان الإذاعة عادل يوسف

كروان الإذاعة التونسية عادل يوسف.. كنز صوتي وتراث جدير بالاعتناء والتوظيف

الذكاء الاصطناعي كفيل إذا وجد مدوّنة صوتية طويلة ممتدّة متنوعة للشحرور عادل يوسف، أمكن له جعل صوته أميل إلى الخلود


معرض تونس الدولي للكتاب

 سرقة الكتب في معرض تونس الدولي للكتاب.. بين الأخلاق والإيديولوجيا

برزت ظاهرة غريبة منذ الدورات الأولى لمعرض تونس الدولي للكتاب تتمثل في "سرقة الكتب" من قبل طلبة وشباب محب للمطالعة حتى أنّ الأمر بات مقلقًا


معرض تونس الدولي للكتاب.jpg

معرض تونس الدولي للكتاب.. التحديات نفسها تجابه الزائرين والناشرين

معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الـ39.. التحديات نفسها تجابه الناشرين التونسيين والأجانب والقرّاء


بألبوم جديد.. أنور براهم يصل إلى ما بعد السماء الأخيرة

بألبوم جديد.. أنور براهم يصل إلى ما بعد السماء الأخيرة

يعود أنور براهم بعد ثماني سنوات عن آخر أعماله، سنوات فيها من الأحداث ما فيها، أفظعها ربما ما يحصل الآن في غزة، بألبوم عنوانه "بعد السماء الأخيرة".

عودة شبية القيروان إلى الرابطة الأولى لكرة القدم
منوعات

عودة شبية القيروان إلى الرابطة الأولى لكرة القدم

أنهى فريق شبيبة القيروان السباق في صدارة الترتيب برصيد 54 نقطة وتمكن بذلك من الصعود من جديد إلى الرابطة المحترفة الأولى لكرة القدم

وزارة الصحة ماجد الزمني
منوعات

الدكتور ماجد الزمني يحصد جائزة نيلسون مانديلا للصحة 2025

منظمة الصحة العالمية: قدّم الدكتور ماجد الزمني، أخصائي الطب الشرعي مساهماتٍ واسعة ومؤثرة في مجال تعزيز الصحة


الترجي دجوليبا المالي.jpg
منوعات

الترجي التونسي يجدّد عقدي خليل القنيشي وأشرف الجبري

الترجي الرياضي التونسي: إتمام تجديد عقدي اللاعبين خليل القنيشي وأشرف الجبري لموسمين إضافيين، ليمتدّا بذلك إلى غاية جوان 2028

حسابات بنكية نائمة أموال نقود بنك
اقتصاد

"إخلالات وتداعيات على أموال الحرفاء".. مستجدات ملف شركة الوساطة بالبورصة TSI

هيئة السوق المالية: إخلالات جسيمة تشهدها شركة الوساطة بالبورصة "التونسية السعودية للاستثمار" (TSI) قد تنجرّ عنها تداعيات سلبية على حقوق وأموال الحرفاء

الأكثر قراءة

1
منوعات

نيزك في الجنوب التونسي.. مدينة العلوم تكشف التفاصيل لـ"الترا تونس"


2
مجتمع

قوارب تحوّلت إلى "توابيت" في تونس.. حين تتحول الموانئ إلى ذاكرة لرحلات الهروب


3
اقتصاد

حوار| منجي مرزوق: تقدم برنامج الطاقات المتجددة في تونس بطيء رغم إمكانياته الواعدة


4
مجتمع

من الترفيه إلى الإدمان.. كيف نواجه تعلّق الأطفال بالشاشات؟


5
اقتصاد

حوار| خبير محاسب يكشف لـ"الترا تونس" واقع استعمال الكمبيالة وأهم الإشكاليات