أرقام تنمو في بيئة سيئة.. مفارقة اقتصادية واجتماعية في تونس
29 سبتمبر 2025
ما يعرفه الاقتصاد التونسي من صعوبات في السنوات الماضية خلف ردود فعل مستغربة من نسبة نمو فاقت التوقعات خلال الثلاثي الثاني من السنة الحالية وبلغت 3.2%، حيث مرت النسبة إلى الضعف مقارنة بالثلاثي الأول من السنة. ورغم أن بعض المؤشرات يمكن أن تدعم هذه النسبة دون أن تكون مقنعة للكثيرين إلا أن الواقع الذي يحتك به المواطن في كل يوم والارتباك في تطبيق بعض الإجراءات وما يعرف بالإصلاحات يدفع أكثر إلى فرضية التقليل من أهمية نسبة النمو، بل الذهاب إلى اعتبارها من باب "المغالطة" السياسية التي تريد تجميل واقع يتسم بغلاء الأسعار وتراجع القدرة الشرائية للمواطن التونسي.
أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية رضا الشكندالي يقول لـ"الترا تونس" في هذا السياق إن المرور من نسبة نمو تقدر بـ1.6% بالنسبة إلى الثلاثي الأول إلى الضعف في الثلاثي الثاني هو أمر جيد جدًا بالنسبة إلى الاقتصاد التونسي في القراءة الأولى، ولكنه يتساءل عن كيفية تحقيق هذا النمو، فارتفاع النمو بهذا الشكل يعني أن الثروة التونسية قد زادت أي أن إنتاج مؤسساتنا قد ارتفع ويعني كذلك أنها تستثمر أي أنها تلجأ إلى التمويل عن طريق البنوك.
اقرأ/ي أيضًا: تقرير: توقعات بتسجيل الاقتصاد التونسي نسبة نمو أضعف مما رُسم لسنة 2025
أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي لـ"الترا تونس": عندما تذهب الحكومة إلى مضاعفة الاقتراض الخارجي في ميزانية الدولة وتعجز عن تعبئة توقعاتها في ميزانية 2024 مثلاً، فهذا دليل على خواء شعار التعويل على الذات
في المقابل يؤكد الشكندالي أن نسبة النمو بالنسبة إلى قطاع البنوك والتأمين سجلت نموًا سلبيًا بـ -6.8% وهذا التراجع يقاس بمنح القروض إلى القطاع الخاص وهو ما يثير الحيرة فكيف يعرف تمويل الاستثمار من ناحية تراجعًا، بينما ينمو الاستثمار؟ بما أن نسبة النمو تدل على ذلك. ويعبر الشكندالي عن تفهمه لهذه النسبة في الحالة التي تقول إن وارداتنا من مواد التجهيز والمواد المصنعة ونصف المصنعة زادت وفق أرقام المعهد الوطني للإحصاء وهو دليل على أن المؤسسات والشركات تنتج ما يعطي نوعًا ما تبريرًا لنسبة النمو.
الشيء الثاني وفق تقديره هو ارتفاع نسبة نمو قطاع الصناعات الكهربائية والميكانيكية بـ9.8% وهو قطاع مصدر كليًا، ويمكن أن يكون ناتجًا عن الاستثمار العمومي، وأرجع المعهد الوطني للإحصاء في وقت سابق نسبة النمو المسجلة إلى ارتفاع الاستهلاك الخاص وهو ما يثير الاستغراب وفق الشكندالي، الذي يؤكد في هذا السياق أن العجز التجاري تصاعد، مقابل توقف محرك التصدير، وعندما ننزل على أرض الواقع فإن أغلب المتدخلين يقولون إن الاستهلاك تراجع بفعل قانون الشيكات الجديد الذي عطل بشكل كبير الدفعات لدى التونسيين، حسب تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: الشكندالي: نسبة النمو الأخيرة مفاجئة في ظل تعطيل قانون الشيكات للاقتصاد التونسي
وتساءل الشكندالي عن تأخر إصدار نتائج تنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى جوان/يونيو 2025 التي تسمح نسبيًا بقطع الشك باليقين، حول الأسباب الحقيقة لنسبة النمو ومن معرفة مثلاً: هل أن موارد سياسة التقشف التي تتبعها تونس وُجّهت إلى نفقات الاستهلاك أو إلى الاستثمار، مؤكدًا أن عزوف وزارة المالية عن نشر هذه النتائج يعمق الشكوك حول نسبة النمو المسجلة، وفق تعبيره.
وعن توافق هذه الأرقام والخيارات مع شعار التعويل على الذات الذي تتبناه حكومة الرئيس قيس سعيّد، يشير الشكندالي إلى أنه كتب محورًا كاملاً في كتاب سيصدر قريبًا حول سياسة التعويل على الذات وخلص فيه إلى أن "هذا التوجه لا يعني شيئًا على أرض الواقع، فعندما تذهب الحكومة إلى مضاعفة الاقتراض الخارجي في ميزانية الدولة وتعجز عن تعبئة توقعاتها في ميزانية 2024 مثلاً، فهذا دليل على خواء هذا الشعار"، لافتًا إلى أن ما يقدر بـ1500 مليار دينار منها من الجزائر، ولذلك كان التوجه لتمويل الميزانية من البنك المركزي والبنوك التونسية اضطرارًا وليس خيارًا.
أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي لـ"الترا تونس": عزوف وزارة المالية عن نشر نتائج تنفيذ ميزانية الدولة إلى موفى جوان 2025 يعمق الشكوك حول نسبة النمو المسجلة.. وحجب المعلومة الاقتصادية أصبح سياسة متبعة من الحكومة وهو أمر غير مقبول
وإجابة عن سؤالنا حول قدرة نسبة النمو الحالية على الصمود والتطور، اعتبر الشكندالي أنها "نسبة نمو ظرفي ولو أرادت الحكومة المحافظة عليها فيجب تغيير مناخ الأعمال وتحسينه والتخفيض في نسبة الفائدة حتى تُشجّع على تمويل الاستثمار، مع إعادة هيكلة قطاع الفلاحة والعودة إلى نسب إنتاج أكبر في قطاع الفسفاط مع ضرورة إعادة هيكلة القطاع السياحي وتنويع منتوجه خاصة وأنه قطاع ظل يشتغل بنفس الطرق القديمة"، مشددا على أن "حجب المعلومة الاقتصادية أصبح سياسة متبعة من الحكومة وهو أمر غير مقبول"، حسب تعبيره.
تسييس مؤسسات الدولة
وتعود السنة السياسية والاجتماعية الجديدة لتقدم إلى واجهة النقاش مرة أخرى، جدوى الخيارات التي تذهب إليها الدولة التونسية تحت قيادة الرئيس قيس سعيّد، ففي الوقت الذي تؤكد فيه الأرقام ومنها نسبة النمو بداية جني ثمار تلك التوجهات، تسقط الأرقام في أول اختبار لها مع غلاء المعيشة وغياب تغيير فعلي على موارد التونسيين.
وأكد المختص في مجال التنمية حسين الرحيلي في تصريحه لـ"الترا تونس"، أن "نسبة النمو المعلن عنها هي نسبة سمية وليس لها علاقة بالضغوطات التضخمية وانزلاق الدينار وتراجع العملة وارتفاع الأسعار سواء على مستوى الإنتاج أو البيع"، مشيرًا إلى أن أكثر المتفائلين بالوضع الاقتصادي في تونس لم يتوقع نسبة نمو في حدود 3.2%، في ظل نسبة تضخم معلنة اعتبر أنها "غير صحيحة وفي وقت تعطلت فيه محركات الإنتاج وعرف فيها الميزان التجاري عجزًا كبيرًا، وفي المقابل ظل حال إنتاج وتصدير قطاع الفسفاط على ما هو عليه وبدا كأن القطاع الفلاحي يلملم أنفاسه رغم صابة القمح"، وفق تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: طفرة النقد في تونس وتذمرّ من الأوراق المالية المهترئة.. ما الأسباب والتداعيات؟
الرحيلي شدد على أن "تونس تعيش لحظة انكماش اقتصادي ونحن نشعر به من خلال التضخم في وقت يصر فيه البنك المركزي على نسبة الفائدة لأنه هو من يرى فعليًا هذه الضغوط كما أن هناك التجاء إلى السيولة بشكل كبير وهو دليل على أن العملة تدور بشكل لافت من أجل الاستهلاك وليس الإنتاج، وهذا راجع لقانون الشيكات الجديد وصدور تنقيح مجلة الشغل الذي عمق أيضًا الوضعية مع عدد كبير من الذين خسروا مواطن الشغل وهو أمر غير معلن"، حسب تعبيره.
ويقول الرحيلي إن "هناك توظيفًا سياسيًا للمؤسسات وأن الأرقام لا تعكس الحقيقة الموضوعية التي يشعر بها كل مواطن، فالجميع يستغرب تراجع التضخم من 5.3% إلى 5.2% لأن المواطن يعرف ذلك ويواجهه يوميًا ويستغرب لهذا الأمر".
حسين الرحيلي (مختص في التنمية) لـ"الترا تونس": تونس تعيش لحظة انكماش اقتصادي، نشعر به من خلال التضخم في وقت يصر فيه البنك المركزي على نسبة الفائدة، كما أن هناك التجاء إلى السيولة بشكل كبير
وعندما يصدر البنك المركزي ورقة نقدية جديدة بـ50 دينارًا، فالأمر يحتاج إلى قراءة معمقة ومعنى ذلك أنه يريد التقليص من ضخ السيولة، فيلجأ إلى طبع ورقة عملة ذات قيمة كبيرة وهو دليل عن عجزه عن إيقاف نزيف النقد، وفي المقابل هو يدعم السوق الموازية والمهربين.
ويشار إلى أن البنك المركزي التونسي، كان قد أعلن في وقت سابق عن طرح ورقة نقدية جديدة من فئة خمسين دينارًا للتداول.
اقرأ/ي أيضًا: طرح ورقة نقدية جديدة بـ 50 دينارًا دون إلغاء القديمة.. هل من تداعيات تضخمية؟
مفاهيم.. وشعارات
ويقول المختصون في الاقتصاد إن نسبة نمو بـ1% يقابلها خلق 15 ألف مواطن شغل، وفي حال الاقتصاد التونسي يفترض أن تعكس نسبة النمو الحالية حركية على مستوى سوق الشغل، في هذا السياق يقول الرحيلي في حديثه مع "الترا تونس" إن الاقتصاد التونسي وفق الأرقام المعلنة من المعهد الوطني للإحصاء، خلق 90 ألف موطن شغل في 2024، في حين أن نسبة النمو كانت تقريبًا في حدود 1.6%، وهي أرقام لا تتطابق حتى بالمنطق الحسابي، ولتحقق مواطن الشغل هذه عليك أن تصل إلى نسبة نمو في حدود 6 بالمائة، حسب تقديره.
وتراجعت نسبة البطالة في الثلاثي الثاني من 2025 إلى 15.3%، بعدما كانت في حدود 15.4% في الثلاثي الأول، وفي المقابل ارتفعت نسبة البطالة بين حاملي الشهائد العليا لتصل إلى 24%مقابل 23.5% خلال الثلاثي الأول لسنة 2025.
وعن إمكانية أن تكون الخيارات الجديدة التي اتخذتها تونس مثل الشركات الأهلية وغيرها قد بدأت تحقق نتائج فعلية على أرض الواقع، يشير الرحيلي إلى أن "هذه الشركات تمثل ثقلًا على ميزانية الدولة التي توفر إلى أعضائها الخمسة شهريًا منحة بـ800 دينار"، في المقابل يشير إلى "عددًا من الشركات تغلق أبوابها مثلما حدث في شركة نسيج بزغوان نتيجة تنقيح قانون الشغل"، وفق تعبيره.
وأغلق معمل لصناعة النسيج بزغوان في وقت سابق، بدعوى غياب مردودية اقتصادية للمؤسسة دون وجود رابط معلن بين قرار الإغلاق والإجراءات الجديدة المتعلقة بتنقيح مجلة الشغل.
حسين الرحيلي (مختص في التنمية) لـ"الترا تونس": هناك توظيف سياسي للمؤسسات والأرقام لا تعكس الحقيقة الموضوعية التي يشعر بها كل مواطن.. ومفهوم الدولة الاجتماعية يظل شعارًا فقط، على الأقل في المرحلة الحالية
وحول أهمية هذه الإصلاحات يقول الرحيلي إنها "ليست كذلك، فلا جدوى من صياغة عقد تمنح فيه العامل أجرة بـ400 دينار، والحال أن الشركة التي تفلس ستطرد العاملين فيها، معتبرًا أن العلاقات الشغلية والتحولات الهيكلية في سوق الشغل في العالم منذ بداية القرن 21 تغيرت تمامًا، وأصبحت تبحث عن توفير الشغل اللائق والقار والأجر المجزي في حين أن ما أتى بها تنقيح قانون الشغل هو مجرد شعارات فقط".
اقرأ/ي أيضًا: قراءة في تداعيات تنقيح مجلة الشغل في تونس.. هل تحققت الأهداف؟
وعن إمكانية أن توفر نسبة نمو الاقتصاد، مجالات أكبر لتحقيق شعار حكومة قيس سعيّد في تحقيق التنمية الاقتصادية يقول الرحيلي إن "تعريف الدولة اجتماعية يقتضي أن تنفق أكثر من 30%من ناتجها الداخلي الخام على الصحة والتعليم والنقل والتغطية الاجتماعية والتغطية الصحية والتقاعد وغيرها، في حين أن الحكومة تواجه مشكل توفير أجور أعوانها وهناك مدارس في قلب المدن الكبرى لا تحتوي على ماء صالح للشرب ومعلمون لم يباشروا عملهم، فكلمة دولة اجتماعية هو شعار غير مفهوم"، حسب تعبيره.
ويصدر لحسين الرحيلي قريبًا كتاب بعنوان "الدولة الاجتماعية، هل يمكن تحقيقها في تونس؟"، يلخصه في تصريحه لـ"الترا تونس" بقوله: "لا يمكن لدولة نسبة مديونيتها 83% وناتجها الداخلي ضعيف بالمقارنة مع دول تشبهها في عدد السكان، وماليتها العمومية في عجز وصناديقها الاجتماعية مهددة بالإفلاس أن تحقق الدولة الاجتماعية، لذلك يظل المفهوم شعارًا فقط، على الأقل في المرحلة الحالية"، وفق تعبيره.

الكلمات المفتاحية

في ظل ارتفاع أسعار المحروقات.. الطاقات المتجددة معبر آمن نحو السيادة الطاقية
عديد الخبراء في مجال الطاقة في تونس ينادون منذ سنوات بالتوجه نحو الطاقات المتجددة كخيار أمثل للتقليص من العجز التجاري لقطاع الطاقة الذي بلغ 5.21 مليار دينار (1.86 مليار دولار) سنة 2021 أي 32.2 بالمائة من العجز التجاري.

تأخر صرف أجور القطاع العام وشبح فقدان مواطن الشغل.. هواجس يومية في تونس
أزمة تأخر صرف الأجور في تونس قد تخفي مخاطر تهدد الاقتصاد التونسي واستمرارية مؤسسات الدولة، مع تحولات اجتماعية قد تنتج "تونسيًا جديدًا عنيفًا" على أمل تحسن الأوضاع ومعالجتها، من مختلف الجوانب، تجنبًا لسيناريو أسوأ. المزيد في هذا التقرير

تونس تحرّر 1700 رهينة جينية من التراب الأسترالي!
في هذا العالم الحيويّ الفريد تتركّز معاني الأصالة والتحرّر والثقة والاكتفاء والأمان، فإنقاذ عيّنةٍ من الجينات النباتية أو الحيوانية ذات القيمة الغذائيّة أو الجماليّة أو البيئيّة يعدّ حدثًا وطنيًّا.

فضيحة النفايات بميناء سوسة التجاري: تونس من "مطمور روما" إلى "مزبلة إيطاليا"
فضيحة جديدة تهز الرأي العام التونسي انطلاقًا من الميناء التجاري بسوسة الذي أضحى مسرحًا لجرائم تجارية وضعف رقابي حسب الملاحظين، فبعد قضية ما يسمى بتوريد القمح الفاسد السنة الفارطة لفائدة شركة خاصة تثار اليوم قضية "توريد نفايات منزلية مجمعة" محظورة.

60 شركة دخلت طور النشاط الفعلي.. إطلاق منصة رقمية خاصة بالشركات الأهلية
وزارة التشغيل والتكوين المهني، أطلقت السجل الوطني للشركات الأهلية، وقدّمته على أنه فضاء رقمي جديد خاص بإحداث هذا الصنف من الشركات، يتيح تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليص آجال التسجيل

نقابي لـ"الترا تونس": أعوان شركة البيئة بتطاوين يحتجون للمطالبة بصرف الأجور وتفعيل الاتفاقيات
نفذ أعوان وإطارات شركة البيئة والغراسة والبستنة بتطاوين اليوم، الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 وقفة احتجاجية انطلقت من مقر الاتحاد الجهوي للشغل بتطاوين باتجاه مركز الولاية، للمطالبة بصرف الأجور في آجالها وتفعيل جميع الاتفاقات السابقة، حسب ما أفاد به الكاتب العام المساعد للنقابة الأساسية للشركة، مبارك السياري

هيئة السجون: لا صحة لقيام بعض المساجين بإضراب عن الطعام
الهيئة العامة للسجون والإصلاح: الوضعيات الصحية لكل المساجين ولكل من ادّعى إضرابه عن الطعام هي وضعيات محل متابعة صحية مستمرة وفقًا للتراتيب والبروتوكول الصحي الجاري به العمل

حقوقي لـ"الترا تونس": "التحقيق مع مشجعين للنادي البنزرتي بسبب لافتة مساندة لأهالي قابس"
أفاد الكاتب العام لفرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ببنزرت، حسام الدين خليفة، يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 2025، بأنّ الوحدات الأمنية استدعت مساء السبت نحو خمسة من جماهير النادي الرياضي البنزرتي للتحقيق، وذلك على خلفية رفعهم لافتات خلال المباراة الأخيرة لفريقهم، عبّرت عن مساندتهم لأهالي قابس في تحركاتهم ضدّ التلوث البيئي
